الفكر بين الشعبوي والنخبوي

عبارة {البرج العاجي} ظلت تطارد أطروحات المفكرين

الفكر بين الشعبوي والنخبوي
TT

الفكر بين الشعبوي والنخبوي

الفكر بين الشعبوي والنخبوي

هي من المسائل أو الخلافات الأبدية على ما يبدو. دشنتها في الثقافة اليونانية أسطورة بروميثيوس الذي سرق النار فأغضب الآلهة فعاقبته، ذلك أن النار قبس المعرفة التي يجب أن تبقى حكرًا على الآلهة أو النخبة ولم يكن ينبغي أن ينالها البشر. وهي المعضلة التي واجهها الفكر اليوناني بصور مختلفة أشهرها آراء سقراط التي أثرت على فكر العامة وما أثاره ذلك من مخاوف لدى المؤسسة الدينية والسياسية فعاقبته أيضًا بتجريعه السم، فهو بروميثيوس آخر. جمهورية أفلاطون التي سيحكمها الفلاسفة كانت تدشينًا لطوباوية فكرية لم تنفك تغازل أحلام العلماء والمثقفين عامة، المفكرين منهم بشكل خاص منذ الأزل، استمرأها الفارابي في مدينته الفاضلة مدركًا استحالة تحقيقها وموظفًا إياها للتعبير عن آراء في السياسة والدين لم يكن بغيرها قادرًا على توصيل بعض أفكاره التي كان يمكن أن يعاقب عليها. وفي الخطاب الديني يؤكد البعض أن أهل الحل والعقد أو ولاة الأمر هم العلماء، وليس أولئك البعض في واقع الأمر سوى أحد نماذج كثيرة تشير إلى تأكيد النخبة على تفوقها وأحقيتها في السلطة.
في عصرنا الحديث ظلت عبارة البرج العاجي تطارد أطروحات المفكرين حيثما حلوا وأينما كتبوا، يطلقها من يجدون في أطروحات أولئك المفكرين تعاليًا على مشكلاتهم الملحة وانشغالاً بما ليس ذا قيمة أو ما ليس ملحًا من الناحية العملية، ومع أن الوصف ليس دائمًا في غير محله، إنصافًا لمن يطلقه، فإنه كثيرًا ما يعبر عن ضيق بالأطروحات المعمقة والجادة ودفعًا للنتاج الفكري لكي ينشغل بالآني والسهل من القضايا فقط لأنها تمثل احتياجًا قريب المتناول. غير أن ذلك كله يندرج في الجدل القديم المحتدم حول ما إذا كان على الفكر الفلسفي والاجتماعي والنفسي وغيره أن ينزل إلى الشارع وينشغل باليومي والعملي أم أن يبقى منشغلاً بقضايا يراها أعمق وأكثر ديمومة وأبعد أثرًا.
المفكرون المسلمون قديمًا شعروا بهذا المأزق فأفردوا كتبًا يقرأها العامة وأخرى للخاصة سماها بعضهم «المضنون به على غير أهله». في كتاب «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» يلوم ابن رشد الغزالي على أنه أتاح للعامة الاطلاع على كتب ومسائل ليست من شأنهم بل إنها تنطوي على خطورة عليهم لعدم امتلاكهم لأدوات البحث والتفكير فيها وكان مدار الخلاف مسألة التأويل. وقد انطلق ابن رشد في حجاجه من تصنيف الناس في ثلاثة مراتب: الأول الخطابيون وهم ليسوا «من أهل التأويل أصلاً... الذين هم الجمهور الغالب»؛ والثاني «أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون، بالطبع فقط»؛ والثالث هم «أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة». المرتبة الأولى أو الأدنى هم عامة الناس في تعبيرنا اليوم، أما المرتبة الثانية فهي قريبة ممن نسميهم اليوم المثقفين، أي أهل الثقافة العامة دون أن يكونوا مختصين، بينما المرتبة الثالثة الأرفع فهي لمن نسميهم اليوم الفلاسفة أو المفكرين.
لا أحد اليوم في تقديري سيقول هذا الكلام اليوم بالشكل المباشر الذي طرحه ابن رشد (علما بأنه لم يكن يتوقع أن يقرأ ما كتبه عامة الناس لصعوبة وصول الكتب إليهم في ذلك الحين)، لكن الكثيرين سيتفقون على أن التمييز بين العامة والمثقفين صحيح. ومع ذلك فمن غير الممكن أن يدعي أحد أن هناك كتبًا اليوم أو أفكارًا أو أطروحات تكون لأحد دون غيرهم. الكتب والأفكار والأطروحات إن حجبت أو احتجبت فسيكون ذلك من صنعها هي، أي إنها قد تحجب نفسها بنفسها تبعًا لتخصصها وصعوبة منالها على غير أهل الاختصاص أو قليلي البضاعة في المجال الذي تتناوله أو تطرح فيه تلك الأفكار. فالتراتبية قائمة لكن ليس بالشكل المعلن أو المفروض. ويعود هذا بالطبع إلى عوامل كثيرة أهمها انحسار الأمية وانتشار الطباعة وفي عصرنا الحالي انتشار وسائل التواصل والنشر التي تتيح الكثير وليس بالضرورة الكل للكل.
