المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

عمل صحافيًا في شبابه والتحق بالحركة الناصرية وتعرض للاعتقال والملاحقة

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب
TT

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

لأكثر من 30 يوما، فشل الفريق الانقلابي المشارك في المشاورات اليمنية التي تستضيفها الكويت، التي ترعاها الأمم المتحدة، من اختراق جدول أعمالها على الرغم مما صاحب جلساتها من ضغوط دولية أوروبية وأميركية. إذ نجح عبد الملك المخلافي، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس الوفد الحكومي اليمني، في قيادة فريقه خلال جميع الجلسات ورمى الكرة في ملعب الانقلابيين الذين كشفوا عن تراجعهم عن التزامهم بما اتفقوا عليه مع المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد، وحدد في خمسة محاور رئيسية للمشاورات على رأسها تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم «2216». وحسب كثرة من المراقبين جاء اختيار المخلافي (57 سنة) لترؤس الوفد الحكومي اختيارا موفقا، ومكنته خبرته العريضة والعميقة في المضمار السياسي من تكوين مقاربات حصيفة تنم عن إلمامه بكل التفاصيل وأدق التشعبات، وأسهمت فعلا في فضح مراوغات الانقلابيين أمام المجتمع الدولي.
عين عبد الملك المخلافي نائبا لرئيس الحكومة وزيرا للخارجية في اليمن خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) 2015، خلفا للوزير السابق الدكتور رياض ياسين. وكان لتعيين هذا السياسي المخضرم أثر كبير في تحريك المياه الراكدة في أروقة الحكومة. وحسب الصحافي عبد الله عبد الغني «جاء تعيين المخلافي على رأس وفد الشرعية ضربة معلم وخطوة موفقة للرئيس عبد ربه منصور هادي، باعتبار أن الرجل كان أقوى الشخصيات حضورا على طاولة الحوار، بدأ على دراية لافتة بدهاليز السياسة اليمنية سابقا وحاضرا».
وحقا، لعل من أهم المميزات التي اكتسبها المخلافي في حياته السياسية القدرة على الإقناع والتفاوض والتحاور. ولقد نجح في ذلك إبان مشاورات الكويت، خاصة إذا ما علمنا أن فريق الانقلابيين والمتمردين ممثل بشخصيات متناقضة لكنها تتقن التلاعب والمراوغة.
بداية صحافية
بدأ المخلافي العمل السياسي وهو يافع التحق بالعمل الصحافي في صحيفة «الجمهورية» الحكومية، وفي حينه انتسب إلى الحركة الناصرية، وسطع نجمه في صفوفها حتى بلغ القمة وتسلم قيادتها. ومن ثم، قاد حزبه الوحدوي الناصري في أصعب المراحل السياسية التي مرت بها اليمن، وهي مرحلة التعددية السياسية عقب عام 1990، التي سبقتها عمليات تصفيات للقادة الناصريين من قبل نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وظلّ المخلافي بعد عام 1993 في صفوف المعارضة متحالفًا مع الحزب الاشتراكي اليمني وغيره من أحزاب التنسيق الأعلى للمعارضة اليمنية. ثم انتسب إلى تكتل أحزاب «اللقاء المشترك» الذي جمع القوميين والإسلاميين واليسار، وشكلت مكوناته أقوى قوة معارضة لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم والمهيمن على مقدرات الدولة. لاحقا، عام 2011 شاركت غالبية قيادات هذه المكونات في الانتفاضة الشبابية التي أسقطت هيمنة المؤتمر الشعبي.
السجين السياسي
تعرض المخلافي للاعتقال غير مرة، وتمكن من الفرار عقب فشل «حركة أكتوبر (تشرين الأول)» عام 1978، واختفى عن الأنظار لبعض الوقت، كما اعتقل في الفترة بين عامي 1984 و1985، وما يستحق الذكر أنه اعتقل يوم زفافه ويوم ولادة ابنه الأول هشام. ولقد تعرض للمطاردة ومحاولات الاغتيال غير مرة ما اضطره إلى مغادرة اليمن إلى سوريا؛ حيث أقام لمدة خمس سنوات (1985 - 1990) متوليا رئاسة لجنة العلاقات الخارجية للتنظيم، كذلك تعرض لمحاولة اغتيال بعد الوحدة.
وعن الانتفاضة الشعبية، أو «ثورة الشباب» عام 2011 .. يقول المخلافي :«نحن اليوم مع شعبنا ضد أي ظلم وأي ظالم ومع كل مظلوم. مع الحرية ضد القيود والاستبداد. ومع الوفاق ضد الانقسام. ومع الوحدة الوطنية ضد التمزيق والتفرد وضد الطائفية والقبلية والمذهبية والمناطقية. مع الديمقراطية ضد الانفراد والشمولية والإقصاء. مع حق الجميع والمختلف معنا قبل المتفق معنا. مع التنوع والشراكة الوطنية ضد التسلط والهيمنة».
وفي مشاورات الكويت، وقبلها في مشاورات سويسرا، برز نجم المخلافي كربَّان محترف لسفينة مفاوضي الشرعية، وظهرت قوة شخصيته في مواقفه خلال جلسات المشاورات، وذلك بعدما تمكن من تشكيل فريق محترف ومتجانس وصلب وقوي، استطاع أن يقدم السلام بقوة الحق والحجة، وأسقط معها أوراق المراوغة التي ظلت فريق الميليشيا الانقلابية يتستر خلفها.
ولقد أوضح المخلافي في آخر مؤتمر صحافي عقده بعد تعليق مشاركة فريقه في المشاورات إثر تراجع وفد المتمردين عن المرجعيات الدولية والإقليمية، الموقف الواضح للحكومة الشرعية، فقال: «خوفنا على وطننا وحرصنا على شعبنا هو الذي يجعلنا نصبر على مشاورات مع جماعة لا تبالي بمصالح الشعب اليمني وكل همها السلطة. نحاول إنقاذ البلاد وهم يريدون تدمير الوطن»، وأردف: «الانقلابيون يريدون شرعنه انقلابهم، ويحاولون الحصول على مكافأة بتشكيل حكومة ثمنا لما سببوه من دمار في البلاد». ثم وصف ما يطرحه فريق الحوثي وصالح في مشاورات الكويت بأن لديهم «قدرة عجيبة في تزييف وقائع ما جرى دون ذكر ما قاموا به. ينكرون الواقع ويخادعون العالم، وكأن اليمنيين هم من اعتدى عليهم».
تدخل إيران
ومن ناحية ثانية، يعتقد المخلافي أن التدخل الإيراني المستمر في الشؤون الداخلية للجمهورية اليمنية محاولة للهيمنة على المنطقة، وأن دعم طهران المستمر للمتمردين ومحاولة استنساخ نموذج ما يسمى «حزب الله» في اليمن «سيكون له أسوأ العواقب على مستوى الوطن اليمني ومحيطه القريب في المنطقة والبعيد على المستوى الدولي».
عن المخلافي قال عبد الله حزام، عضو الفريق المرافق للوفد اليمني إلى الكويت، لـ«الشرق الأوسط» واصفا إياه: «إنه رجل التوافقات والحوار، الذي يحرص على التواصل مع الجميع، ويحب وطنه، ويمتلك مبادئ وقيما إنسانية ثابتة لا يحيد عنها». وتابع: «عندما يتكلم المخلافي على طاولة المشاورات فإن الجميع يصمت ويستمع بإنصات له. لغته واضحة، وحجة قوية»، واستطرد قائلا: «إنه يهتم كل لحظة بمواكبة كل الأحداث السياسية الجارية على الساحة الوطنية والعربية والدولية».
أما المحلل السياسي عبد الله عبد الغني فيرى أن أبرز السمات البارزة في المخلافي أنه «شخصية تتمتع بثقافة سياسية كبيرة».

بطاقة هوية
- ولد عبد الملك عبد الجليل علي المخلافي يوم 19 أغسطس (آب) 1959 في قرية الحصين (المخلاف) بمحافظة تعز.
- درس على يد جده الفقيه علي درمان المخلافي، ودرس المرحلة الابتدائية في قرية الحصين وتعز، والثانوية في تعز كذلك، ثم حصل على درجة الليسانس (الإجازة) في الشريعة والقانون من جامعة صنعاء عام 1984.
- بدأ عام 1978 مسيرته المهنية مع عالم الصحافة، فعمل في ركن الطلاب بصحيفة «الجمهورية»، كما قدم برنامج الطلاب في إذاعة تعز، وانتقل إلى العمل الصحافي التحريري عام 1979.
- انضم مبكرا إلى التنظيم الناصري في يوليو (تموز) 1974 عندما كان تلميذا في المرحلة الإعدادية.
- انتخب عام 1981 عضوا في اللجنة المركزية للتنظيم، وانتخبته اللجنة عضوا في قيادة التنظيم التنفيذية.
- انتخب عام 1982 أمينا عاما للتنظيم الشعبي الوحدوي الناصري، وتركه عام 1984.
- عام 1985 كلف برئاسة لجنة العلاقات الخارجية والسياسية للتنظيم والأمين العام المساعد لجبهة 13 يونيو (حزيران)، وذلك إبان إقامته في العاصمة السورية دمشق.
- بعد الوحدة اليمنية عام 1990، ترأس تحرير جريدة «الوحدوي» بعد عودتها إلى صنعاء.
- وعام 1993 اختير مجددا أمينا عاما للتنظيم الناصري بعد إعلان التعددية الحزبية في اليمن.
- عين عام 1992 عضوا في اللجنة العليا للانتخابات.
- منح عام 1993 درجة وزير، وبعدها بأربع سنوات عين عضوا في مجلس الشورى.
- أعلن من عدن في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1989 بيان إعلان الوجود كأول تنظيم سياسي يعلن عن وجوده ونشاطه علنا في الجنوب والشمال قبيل الوحدة وبعد توقيع اتفاق عدن الوحدوي في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989.
- بين عامي 1990 و1993 تولى عضوية القيادة التنفيذية للتنظيم، كما اختير رئيسا لأمانة التثقيف والتدريب والإعلام.
- بين عامي 1993 و2005 شغل منصب الأمين العام للتنظيم الناصري بعد إعلان التعددية الحزبية في اليمن. وكان أول أمين عام بين الأحزاب اليمنية في عهد التعددية يرفض الترشح للأمانة مجددا؛ إذ اكتفى بعضوية اللجنة المركزية التي ما زال عضوا فيها حتى اليوم.
- عام 1997 عين مستشارا لرئيس الجمهورية لشؤون الانتخابات بناء علي طلب المعارضة واتفاقها مع الحزب الحاكم.
- بين 1995 و1997 شغل عضوية المجلس الاستشاري للدولة المكون آنذاك من 59 عضوا.
- بين 2001 و2015 تولى عضوية مجلس الشورى.
- بين 2004 و2015 شغل منصب رئيس اللجنة السياسية والعلاقات الخارجية والمغتربين في مجلس الشورى.
- عين عام 2014 مستشارا للرئيس عبد ربه منصور هادي.
- عام 2015 عين نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية اعتبارا من الأول ديسمبر (كانون الأول) 2015.



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.