«في فمي لؤلؤة».. حجر العاطفة والتاريخ في أزمنة منسية

ميسون صقر تستنطق حفريات اللؤلؤ في مغامرة سردية

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«في فمي لؤلؤة».. حجر العاطفة والتاريخ في أزمنة منسية

غلاف الرواية
غلاف الرواية

رواية التحديات والأزمنة المتراكبة، يتصدر هذا الإحساس بقوة مشهد قراءتي لرواية الشاعرة الإماراتية ميسون صقر «في فمي لؤلؤة»، الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وهي الثانية لها بعد روايتها «ريحانة» في عام 2003.
تبرز فكرة التحدي منذ الخيوط الأولى للرواية، في ترك «شمسة» حقل الدراسة بعد خلاف بينها وأستاذها معلم الأنثربولوجيا حول طبيعة البحث التي تنوي به مواصلة الدراسات العليا بالجامعة، ورفضه خطتها لإنجازه، متهمًا إياها بالانسحاب من الكتابة الأكاديمية الرصينة المجردة إلى «كتابة بلا عظم».
ورغم حبها الدفين لأستاذها، الذي يظل يومض بخفة في جنبات الرواية، فإن شمسة تنتصر لحكايات جدتها عن الذاكرة القديمة للمكان، التي تذكرها بجزء حي من تاريخها الشخصي هناك في تلك البيئة الإماراتية التي شهدت تفتح عينيها على الحياة، كما تنتصر لحواديت الجدة نفسها عن عالم الصيادين ورحلات الغوص في مياه الخليج بحثًا عن اللؤلؤ. ويتحول كثير من هذه الحواديت، بما تحمله من دلالات ورموز إلى طاقة حية، لإثارة الدهشة والأسئلة على مدار الرواية الحاشدة بفصولها الستة وصفحاتها التي قاربت على الستمائة صفحة، ومكابدة كتابتها ومعايشتها على مدار 7 سنوات مضنية من التقصي والنبش، والبحث في حفريات اللؤلؤ عبر وثائق ورسائل ومتون وهوامش، وأساطير، وحكايات متناثرة في فضاء التاريخ والجغرافيا، وخطى البشر وأحلام الغواصين، وصراعات العيش وسط عواصف البحر والطبيعة، ومواجهة مخاطر الموت بالأغاني والشعر والمواويل الشعبية، وغيرها من المقومات السردية والفكرية، الذي يزخر به نسيج الرواية الخصب، ومن بينها مساءلة فكرة الكتابة نفسها، هل هي ملاحقة لأزمنة انقضت، واستشراف لأزمنة أخرى آخذة في التفتح والنهوض، أم هي سلاح الذات لمقاومة الموت والإحساس بالذبول. تشير شمسة إلى هذه الهواجس في مقطع دالٍّ من الرواية قائلة: «كلما كتبت مات أحد، وكلما فكرت فيه مرضتُ، كلما شرعت في الكتابة بدأ أحد من أسرتنا في الغياب.. ها أنا أعاود قتل عائلتي، ولا أقتل الكتابة». وإمعانًا في مناورة السرد واللعب مع الكتابة لا تكتفي الكاتبة بغواية صيد اللؤلؤ ومغامرة الغوص في عوالمه القصية، وإنما تضيف لهذه المغامرة غواية الصورة، مستفيدة من خبرتها كفنانة تشكيلية في تصميم الغلاف، فتدفع بصورة للممثلة الشهيرة مارلين مونرو لتتصدر واجهة الغلاف، وهي ترتدي عقدًا من اللؤلؤ الصناعي، بينما يتناثر على وجهها خريطة قديمة لمنطقة الإمارات مشكِّلة غلالة نصية وفنية، ينضوي تحتها كثير من الرموز والدلالات، ما بين زمن أصبحت غوايته الطبيعية فوق رف التاريخ، وآخر يتشكل منه بشكل هجيني، لكنه في صدارة المشهد.
