«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

قراءة في استراتيجيتي الحزبين المغربي والتونسي

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
TT

«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)
مناصرون لحركة النهضة التونسية يتلحفون علمها والعلم الوطني في أثناء انعقاد مؤتمرها الشهر الماضي (أ . ف. ب)

يتساءل كثيرون من المراقبين والمختصين في التنظيمات الإسلامية عن خصوصية حزب «العدالة والتنمية» المغربي، و«حركة النهضة» التونسية، ومساهمتهما الحاسمة في ضمان استقرار بلديهما؛ وسط محيط إقليمي مضطرب، ينتشر فيه الإرهاب والمواجهات المسلحة عوض الاحتكام لصناديق الاقتراع ومنهج التداول السلمي للسلطة. غير أن المراجع لأدبيات وسلوك التنظيمين المغاربيين سرعان ما يفهم طبيعة سلوكهما السياسي الحالي، الذي جاء بعد ثورة بتونس جعلت من النهضة تنظيما شرعيا، وفي الوقت نفسه قائدة لحكومة ائتلافية، وطرفا مركزيا في الحكومة الحالية. أما في المغرب، حيث النظام السياسي ملكي تنفيذي، فقد أدى حراك 20 فبراير (شباط) 2011 إلى وصول «العدالة والتنمية» إلى قيادة الحكومة المغربية، بالتحالف مع ثلاثة أحزاب.
تعود أصول حزب «العدالة والتنمية» المغربي للحركة الوطنية المغربية؛ إذ أسس سنة 1967 باسم حزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية». ويعد الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس الحزب، من أبرز قياديي المقاومة وجيش التحرير المغربي، وكانت له صلات وثيقة بالعائلة الملكية؛ وكان وراء اقتراح تنصيص الدستور المغربي على كون «الملك أميرا للمؤمنين». ولقد تمتع الرجل بعلاقة واسعة مع قادة التحرير في أفريقيا والعالم العربي. وعرف عن الخطيب توجهه الإسلامي المعتدل، ودفاعه عن المرجعية الإسلامية. ولقد اختارت حركة «التوحيد والإصلاح» الالتحاق بحزبه سنة 1996. وسرعان ما غير أعضاؤها اسم الحزب في 1999 إلى «العدالة والتنمية»، وفي عام 2004 أصبح الدكتور سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة. وبعده انتخب عبد الإله بنكيران أمينا عاما جديدا، وهو يجمع حاليا بين رئاسة الحزب ذي المرجعية الإسلامية، وكونه رئيسا للحكومة بالمغرب.
وعلى عكس الاستقلالية التامة لحزب «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح». أسست حركة «الاتجاه الإسلامي» في تونس عام 1969، على منهج الإخوان المسلمين؛ إلا أن علاقتها بالتنظيم العالمي لـ«الإخوان» ظلت متوترة تاريخيا، خاصة أن كلا من عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي كانا يطرحان أفكارا ورؤى مختلفة عن المنظومة الفكرية لتنظيم حسن البنا. وكانت هذه الخصوصية الفكرية وراء طرد حركة «النهضة» من التنظيم العالمي (هذا ما صرح لنا به عبد الفتاح مورو في زيارته الأخيرة للمغرب عام 2014 في لقاء خاص به)، وذلك بداية تسعينات القرن العشرين (1991). ورغم أن بعض قيادات «النهضة» حضرت بعض الأنشطة التي كان وراءها التنظيم العالمي، فإن ذلك لا يعني أن «النهضة» جزء منه.
ولقد سعت حركة «النهضة» منذ عام 1987 للتحول لحزب سياسي شرعي يعمل في ظل الدستور والقانون القائم بتونس، وتقدمت مرتين لتأسيس حزب في هذا الإطار، غير أن وزارة الداخلية رفضت الطلبين معا. ولم يتم الاعتراف بالحركة بصفتها حزبا سياسيا إلا بعد الثورة حين رخصت له حكومة محمد الغنوشي الثانية يوم 1 مارس (آذار) 2011؛ وشارك في الانتخابات ليحتل المرتبة الأولى ويشكل حكومة مع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، وهو من يسار الوسط و«التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، كما أنه يشارك اليوم مع حزب «نداء تونس»، الذي يعتبر من «الحرس القديم».
