أدنى نمو في تاريخ الولايات المتحدة.. والخبراء لا يرون حلولاً في الأفق

في تلك الأيام الخوالي، عندما كان مسلسل «Gunsmoke» (دخان البندقية)، وهو من مسلسلات «الويتسرن» الأميركية التي شهدت رواجًا بالغًا في عقد الخمسينات من القرن الماضي، يعرض على شاشات التلفاز وكان ليندون جونسون هو رئيس البلاد، تمكن اقتصاد الولايات المتحدة من تحقيق معدل للنمو بنسبة 5 في المائة سنويًا لما يقرب من عشر سنوات متتالية. فما الذي يمكننا فعله لاستعادة بعض من هذه القوة الاقتصادية الماضية!
خلال عهد الرئيس رونالد ريغان، بعد عقدين من الفترة المذكورة أولا، كان ارتفاع الدورة الاقتصادية، والذي نشأ عما كان معروفًا وقتئذ بأسوأ ركود تشهده البلاد في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يبلغ متوسطًا يزيد قليلا على 4 في المائة في العام. وفي الوقت الذي شغل فيه جورج دبليو بوش منصب الرئيس في البيت الأبيض، كان الانتعاش المحقق من الركود قد بلغ بمعدل النمو مستوى أدنى من 3 في المائة في العام.
أيريد أحدنا أن يعرف المستوى الذي بلغناه الآن؟ خلال السنوات السبع التالية على تجاوز الولايات المتحدة لمرحلة الكساد العظيم تحت حكم الرئيس باراك أوباما، بلغ متوسط النمو الاقتصادي السنوي حد 2 في المائة في العام فحسب.
ما الأنباء السيئة في ذلك؟ حسنًا، إن لم تتحرك الحكومة ورجال الأعمال لفعل أي شيء بغية تحسين القدرات الاقتصادية الأساسية، فسوف تكون الولايات المتحدة أسعد حظًا إن حققت أدنى معدلات النمو المتوقعة عبر أية فترة ممتدة من الزمن.
أخبرني السيد لورانس إتش سومرز، الذي شغل منصب وزير الخزانة سابقًا وكان كبير مستشاري الاقتصاد للرئيس أوباما، قائلا: «إن النمو الذي يشهده اقتصاد البلاد الآن ناتج عن رياح معاكسة ودورية مؤلمة».
ولكن تلك الرياح المعاكسة الدورية - والمعززة من خلال إعادة تشغيل بعض من الموارد الاقتصادية الخاملة، والتي هبطت بمعدل البطالة إلى مستوى 55 في المائة من واقع 10 في المائة فيما سبق - قد انقضى أثرها تمامًا. ولن يتحرك معدل البطالة أدنى من 5 في المائة نحو الحد الصفري - وهو أقرب ما يكون إلى ما يصفه خبراء الاقتصاد بالعمالة الكاملة من دون التضخم المفرط.
وما تبقى لدينا ليس إلا الاقتصاد الذي يعمل تحت رحمة زوج من الديناميكيات القوية. وأولها هو التقلص التدريجي للقوى العاملة بوصفها شريحة معتبرة من إجمالي عدد السكان، والتي تشهد ضغطًا مطردًا من موجات متتالية للمتقاعدين من فترة طفرة المواليد الأميركية، والتي لم تعد تستفيد من الدفعة القوية التي شهدتها سوق العمل إثر دخول النساء مجال القوى العاملة المأجورة خلال القرن العشرين. والديناميكية الثانية هي الهبوط المستمر في نمو الإنتاجية على مدى الاثنا عشر عاما الماضية.
ولقد لخص لاكشمان أشوثان، من معهد أبحاث الدورة الاقتصادية، الأمر إذ قال: «خلال السنوات الخمس القادمة، من شأن نمو القوى العاملة بنصف نقطة مئوية مع نمو معدل الإنتاجية بنصف نقطة مئوية أن يسبب دفعة جيدة لاقتصاد البلاد بوتيرة ضعيفة لا تجاوز نقطة مئوية واحدة في العام!
حتى أيسر التوقعات الصادرة عن مكتب الميزانية في الكونغرس والتي تتنبأ بتحقيق نمو اقتصادي بواقع نقطتين مئويتين فقط خلال السنوات العشر المقبلة تعد من التوقعات المفرطة في التفاؤل بشكل كبير، كما يقول السيد اشوثان، استنادًا إلى المضاعفة الثلاثية لمعدل الإنتاجية من واقع المتوسط المتحقق خلال السنوات الخمس الماضية.