وعلى ذلك، تسلط الرواية الضوء على تاريخ الحياة في مجتمع دولة الإمارات، وتحديدًا إمارة الشارقة، مسقط رأس الكاتبة، ناسجة من تلك الوقائع، لا سيما صيد اللؤلؤ وحكايات الغواصين وتراث البيئة بأعرافه وتقاليده وعاداته شبكة للسرد والحكي، تتحرك في شكل ضفائر سردية متعددة ومتراكبة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وعاطفيا. ورغم أن قوسي البداية والنهاية مرتبطان بمهنة الغوص وصيد اللؤلؤ، ورصد تحولاتها ولحظات أفولها وانهيارها، خصوصًا بعد ظهور اللؤلؤ الصناعي، واكتشاف النفط، وبداية نشأة الدولة الحديثة، وتغير منظومة الصراع، ونظرة الغرب لمنطقة الخليج، رغم كل هذا لا تضع الرواية ثوابت وفقًا لمسار تاريخي محدد، وإنما تحاول استنطاق الماضي في الحاضر، الخاص في العام، متخذة من إيقاع الموجة محورًا لفضاء رحلتها، بين أزمنة وأمكنة متنوعة، تنحسر وتغيب، لكنها سرعان ما ترتد إلى الشاطئ. شاطئ الكتابة، وفوق ترابه تستدعي الكاتبة الساردة على لسان أبطال الرواية قصصا وحكايات ومواقف لبشر ومستعمرين وثورات، كما تتكشف لها في طوايا السرد رسائل ووثائق لرحالة ومستشرقين، بعضها ابن ماض لم يزل نبضه حيًا، وبعضها ابن حاضر لا يستطيع أن ينطق باسمه، فبجوار الشارقة، الرحم الأم للرواية، وعبر مناخاتها المشدودة كحلم معلق ما بين الوهم والواقع، تتنقل الرواية ما بين الهند، وكينيا والقاهرة، مقر إقامة «شمسة» ومرتع صباها وأحلامها ودراستها، أيضًا هناك نمط الحياة في البادية ومواسم الصيد وخيام الصيادين ومفردات حياتهم الضحلة الفقيرة، كما تتنقل بين الحصون، حيث مقر الحكم، وحياة الشحوح في الجبال، حيث المراعي المفتوحة وحظائر الإبل.
هناك نسق سردي مشرّب بمسحة تاريخية، لكنه لا يتعامل مع التاريخ كحقيقة مكتفية بذاتها، وإنما يطرحه كسؤال ممتد في الزمان والمكان، في رحم الرواية والواقع معًا، وهو ما يضفي على الكثير من شخصيات الرواية طابع التشكيل الحلمي أو الملحمي، الذي يقترب كثيرًا من مصاف الأسطورة، وعلى نحو خاص، شخصية «مرهون» الغواص الأمهر، بطل الرواية الرئيسي، حيث يتداخل في أبعادها الواقعي بالتخييلي، الحضور بالغياب. لكن مرهون يظل في كل تحولاته تجسيدا لشفرة إنسانية غامضة، تراوح بين زمنين، زمن الماء وزمن اليابسة، زمن الغوص بحثًا عن اللؤلؤ من أجل لقمة العيش، وزمن الغوص في طوايا الروح والجسد والطفولة بحثا عن مساحة نقية لتقلبات العاطفة والحب والارتواء.. «جرتني قدماي إلى الخارج عند البحر، لأرى إن كان مرهونًا هناك، هل سيحدثني البحر؟ جلست قليلا أنتظر شيئا ما لا أعرفه، وأفكر في وليم ومسعود وعالم السفينة.. ندهت: يا مرهون يا مرهون، لم يسمعني!، كل ما فعله أنه أزاح الفطم الذي يغلق أنفه به، ثم مسح الماء من على وجهه، أفرغ سلة المحار، تنفس عميقا، وغطس ثانية».
يشكل مرهون زمن الرواية الخاص الداخلي الحميم، فهو صائد اللؤلؤة الساحرة النادرة، التي بسببها قامت حروب ومطاردات، كما أنه في كل تجلياته لا يتخلى عن ذاتيته وروحه المفطورة بالصدق والتلقائية.
ومن ثم، تنمو الرواية دراميا بقوة التاريخ والعاطفة معا، التاريخ في إطاره السياسي الاقتصادي الاجتماعي للمنطقة ومنحنيات التحول من عالم التجارة إلى الزراعة والصناعة في حياة البدو والمدينة.
والعاطفة، في حزمة من الأحلام المؤجلة والمعطلة، سواء في علاقة شمسة بأستاذها، أو في بحث مروة صديقتها ورفيقتها في الرحلة، عن علاقة حميمة صادقة، تعول عليها اجتماعيا في تغيير مسار حياتها البائسة، أو في علاقة آمنة بمرهون، التي تتحول إلى مشهد تراجيدي محفوف بالغدر والهروب والخيانة، حيث تلقى مصرعها على يد يوسف «زوجها» سارق اللؤلؤة الثمينة، وكذلك في علاقة وليم الرحالة المصور بفيكتوريا الممرضة الإنجليزية، فرغم أنها تكبره بسنوات، فإنه أصبح يمثل لها الرمق الأخير في التشبث بالحياة، لا سيما بعد موت زوجها القبطان الشهير ورحيل ابنتيها عنها. أو في حنين شمسة الدائم لفضاء العائلة، وصورة الجدة والأب والأم.