هذا الشيوع للمعرفة ووسائل الوصول إليها وإنتاجها يعيد طرح السؤال حول مسؤولية الإنتاج الفكري، هل يجب عليه التبسط في القضايا المطروحة وأساليب طرحها أم عليه أن ينشغل بما يراه أكثر أهمية وإن كان أصعب منالاً على عامة المتلقين والمتابعين. المؤيدون للتبسط يؤمنون بديمقراطية المعرفة وأن مسؤولية الفكر الأولى هي في التوعية الجماهيرية، لأن ذلك أهم من الانشغال بقضايا تهم فئة قليلة ولا تؤثر في حياة الآخرين ومشكلاتهم وتفكيرهم. أما الجانب الآخر فينظر في احتمال أن يؤدي ذلك الانشغال إلى تسطيح الفكر وتجريده من صفة الفكر أساسًا، على أساس أن هناك قضايا كبرى بعيدة عن اليومي والعاجل: قضايا في الأخلاق والمعرفة والوجود والسياسة والجمال والمعنى وغير ذلك مما يحتاج اشتغالاً فلسفيًا معمقًا لتناولها.
مع استمرار الانشقاق بين الاتجاهين، الشعبوي والنخبوي (والصفتان قاصرتان بطبيعة الحال)، تزداد الحاجة إلى من يرأب الصدع ويقرب المسافة، أي إلى من سماهم ابن رشد الجدليين، أي المثقفين. والمثقفون هنا أقرب إلى من نصفهم بالطبقة الوسطى من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، الطبقة التي تعد من ظواهر العصر الحديث. المثقفون ينتمون إلى تلك الطبقة غالبًا، لكن معيار الانتماء إلى فئتهم يختلف عنه في تصنيف الطبقة الوسطى. هنا لا نتحدث عن الدخل أو المكانة الاجتماعية وإنما عن مؤهلات تعليمية وإمكانيات في الاطلاع والتحليل تؤهل الفرد للاشتغال على قضايا عامة والاتكاء في ذلك على أطروحات فكرية، أي على ما ينتجه من نسميهم مفكرين أو فلاسفة. ومع أن كثيرًا من هؤلاء يمارسون هذا الدور الحيوي باستمرارية تبقيهم في دورهم ومكانهم فإن بعضهم يأتون من فئة المفكرين نفسها ليشاركوا في توصيل الفكر إلى الجمهور الأكبر، أي إن لديهم أطروحات فكرية معمقة واشتغالات فلسفية يصعب على أي أحد أن يستوعبها دون تأهيل خاص لكنهم يتركونها لبعض الوقت لينشغلوا بمخاطبة القطاع العريض من القراء، أي ما كان يفعله الفلاسفة القدامى حين يخصصون جزءًا من نتاجهم لعامة القراء وجزءًا للخاصة. الفرق هو أن ديمقراطية الثقافة اليوم وسهولة الوصول للمعرفة تذيب الفواصل بين هذه الأنواع من الإنتاج فيصعب التمييز بين هذا وذاك.
ولأوضح ما أقول سأضرب مثالاً لمفكرين مثل علي حرب ومحمد عابد الجابري وإدوارد سعيد. هؤلاء الثلاثة لهم كتب تعد من كتب الخاصة إما في طبيعة المعرفة أو في تكوين العقل أو في بنية المعرفة النقدية مما يصعب على كثير من القراء التعامل معه بيسر. لكن لهم كتبًا تتناول الملح والمهم دون شك وبأساليب تسهل الوصول إلى تلك القضايا كالعولمة والإسلام والغرب وقضية فلسطين، أي كتب أهل الجدل بتعبير ابن رشد. وينسحب ذلك على الكثير من المشتغلين في مجال الفكر. لكن هل يلغي هذا اللون من الانتقال أو هذه الألوان من الكتابة الفجوة التي أشرت إليها أو يخففها إلى حد تحويلها إلى هامش يسهل تجاهله؟ لا أعتقد، وأغلب الظن أنه لم يتحقق في أي مجتمع معروف حتى الآن مهما بلغ مستوى التعليم أو الثقافة فيه. ستظل اهتمامات الناس متفاوتة بل وتراتبية في طبيعتها وأهميتها ومن المتوقع أن تكون كذلك ليكون بيننا من ينشغل بما يراه عميقًا وأساسيا وبمنهجية تتناسب مع ذلك، دون أن نفقد من يتناول اليومي والعاجل لأنه ليس أقل أهمية بالتأكيد ولكن له أساليب طرحه المختلفة. على أننا نظل بحاجة أكبر فيما يبدو إلى من يجسر المسافة بين المنطقتين على النحو الذي يعمق الوعي باليومي ويبسط الفهم للجوهري.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.