* الفيدرالي ودوره
تمكن بنك الاحتياطي الفيدرالي من إدارة خروج التعافي الاقتصادي من براثن الركود، ولكن ليس أمام بنك الاحتياطي الفيدرالي الكثير ليفعله من أجل تغيير الآفاق الاقتصادية الأساسية. وقال السيد آشوثان مضيفًا: «لا تستطيع السياسة النقدية التعامل مع المشكلات الهيكلية. والاختبار الحقيقي لأية سياسة يكمن في التأثير الذي تضفيه تلك السياسة على تحسين معدل الإنتاجية أو النمو الديموغرافي».
إن نظرة الركود الأميركية الحالية من الأهمية بمكان؛ فالديون هي من أضخم وأثقل الأعباء على الاقتصادات بطيئة النمو. وأصبحت معاشات التقاعد للأعداد المتزايدة من المتقاعدين أكثر التكاليف المالية الحالية. وأصبحت طريقة تقسيم الكعكة من المشكلات السياسية العسيرة في الاقتصادات التي لا تشهد نموًا بالأساس.
ذلك الركود، والذي تفاقم إثر حقيقة مفادها أن أغلب مكاسب الدخل التي تمكن الاقتصاد من تحقيقها قد ذهبت إلى الشريحة العليا، مما يؤكد على مستويات الغضب الكامنة التي تسري بين جموع الجماهير في العام الانتخابي الحالي.
والنمو المحض، من تلقاء نفسه، ليس مفيدًا أو كافيًا بحال. ولكن من دون نسبة نمو معتبرة، ومقترنة بسياسات حصيفة للمحافظة على أدنى مستوى من معدلات البطالة، فهناك احتمالات ضئيلة لتحسين إجمالي ثروات أصحاب الدخول المتدنية.
وفي حين أن المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب يستغل ذلك الغضب أيما استغلال، فإن حزمة مقترحاته الأخيرة - من حيث ترحيل نسبة كبيرة من القوة العاملة خارج البلاد، والإعلان عن تخفيضات ضريبية تقدر بتريليونات الدولارات، أغلبها لصالح الأثرياء، والتي من شأنها أن تزيد فجوة عدم المساواة داخل المجتمع، ووقف التعاملات التجارية مع أغلب دول العالم، قد تؤدي إلى رفع الحد الأدنى من الأجور، وربما لا - وتلك المقترحات لن تحقق شيئا لتعزيز النمو الاقتصادي المنشود. ولكن لا داعي للقلق، فسوف تكون أميركا أمة عظيمة من دون شك!
أما هيلاري كلينتون، المرشحة الديمقراطية للمنصب ذاته، والتي وضعت منطلقا متماسكا يركز على زيادة الدخول وتحسين الأمن الاقتصادي للأسر من الطبقة المتوسطة، فقد ابتعدت تمامًا عن تناول الخطر القائم والداهم للنمو المنخفض عبر العقود المقبلة. وبدلا من ذلك، تعهدت السيدة كلينتون بتعيين زوجها، الذي كان رئيسًا للبلاد في فترة ازدهار النمو الاقتصادي في التسعينات، على رأس السياسة الاقتصادية للبلاد.
* ما الذي ينبغي فعله؟
لا ينبغي على الناخبين السماح للمرشحين الرئاسيين بالمراوغة عن إجابة الأسئلة الصعبة: ما الذي يمكن أو ينبغي فعله لتحسين مقدرة الاقتصاد على النمو؟ وهل من شأن الركود طويل الأجل أن يكون ذا تأثير مباشر على سياسة البلاد؟
وعلى أدنى تقدير ممكن، فإن التوقعات القاتمة تدعو الحكومة إلى الاستعداد لمواجهة جولة أخرى من التحفيزات المالية.. حيث إن التعافي الاقتصادي قد مرت عليه حتى الآن سبعة أعوام كاملة. ومع أسعار الفائدة التي تقارب الحد الصفري، فلن يكون هناك متسع أمام بنك الاحتياطي الفيدرالي للحيلولة دون شهود ارتفاع جديد في معدلات البطالة إذا ما استمر تعثر الاقتصاد على نحوه الحالي.
ويقول آلان إس. بليندر، نائب الرئيس الأسبق لبنك الاحتياطي الفيدرالي، والذي يشغل الآن منصب البروفسور في جامعة برينستون: «إن كان هناك هبوط دوري خلال العام المقبل أو الشهور القليلة القادمة، فلن يكون هناك شيء يمكن فعله لتجاوزه». ولقد خرج السيد بليندر بمجموعة حذرة من المقترحات بغية تجديد أدوات السياسة المالية في حالة أن الاقتصاد واجه المزيد من العثرات وثارت الحاجة الماسة إلى المحفزات المالية السريعة.