إنه حجر التاريخ والعاطفة، فوقه تتعدد عوالم هذه الرواية، وتتنوع أسئلتها في مدارات مشربة بروح الملحمة، فالتاريخ حكّاء بطبعه، لكن قراءته من قبل المؤرخين والمختصين قد تنحي العاطفة جانبًا، لكنه في عين الكاتب الروائي، وتحديدًا هنا في هذه الرواية مادة قابلة للحكي، لا يمكن أن نجردها من العواطف والرؤى والانفعالات التي تتحول في تقنيات القص إلى إشارات وعلامات ورموز، من خلالها يتم استدعاء التاريخ، بقوة الماضي والحاضر والمستقبل معًا.. اللافت أيضًا أن التاريخ بكل تداعياته وثقله وخفته، لا يمثل خصوصية المكان، بل يشير إليه بشكل عابر، بينما يحفر هذه الخصوصية ويدل عليها الشخوص بكل مسارب حياتهم الخشنة المجدبة، وأحلامهم العادية البسيطة في غد أكثر أمنًا، يوفر لهم الحد الأدنى لحياة كريمة، لا يشعرون في كنفها أنهم مجرد عبيد للقمة عيش بالكاد تكفي لوجودهم أحياء فوق سطح الحياة.
هو إذن تاريخ من الغبن واللؤلؤ، هكذا تصفه الكاتبة على لسان أمها، وهي ترى العقد الذي أهدته لها الجدة، يتألق في عنقها بلؤلؤته الفريدة الساحرة التي اصطادها مرهون.. «تنظر إلي وهي تقول إنه شرف لي أن أحمل تاريخا للوجيعة يا حبيبتي».
هذا الوجع يتناثر في جسد الرواية كعصارة حية لخبرة حياة، تحاول أن تكشف عن معناها الأعمق والأشمل في واقع لم يعد مغلقًا على ذاته، يتجسد ذلك عبر مقومات نصية وفنية تتمتع بحيوية فائقة، ولغة سردية سلسلة، يمتزج فيها الفصيح بالعامي الشفاهي أحيانًا، كما أن عالم اللؤلؤ نفسه يتحول إلى قيمة معرفية إنسانية، فالرواية تجعلنا نعايش هذا العالم، ونلمس رذاذه ورائحته، وعرق الصيادين وهواجسهم، وساعات نومهم وأكلهم وشربهم، في كل مراحل الغوص، وذلك خلال حرفية عالية في الوصف والتدوين لنثريات الحياة، سواء فوق مركب الصيد في البحر، أو في طقوسها والاستعداد لها على البر.. وهو ما نرصده على هذا النحو في لقطة من مشاهد الرواية: «قبل الفجر بلحظات ينتبه الغواصون جميعًا، ويبدأون يومهم، تبدأ الجلبة في السفينة حتى يعم الظلام ليلاً، وتهدأ الحركة، فيجلسون في شبه حلقات، يفلقون المحار الذي اصطادوه في النهار أو محار اليوم السابق، الذي يكون قد مات الكائن المحاري داخله، وهم يغنون، ويلقون القصيد ويتحاورون». وبالعصارة النصية نفسها يتحول الوصف إلى ما يشبه الاستبطان الداخلي، لما تنطوي عليه الشخوص من رؤى وعواطف ومشاعر وانفعالات، في أقصى لحظات الحياة حزنا وألمًا، وأقصاها صخبًا واستمتاعًا بشواغل الروح والجسد.
نحن أمام نص روائي حمال لروايات ونصوص كثيرة، تفيض عنه في علاقة صاعدة دراميًا وإنسانيًا بشكل تلقائي: هناك نص مرهون والبحر وآمنة، هناك نص شمسة وأستاذها وتحولات فكرة الكتابة وإثبات الذات بقوة الفكرة نفسها وضعفها الإنساني أيضًا، هناك علاقة وليم بفيكتوريا، و أيضًا صوره ورسائله المهمة سواء للمعتمد البريطاني أو لصديقة جيرارد رفيقه في بعثته إلى أفريقيا، وهي رسائل توثق لكل شيء في الخليج حتى علاقات النساء.. هناك علاقة كاترين ابنة فيكتوريا، التي تتنكر في شخصية قبطان وتقود بالفعل إحدى السفن بالخليج، وتستضيف آمنة على متنها، هناك حكاية اللؤلؤة الفريدة التي جلبها مرهون، وكيف سُرِقت من على السفينة، وانتهى بها الحال في عقد ثمين تتوارثه أم شمسة عن جدتها، هناك معرض اللؤلؤ، ورسائل وليم بعد أن عثر عليها، وغيرها من النصوص التي خلقت لها هذه الرواية باقتدار مجالات إدراك ومعرفة جديدة، ووثقت لتراث اللؤلؤة بكل أنواعه وأشكاله وحكاياته في شتى حدوسات المعرفة الإنسانية، كتاريخ للجمال والغبن أيضا.. أو كما تقول شمسة في رسالة أخيرة لأستاذها في ختام الرواية: «لم أكن أكتب بحثا، كنت أبحث عما أكتبه، وأستشف الحياة في رشفها اللؤلؤ الكامن في المحار، ويشي بكل عنف وعشق، لقد تركت الحزن ينهشني لعدم تفهمك، لكن قصة الحياة سحبتني إليها».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي