المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

عمل صحافيًا في شبابه والتحق بالحركة الناصرية وتعرض للاعتقال والملاحقة

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب
TT

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

المخلافي.. ربَّان الحوار اليمني الصعب

لأكثر من 30 يوما، فشل الفريق الانقلابي المشارك في المشاورات اليمنية التي تستضيفها الكويت، التي ترعاها الأمم المتحدة، من اختراق جدول أعمالها على الرغم مما صاحب جلساتها من ضغوط دولية أوروبية وأميركية. إذ نجح عبد الملك المخلافي، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية ورئيس الوفد الحكومي اليمني، في قيادة فريقه خلال جميع الجلسات ورمى الكرة في ملعب الانقلابيين الذين كشفوا عن تراجعهم عن التزامهم بما اتفقوا عليه مع المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ أحمد، وحدد في خمسة محاور رئيسية للمشاورات على رأسها تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم «2216». وحسب كثرة من المراقبين جاء اختيار المخلافي (57 سنة) لترؤس الوفد الحكومي اختيارا موفقا، ومكنته خبرته العريضة والعميقة في المضمار السياسي من تكوين مقاربات حصيفة تنم عن إلمامه بكل التفاصيل وأدق التشعبات، وأسهمت فعلا في فضح مراوغات الانقلابيين أمام المجتمع الدولي.
عين عبد الملك المخلافي نائبا لرئيس الحكومة وزيرا للخارجية في اليمن خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) 2015، خلفا للوزير السابق الدكتور رياض ياسين. وكان لتعيين هذا السياسي المخضرم أثر كبير في تحريك المياه الراكدة في أروقة الحكومة. وحسب الصحافي عبد الله عبد الغني «جاء تعيين المخلافي على رأس وفد الشرعية ضربة معلم وخطوة موفقة للرئيس عبد ربه منصور هادي، باعتبار أن الرجل كان أقوى الشخصيات حضورا على طاولة الحوار، بدأ على دراية لافتة بدهاليز السياسة اليمنية سابقا وحاضرا».
وحقا، لعل من أهم المميزات التي اكتسبها المخلافي في حياته السياسية القدرة على الإقناع والتفاوض والتحاور. ولقد نجح في ذلك إبان مشاورات الكويت، خاصة إذا ما علمنا أن فريق الانقلابيين والمتمردين ممثل بشخصيات متناقضة لكنها تتقن التلاعب والمراوغة.
بداية صحافية
بدأ المخلافي العمل السياسي وهو يافع التحق بالعمل الصحافي في صحيفة «الجمهورية» الحكومية، وفي حينه انتسب إلى الحركة الناصرية، وسطع نجمه في صفوفها حتى بلغ القمة وتسلم قيادتها. ومن ثم، قاد حزبه الوحدوي الناصري في أصعب المراحل السياسية التي مرت بها اليمن، وهي مرحلة التعددية السياسية عقب عام 1990، التي سبقتها عمليات تصفيات للقادة الناصريين من قبل نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح. وظلّ المخلافي بعد عام 1993 في صفوف المعارضة متحالفًا مع الحزب الاشتراكي اليمني وغيره من أحزاب التنسيق الأعلى للمعارضة اليمنية. ثم انتسب إلى تكتل أحزاب «اللقاء المشترك» الذي جمع القوميين والإسلاميين واليسار، وشكلت مكوناته أقوى قوة معارضة لحزب المؤتمر الشعبي الحاكم والمهيمن على مقدرات الدولة. لاحقا، عام 2011 شاركت غالبية قيادات هذه المكونات في الانتفاضة الشبابية التي أسقطت هيمنة المؤتمر الشعبي.
السجين السياسي
تعرض المخلافي للاعتقال غير مرة، وتمكن من الفرار عقب فشل «حركة أكتوبر (تشرين الأول)» عام 1978، واختفى عن الأنظار لبعض الوقت، كما اعتقل في الفترة بين عامي 1984 و1985، وما يستحق الذكر أنه اعتقل يوم زفافه ويوم ولادة ابنه الأول هشام. ولقد تعرض للمطاردة ومحاولات الاغتيال غير مرة ما اضطره إلى مغادرة اليمن إلى سوريا؛ حيث أقام لمدة خمس سنوات (1985 - 1990) متوليا رئاسة لجنة العلاقات الخارجية للتنظيم، كذلك تعرض لمحاولة اغتيال بعد الوحدة.
وعن الانتفاضة الشعبية، أو «ثورة الشباب» عام 2011 .. يقول المخلافي :«نحن اليوم مع شعبنا ضد أي ظلم وأي ظالم ومع كل مظلوم. مع الحرية ضد القيود والاستبداد. ومع الوفاق ضد الانقسام. ومع الوحدة الوطنية ضد التمزيق والتفرد وضد الطائفية والقبلية والمذهبية والمناطقية. مع الديمقراطية ضد الانفراد والشمولية والإقصاء. مع حق الجميع والمختلف معنا قبل المتفق معنا. مع التنوع والشراكة الوطنية ضد التسلط والهيمنة».
وفي مشاورات الكويت، وقبلها في مشاورات سويسرا، برز نجم المخلافي كربَّان محترف لسفينة مفاوضي الشرعية، وظهرت قوة شخصيته في مواقفه خلال جلسات المشاورات، وذلك بعدما تمكن من تشكيل فريق محترف ومتجانس وصلب وقوي، استطاع أن يقدم السلام بقوة الحق والحجة، وأسقط معها أوراق المراوغة التي ظلت فريق الميليشيا الانقلابية يتستر خلفها.
ولقد أوضح المخلافي في آخر مؤتمر صحافي عقده بعد تعليق مشاركة فريقه في المشاورات إثر تراجع وفد المتمردين عن المرجعيات الدولية والإقليمية، الموقف الواضح للحكومة الشرعية، فقال: «خوفنا على وطننا وحرصنا على شعبنا هو الذي يجعلنا نصبر على مشاورات مع جماعة لا تبالي بمصالح الشعب اليمني وكل همها السلطة. نحاول إنقاذ البلاد وهم يريدون تدمير الوطن»، وأردف: «الانقلابيون يريدون شرعنه انقلابهم، ويحاولون الحصول على مكافأة بتشكيل حكومة ثمنا لما سببوه من دمار في البلاد». ثم وصف ما يطرحه فريق الحوثي وصالح في مشاورات الكويت بأن لديهم «قدرة عجيبة في تزييف وقائع ما جرى دون ذكر ما قاموا به. ينكرون الواقع ويخادعون العالم، وكأن اليمنيين هم من اعتدى عليهم».
تدخل إيران
ومن ناحية ثانية، يعتقد المخلافي أن التدخل الإيراني المستمر في الشؤون الداخلية للجمهورية اليمنية محاولة للهيمنة على المنطقة، وأن دعم طهران المستمر للمتمردين ومحاولة استنساخ نموذج ما يسمى «حزب الله» في اليمن «سيكون له أسوأ العواقب على مستوى الوطن اليمني ومحيطه القريب في المنطقة والبعيد على المستوى الدولي».
عن المخلافي قال عبد الله حزام، عضو الفريق المرافق للوفد اليمني إلى الكويت، لـ«الشرق الأوسط» واصفا إياه: «إنه رجل التوافقات والحوار، الذي يحرص على التواصل مع الجميع، ويحب وطنه، ويمتلك مبادئ وقيما إنسانية ثابتة لا يحيد عنها». وتابع: «عندما يتكلم المخلافي على طاولة المشاورات فإن الجميع يصمت ويستمع بإنصات له. لغته واضحة، وحجة قوية»، واستطرد قائلا: «إنه يهتم كل لحظة بمواكبة كل الأحداث السياسية الجارية على الساحة الوطنية والعربية والدولية».
أما المحلل السياسي عبد الله عبد الغني فيرى أن أبرز السمات البارزة في المخلافي أنه «شخصية تتمتع بثقافة سياسية كبيرة».

بطاقة هوية
- ولد عبد الملك عبد الجليل علي المخلافي يوم 19 أغسطس (آب) 1959 في قرية الحصين (المخلاف) بمحافظة تعز.
- درس على يد جده الفقيه علي درمان المخلافي، ودرس المرحلة الابتدائية في قرية الحصين وتعز، والثانوية في تعز كذلك، ثم حصل على درجة الليسانس (الإجازة) في الشريعة والقانون من جامعة صنعاء عام 1984.
- بدأ عام 1978 مسيرته المهنية مع عالم الصحافة، فعمل في ركن الطلاب بصحيفة «الجمهورية»، كما قدم برنامج الطلاب في إذاعة تعز، وانتقل إلى العمل الصحافي التحريري عام 1979.
- انضم مبكرا إلى التنظيم الناصري في يوليو (تموز) 1974 عندما كان تلميذا في المرحلة الإعدادية.
- انتخب عام 1981 عضوا في اللجنة المركزية للتنظيم، وانتخبته اللجنة عضوا في قيادة التنظيم التنفيذية.
- انتخب عام 1982 أمينا عاما للتنظيم الشعبي الوحدوي الناصري، وتركه عام 1984.
- عام 1985 كلف برئاسة لجنة العلاقات الخارجية والسياسية للتنظيم والأمين العام المساعد لجبهة 13 يونيو (حزيران)، وذلك إبان إقامته في العاصمة السورية دمشق.
- بعد الوحدة اليمنية عام 1990، ترأس تحرير جريدة «الوحدوي» بعد عودتها إلى صنعاء.
- وعام 1993 اختير مجددا أمينا عاما للتنظيم الناصري بعد إعلان التعددية الحزبية في اليمن.
- عين عام 1992 عضوا في اللجنة العليا للانتخابات.
- منح عام 1993 درجة وزير، وبعدها بأربع سنوات عين عضوا في مجلس الشورى.
- أعلن من عدن في 15 ديسمبر (كانون الأول) 1989 بيان إعلان الوجود كأول تنظيم سياسي يعلن عن وجوده ونشاطه علنا في الجنوب والشمال قبيل الوحدة وبعد توقيع اتفاق عدن الوحدوي في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989.
- بين عامي 1990 و1993 تولى عضوية القيادة التنفيذية للتنظيم، كما اختير رئيسا لأمانة التثقيف والتدريب والإعلام.
- بين عامي 1993 و2005 شغل منصب الأمين العام للتنظيم الناصري بعد إعلان التعددية الحزبية في اليمن. وكان أول أمين عام بين الأحزاب اليمنية في عهد التعددية يرفض الترشح للأمانة مجددا؛ إذ اكتفى بعضوية اللجنة المركزية التي ما زال عضوا فيها حتى اليوم.
- عام 1997 عين مستشارا لرئيس الجمهورية لشؤون الانتخابات بناء علي طلب المعارضة واتفاقها مع الحزب الحاكم.
- بين 1995 و1997 شغل عضوية المجلس الاستشاري للدولة المكون آنذاك من 59 عضوا.
- بين 2001 و2015 تولى عضوية مجلس الشورى.
- بين 2004 و2015 شغل منصب رئيس اللجنة السياسية والعلاقات الخارجية والمغتربين في مجلس الشورى.
- عين عام 2014 مستشارا للرئيس عبد ربه منصور هادي.
- عام 2015 عين نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للخارجية اعتبارا من الأول ديسمبر (كانون الأول) 2015.



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين