استئناف الرحلات النيلية الطويلة بين أسوان والقاهرة

السياحة النهرية تتمتع بشعبية كبيرة بين السياح الأجانب

الباخرة {السودان} التي جرى تصوير فيلم «الموت على النيل» فيها لا تزال تعمل
الباخرة {السودان} التي جرى تصوير فيلم «الموت على النيل» فيها لا تزال تعمل
TT

استئناف الرحلات النيلية الطويلة بين أسوان والقاهرة

الباخرة {السودان} التي جرى تصوير فيلم «الموت على النيل» فيها لا تزال تعمل
الباخرة {السودان} التي جرى تصوير فيلم «الموت على النيل» فيها لا تزال تعمل

بعد توقف دام شهورا، جرى مساء أمس (الخميس) استئناف الرحلات النيلية الطويلة بين أسوان والقاهرة، حيث تنطلق من مدينة أسوان بأقصى جنوب البلاد الباخرة «كلاس فيغن» وعلى متنها 36 سائحا ألمانيا في طريقهم إلى القاهرة.
يزور السياح خلال الرحلة السياحية آثار إدفو وكوم أمبو وإسنا والأقصر التي تصل لها الباخرة غدا (السبت)، لتستكمل رحلتها إلى آثار قنا وسوهاج وأسيوط والمنيا فالقاهرة.
ووضعت وزارة الداخلية المصرية خطة مشتركة لتأمين الرحلة بمشاركة الإدارة العامة لشرطة السياحة والآثار لقطاع جنوب الصعيد.
وكانت الرحلات النيلية الطويلة بمصر عادت على صفحة النهر الخالد في شهر أغسطس (آب) من عام 2012 لتعود بذلك الحياة في شرايين العديد من محافظات الصعيد التي حرمت من الحركة السياحية قرابة 15 سنة مضت، ثم توقفت لشهور، لتعود مجددا أخيرا.
وتتمتع الرحلات النيلية بين الأقصر وأسوان، بحسب الخبير السياحي المصري ثروت عجمي، بشعبية متزايدة لدى السياح الأجانب.. ففي الأعوام الماضية، بلغ عدد من طلبوا حجز رحلات نيلية في مصر 112 ألفا من جملة 786 ألف سائح من ألمانيا وحدها. ومن المتوقع أن تتزايد هذه الأعداد بصورة كبيرة في المستقبل القريب.
وبحسب دراسة أجرتها رابطة وكالات السفريات والحجز السياحي الألمانية، فإن أعداد الراغبين في القيام برحلات نيلية في مصر من السياح الألمان والأوروبيين ارتفعت بنسبة 300 في المائة.
ويواجه كل من يرغب في إجراء حجز للقيام برحلة نيلية صعوبة في الاختيار، هل يقوم برحلة من الرحلات البسيطة أم من الرحلات التي تتسم بالرفاهية والترف؟ هل يقوم بالرحلة على متن باخرة سياحية تقدم خدمات فندقية فئة خمس نجوم، أم على ظهر مركب خشبي عتيق؟
وتعد الباخرة «السودان» من أقدم البواخر السياحية فوق نهر النيل وهي الأكثر طلبا للقيام برحلات على متنها من قبل هواة الروايات البوليسية. فالباخرة «السودان» تبدو كضرورة لا غنى عنها، فهذه السفينة الخشبية ذات عجلات الدفع الدوارة التي يزيد عمرها على مائة سنة كانت موقع تصوير الفيلم البوليسي الشهير «الموت على النيل» الذي قام ببطولته بيتر أوستينوف وميا فارو وجين بيركين وبيتي ديفيز وديفيد نيفن وأنجيلا لانسبيري.
من ناحية أخرى، فإن القيام برحلة على متن مركب صغير (فلوكة) يوفر نوعا آخر من التجارب، ربما تروق أكثر لهواة المغامرات، حيث يصعب الاستمتاع بسبل الراحة في هذه المراكب الصغيرة التي عادة ما ينام الركاب فيها على سطحها.
وسارعت الأوساط والفعاليات السياحية بصعيد مصر بالمطالبة بضرورة اتخاذ مجموعة من الإجراءات العاجلة لضمان استمرار هذه الرحلات، حيث طالب الخبير السياحي المصري محمد عثمان بالإسراع في توفير الاعتمادات اللازمة لتطهير المجرى الملاحي بين الأقصر وأسوان وتحديد مسار للبواخر السياحية في النيل وتزويده بالشمندورات والعلامات الإرشادية لتفادي حوادث الشحوط المستمر للبواخر بجانب تفادي الاصطدام بالصخور النيلية.
كما طالبت هذه الأوساط بالإسراع في توفير الاعتمادات اللازمة للقضاء على ظاهرة الجزر النيلية المنتشرة بطول مجرى نهر النيل والإسراع في إنشاء مرسى الأقصر الجديد لمواجهة ظاهرة وقوف البواخر والفنادق السياحية العائمة في طوابير بعرض النيل حيث يصطف ما يزيد على 200 باخرة متلاصقة في طوابير تصل إلى 10 بواخر بعرض النيل في مرسى وزارة السياحة بالأقصر، الأمر الذي يهدد بوقوع كارثة محققة في حال اندلاع أي حريق.
وطالب الخبير السياحي محمود إدريس بدراسة إنشاء إدارة شرط خاصة بمكافحة حرائق البواخر والمنشآت السياحية العائمة وتوفير الحماية اللازمة لقطاع السياحة النيلية في مصر ودراسة استخدام الطائرات في تأمين حركة البواخر والفنادق السياحية العائمة بين الأقصر وأسوان تجنبا لأي طارئ وسبل الاستعانة بلنشات إنقاذ نهري ذات أذرع إطفاء هيدروليكية لمكافحة حرائق البواخر السياحية.
وشدد على ضرورة إقامة محطات إطفاء ونقاط إنقاذ بطول خط سير البواخر السياحية بين الأقصر وأسوان، مطالبا بأن تتحمل الشركات المالكة للبواخر واتحاد الغرف السياحية وصندوق التنمية السياحية بوزارة السياحة نفقات إقامة هذه المحطات والنقاط وتفعيل دور أجهزة الدفاع المدني في تدريب أطقم العمال بالمنشآت السياحية على أعمال الإنقاذ ومكافحة الحرائق بشكل فعلي.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)