على خلاف «النهضة» التي تعرضت لتضييق ومواجهة شاملة قبل الثورة، استفاد حزب «العدالة والتنمية» جزئيا من بداية الانفتاح السياسي في المغرب منذ عام 1992. ففي ذلك العام طرح الملك بالمغرب دستورا ممنوحا، لكنه منح الوزير الأول بعض السلطات، وكذلك في العام نفسه صوتت حركة «الإصلاح والتجديد» (التي ستشكل عام 1996 رفقة «رابطة المستقبل الإسلامي» حركة «التوحيد والإصلاح») على هذا الدستور بنعم؛ مما اعتبر رسالة سياسية للملكية، مفادها استعداد الإسلاميين الإصلاحيين للعمل في ظل الدستور غير الديمقراطي، خاصة أن إسلاميي «العدالة والتنمية» لم يشككوا ولم ينازعوا الملكية شرعيتها. كما أن هذه الأخيرة لم تواجه الإسلاميين تاريخيا بشكل قمعي مبالغ فيه، كما هو الحال بتونس التي تبنت زمن الرئيس بن علي الذي اعتمد سياسة استئصالية للتيار الإسلامي عموما، وحركة «النهضة» خاصة.
تزامن هذا الانفتاح السياسي في المغرب مع سياسة دينية جديدة؛ إذ عمدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تنظيم مظاهرة دينية فكرية عالمية سميت «مؤتمر الصحوة الإسلامية»، وشارك فيها زعماء إسلاميون بارزون، منهم راشد الغنوشي. وساهم هذا الانفتاح للنظام السياسي المغربي على حركة «النهضة» في تمتين العلاقات بين الإسلاميين المغاربة والتونسيين، خاصة أن قيادات القطاع الطلابي لـ«النهضة» هربت من بلادهم بداية التسعينات للمغرب، ولقيت دعما من إسلامييه بزعامة بنكيران. ومن القيادات البارزة لـ«النهضة» التي استقرت في المغرب المفكران «النهضويان» التونسيان عبد المجيد النجار وحسن بن حسن المتخصص في الفلسفة الغربية الحديثة.
وظلت العلاقات بين التنظيمين المغاربيين كبيرة، وعقدت بينهما لقاءات كثيرة ومتعددة، في الوقت الذي كان حزب «العدالة والتنمية» المغربي في المعارضة، و«النهضة» التونسية في المنفى. كذلك استمر التواصل المكثف بعد ثورة 2011، حين أصبحت الزيارات التي تقوم بها قيادات التنظيمين متعددة في السنة الواحدة. ومن أبرز ما أسفر عنه هذا التواصل في السنوات الأربع الماضية، توجه «النهضة» الجديد للفصل بين المجال الدعوي والسياسي؛ فقد ركزت اللقاءات بين التنظيمين على هذه المسألة منذ 2012، واستقبلت حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية قيادات عدة لـ«النهضة» بقصد الاطلاع على التجربة المغربية للتمييز بين المجالين الدعوي والسياسي. فإسلاميو المغرب بدأوا هذا المسلسل منذ 1998، فيما سمي بسياسة «التمييز بين الدعوي والسياسي» التي أدرجتها حركة «التوحيد والإصلاح» في مخططها الاستراتيجي للتخصصات. ويقول مرجع سابق في الحركة، إن هذا التوجه «ترجمة عملية لرغبة الحركة في الانتقال من تنظيم جامع بديل متعدد الوظائف، إلى حركة رسالية فاعلة ومنفتحة عليه وعلى طاقاته»، وهكذا تفرع عن التنظيم فصل العمل السياسي والنقابي، والجمعوي عن الحركة الأم.
وفي هذا الإطار استدعت حركة «النهضة» عام 2015 رئيس حركة «التوحيد والإصلاح» عبد الرحيم الشيخي والأستاذ محمد يتيم، وهو من أبرز منظري «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح»، لتقديم ورقة حول الفصل بين الدعوي والسياسي أمام أعضاء مجلس شورى حركة «النهضة» في تونس العاصمة. وعلى ما يبدو فإن التلاقي الفكري بين التنظيمين لم يقرب بينهما فقط، بل جعل موقفيهما تجاه التيارات المتطرفة العنيفة متطابقا؛ فقد رفض التنظيمان استعمال العنف والتكفير الديني، ودخلا في مواجهة معه دعوية وسياسية في مرحلة المعارضة، وفي زمن المشاركة في السلطة. كذلك اتخذ التنظيمان في مناسبات متواترة مواقف وسلوكيات جريئة ضد الفكر الإرهابي، والتنظيمات العلمانية المتطرفة. الشيء الذي جر على كل من «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» سخط التطرف الديني واللاديني؛ إذ يعتبر الأول تبنيهما للمرجعية الإسلامية والتدين المعتدل والقبول بالديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية كفرا بالشريعة. وفي المقابل، يعتبر الخصوم العَلمانيون التنظيمين وجها آخر لـ«داعش» و«القاعدة»، وأن قبولهما بالديمقراطية مجرد نفاق سياسي مرحلي.