وكتب السيد بليندر قائلا: «يتعلم الطلاب في مادة مبادئ الاقتصاد أن تخفيض الضرائب و(أو) المستويات المرتفعة من الإنفاق الحكومي، يمكنها التخفيف من الحالات الركود من خلال زيادة الطلب الكلي.. ولكن مثل هذا الطرح الكينزي المبسط لا ينبغي أن يجاوز مرحلة المناقشات الأكاديمية في الوقت الراهن؛ مثالا بالانتقاء الطبيعي لداروين أو ظاهرة الاحتباس الحراري».
ولكن الكثير من السياسيين الجمهوريين يرفضون فعلا تلك الأفكار الثلاثة برمتها. وطالما أن الحزب الجمهوري لا يزال يحكم قبضته على الكونغرس، فسوف تكون لذلك الحزب اليد العليا على مقاليد الإنفاق الحكومي في البلاد. وبالتالي يصبح المدى الطويل أكثر إثارة للتحديات.
وبعض من الخبراء، مثل جون جي. فيرنولد، وهو الباحث البارز لدى بنك الاحتياطي الفيدرالي فرع سان فرانسيسكو، يشترك في تلك الرؤية مع مكتب الميزانية بالكونغرس حول أن الإنتاجية سوف تشهد ارتفاعا بواقع 1.5 نقطة مئوية في العام على الأكثر، أي ما يشكل عودة إلى وتيرتها المحققة منذ فترة السبعينات. ومن شأن ذلك أن يعني نموا بواقع نقطتين مئويتين في العام.
فهل ذلك هو أفضل ما في جعبة الولايات المتحدة؟ ليس بالضرورة.
* أين تكمن المشكلة؟
فقد شهدت الإنتاجية تباطؤا كبيرا بسبب ارتفاع معدلات التوظيف بأسرع من الاستثمار المالي. مما يعني أن كل عامل جديد ليس أقل من حيث المهارة فحسب، بل هناك القليل من رأس المال الذي يعمل به، ومساعدات أقل من الأجهزة والآليات أو البرمجيات التي تساعد في الإنتاج وتوليد الدخل. والسبيل الوحيد لزيادة الإنتاجية هو توفير الحوافز لاستثمار رؤوس الأموال، وقد يتم ذلك عن طريق إصلاح ضرائب الشركات والأعمال التي تدفع بالشركات إلى إعادة الأموال التي يحتفظون بها في الخارج.
ومن شأن تخفيف القيود على المهاجرين المتعلمين أن يؤدي إلى زيادة ريادة الأعمال والاستثمارات. وقد يؤدي دعم رعاية الأطفال إلى تشجيع المزيد من الأمهات على العودة السريعة إلى القوة العاملة. ومن شأن إلغاء اللوائح والتنظيمات المرهقة - مثالا بالتراخيص المهنية التي تقيد من الأهلية المطلوبة للحصول على مجموعة متنوعة من الوظائف، وقوانين المناطق السكنية المتشددة والتي نحظر بناء المنازل الجديدة - أن تحسن من الكفاءة الاقتصادية والمساواة.
ومن شأن التدريب الأكثر تركيزًا كذلك أن يعزز وبشكل كبير من رأس المال البشري للقوة العاملة. والاستثمارات العامة لتجديد البنية التحتية المتداعية في البلاد لن تؤدي إلى إنتاج المزيد من فرص العمل فحسب بالنسبة لعمال المعمار العاطلين، بل سوف تسبب دفعة كبيرة في الإنتاجية كذلك.
ما مقدار الأموال التي يمكن أن نحصلها من وراء ذلك؟ يقول السيد سومرز إن السياسات الحصيفة يمكنها أن تضيف نموًا بواقع نصف نقطة إلى نقطة مئوية كاملة. كما أنه يأمل في أن الاستثمارات الكبيرة في مجال التكنولوجيات المتقدمة، التي لم تظهر فوائدها الإنتاجية الكبيرة بعد، أن تدلي بدلوها في ذلك الأمر.
ولكن في ظل وجود أفضل النيات، كما يحذر دوغلاس دبليو إيلمندورف، الرئيس الأسبق لمكتب الميزانية في الكونغرس والعميد الحالي لكلية كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد: «لن نعود أبدًا إلى مستوى النمو بواقع 3 نقاط مئوية، وفقًا لأي شيء نعرف كيف نفعله الآن».
* خدمة «نيويورك تايمز»