وفي الوقت الذي يؤكد «العدالة والتنمية»، وكذلك حركة «النهضة» أنهما حزبان بمرجعية إسلامية، وأنهما تنظيمان إصلاحيان ديمقراطيان يؤمنان بالتداول والمواطنة والتشاركية في السلطة، من دون إقصاء أي تيار سياسي، جاء سلوكهما السياسي أقرب لأدبياتهما منه لمزاعم خصومهما الإيديولوجيين. فقد شكل حزب «العدالة والتنمية» الحكومة المغربية عام 2011 بالتحالف مع الحزب الشيوعي المغربي سابقا، أي حزب «التقدم والاشتراكية»، ومنحه مناصب وزارية تفوق حجمه داخل البرلمان؛ كما تحالف مع حزب الاستقلال في الحكومة الأولى، وعوّضه في التعديل الحكومي لعام 2012 بحزب التجمع الوطني للأحرار (يمين ليبرالي)، كما بقي متحالفا مع حزب الحركة الشعبية ذي الميول الأمازيغية.
أما حزب حركة «النهضة» فقد أعلن قبل الانتخابات الأولى والثانية 2014، أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية وأنه سيشكل حكومة مع الأحزاب التي تريد التحالف معه كيفما كان اتجاهها الإيديولوجي. وعلى عكس بعض التوقعات لم يظهر الحزبان أي نزوع للهيمنة، ولم ينجرّ «العدالة والتنمية» وحركة النهضة للمعارك الدينية الهوياتية، كما أنهما اعتبرا التدين مسألة حرية شخصية لا يحق للدولة منعها أو فرضها على المواطنين؛ وهو ما أظهر الحزبين بمظهر ليبرالي إسلامي، خصوصا، بعد التحول السريع لخطاب الحزبين وتركيزه على المسائل الاقتصادية التنموية ومعالجة المعضلات الاجتماعية مثل البطالة في صفوف الشباب.
من جانب آخر، تفادى الحزبان الإسلاميان المغربي والتونسي أي صدام مع مؤسسات ما يطلق عليه «الدولة العميقة»؛ ضمانا للسير العادي لمؤسسات الدولة. فـ«العدالة والتنمية» لم ينافس المؤسسات السياسية مثل الملكية، والأجهزة الأمنية والعسكرية في المغرب. وهو الاختيار نفسه الذي نهجته «النهضة» التونسية، حيث قررت عدم الترشح لرئاسة الجمهورية، بل ساندت منصف المرزوقي في أول انتخابات بعد الثورة، ومن ثم اختارت عدم دعم أي من المرشحين لقيادة البلاد في الانتخابات التي أفرزت فوز الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. ومن جهة ثانية، ساندت «النهضة» بحزم الأجهزة الأمنية والجيش ضد التنظيمات الإرهابية، بل وكانت ضد قانون العزل السياسي الموجه ضد رموز نظام زين العابدين بن علي. ثم إن «النهضة» اليوم لا تعارض رجوع أي مواطن تونسي لبلده، بما فيه الرئيس السابق، وتدعو لتمكينه وأسرته من جواز السفر التونسي.
إن المتتبع للممارسة السياسية لكل من «العدالة والتنمية» المغربي وحركة «النهضة» التونسية سيلاحظ الذهنية المشتركة للفصيلين الإسلاميين، خاصة فيما يخص التعامل مع بنية الدولة العربية غير الديمقراطية، وكذلك في منهجية التعامل مع المحيط الدولي. ففي مناسبات متعددة كرّر الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قوله: إنني «لم آت لأتصارع مع الملك، وإذا أراد المغاربة رئيس حكومة يتصارع على السلطة مع الملك فليبحثوا عن شخص غيري. أنا أتيت لأتعاون معه على خدمة البلد»؛ وهذه العبارات تلخص معنى شعار حزبه «الإصلاح في ظل الاستقرار»؛ وكون الملك فيه هو الحاكم الفعلي للدولة، وفقا لدستور 2011.
ورغم أن «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» لم يحققا الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المغرب وتونس، فإنهما تمسكا فعلا بمنهج الشراكة الوطنية، ونبذا احتكار السلطة، ومدا اليد لمختلف التيارات السياسية الشرعية، وتحاشيا الاصطدام مع المؤسسات الممسكة بالدولة تاريخيا، وبرز وقوفهما الحازم ضد الفكر والتنظيمات الإرهابية. كل ذلك ساهم بشكل حاسم في الحفاظ على استقرار بلدي الحزبين، كما أدى ذلك إلى توسيع هامش الحريات العامة وتعزيز حقوق الإنسان، في دولتين تبحثان عن بناء دولة ديمقراطية حديثة، وترفضان الانزلاق نحو الحروب الأهلية الدموية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس - الرباط



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».