«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

قيادات جزائرية ومالية تترك خطوط القتال وتفر إلى خارج ليبيا

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
TT

«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية

ردَّ تنظيم «داعش ليبيا» على منشقين في صفوفه بإطلاق موجة جديدة من «فتاوى التخوين والتكفير»، ووصف الفارين من سلطته في عدة بلدات ليبية خاصة مدينة سرت بأنهم «مرتدون»، وذلك بعد أن تركت قيادات جزائرية ومالية من «داعش سرت» خطوط القتال وفرت إلى خارج ليبيا خلال الأسبوعين الماضيين.
وبينما بدأ التنظيم في تنفيذ عملية واسعة لإعادة الانتشار بين قياداته وعناصره حمَّل منظرون تابعون له مسؤولية الخلافات إلى من يروّجون لـ«الديمقراطية والقبول بحكومات لا تحكم بما أنزل الله»، على حد وصفهم. وشارك في شن هذه «الحملة الفقهية» عدد من منظّري التنظيم من بينهم خطَّاب المُهاجر ومعاذ البرقاوي. وجرى توزيع منشورات على نطاق واسع في مواقع يسيطر عليها «داعش» في وسط ليبيا وغربها.
كفّر «داعش ليبيا» وخوّن منشقين عنه، في أعقاب فرار مجموعات أغلبها من العناصر الجزائرية والمالية، من الجبهات التي كانت تتمركز فيها، خاصة في مدينة سرت التي بدأت تتعرض لحملة عسكرية من الجيش الليبي ومن قوات تابعة لمدينة مصراتة أو ما كان يعرف باسم قوات «فجر ليبيا».
وكذلك مجاميع داعشية كانت فارة من مواقع الاشتباكات مع الجيش في درنة وبنغازي، إلى العاصمة، لما وصفه التنظيم بـ«الانقلاب عليهم» من جانب «إخوة في طرابلس كنا نظن أنهم يقفون مع المجاهدين والمهاجرين».
وطافت سيارات تابعة لـ«داعش» في وسط مدينة سرت ووصلت إلى جبهات يتمركز فيها مقاتلو التنظيم، ووزعت منشورات ومطويات ورقية على المقاتلين وكوادر التنظيم، وحذرت فيها من مغبة أي تأثر بمن «تركوا الساحة وأظهروا خيانة»، بينما أفادت مصادر تعمل بالقرب من العناصر المتطرفة في ليبيا أن كبار قادة «داعش» في كل من سرت وطرابلس، أصيبوا بارتباك بعد هروب كوادر جزائرية ومالية.
وتابعت المصادر قائلة إن أحد قادة التنظيم في سرت ويدعى «أبو أنس»، أبلغ من يطلق عليه «أمير إمارة طرابلس» في «داعش»، ويلقب بـ«المدهوني»، بهروب مقاتلين من المدينة وأنهم عادوا إلى بلادهم التي كانوا قد جاءوا منها قبل عدة أشهر. ووفقا للمصادر، تأكد لدى تنظيم داعش في سرت أن عشرات من الجزائريين والماليين ممن طلبوا زيارة ذويهم في بلادهم، على أن يعودوا مرة أخرى، لم يعودوا في الموعد المقرر لهم وهو منتصف شهر مارس (آذار) الماضي.
ونفض التنظيم يده من هؤلاء باعتبارهم «فارين»، بحلول يوم التاسع من أبريل (نيسان) الماضي، وذلك حين قرر «أبو أنس» أن يستبعد فرضية حدوث تأخير من جانب من تركوا سرت لأي أسباب طارئة. وأبلغ القيادي الداعشي في سرت «أمير طرابلس» بأن الأمور في المدينة ليست على ما يرام، قائلا إن الإخوة الذين سافروا من سرت إلى الجزائر، وكان من المفترض أن يعودوا يبدو أنهم قرروا البقاء في بلادهم، ويبدو أنهم انشقوا علينا، وكذلك مجموعة الدواعش الماليين الذين سافروا لزيارة بلدهم، لم يرجعوا، وانقطع الاتصال بهم.
وبعد يوم التاسع من أبريل، وبحسب إفادات من مصادر قريبة من الجماعات المتطرفة، قرر التنظيم قطع صلته بالهاربين من سرت، ووصف «أمير إمارة طرابلس» من تركوا المدينة، بأنهم «جبناء» وأنه كان في داخلهم نوايا بالخيانة، سواء ظلوا مع التنظيم في سرت أو انشقوا عنه كما حدث. وبعد مشاورات بين قيادات «داعش» جرى التوصل إلى نظرية لامتصاص الصدمة التي خلفتها حادثة الفرار في هذه الظروف. وتقول النظرية إن «عدم بقائهم مع التنظيم أفضل من بقائهم داخله وهم يضمرون نوايا أخرى تضر الإخوة» في «داعش».
أما الردود المكتوبة على المنشقين على التنظيم، والتي جرى توزيعها على العناصر الداعشية في عدة مناطق في ليبيا، فقد ألقت باللائمة على تنظيم «القاعدة» في المنطقة، وتطرقت في الشروح والتنظير إلى أن تأثير القاعدة على عناصر «داعش»، لا يقتصر على سرت وطرابلس فقط، بل هو منتشر في مناطق أخرى منها العراق وسوريا وأفغانستان. وتطرق خطَّاب المهاجر في رسالة طويلة إلى المفاوضات الجارية بين الأطراف الليبية للوصول إلى حكومة وفاق وطني، بـأنها «إجراءات كفرية»، مهاجما في الوقت نفسه القيادات الدينية الليبية التي تدعو إلى سرعة صياغة دستور للبلاد، بدلا من الانضمام إلى دعوة التنظيم بتحكيم «شرع الله» بدلا من «دستور وضعي»، بحسب توصيفه.
وبعد انشقاقات دواعش ليبيا نقلت منشورات التنظيم الورقية خطابا تنظيريا آخر مطولا بتوقيع معاذ البرقاوي شن فيه هجومًا حادًا على الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وعلى قوات «فجر ليبيا». ويبدو أن هذه المنشورات، التي وزعت كميات كبيرة منها في اجتماع للدواعش في قاعة واغادوغو بمدينة سرت، أواخر الشهر الماضي، تسعى لشحذ همم باقي عناصر التنظيم في المدينة، وغالبيتهم من التونسيين والسودانيين والمصريين.
ويبدو أن معالم القلق بدأت تنتشر بين صفوف تنظيم داعش في ليبيا قبل نحو شهر من إعلان الجيش عن نيته اقتحام مدينة سرت وطرده منها. ووفقا للمصادر، جرت مشاورات بين قادة تابعين للتنظيم في طرابلس حول هذا الموضع قبل ثلاثة أسابيع، أي أثناء الانتصارات التي حققها الجيش ضد الدواعش في مدينتي درنة وبنغازي. وتطرقت هذه المشاورات إلى جدية الجيش في التحرك من بنغازي إلى سرت. وحتى أسبوعين ماضيين، لم يضع التنظيم في حسبانه أنه يمكن أن يتعرض للحصار في أهم معاقله في تلك المدينة المعروفة بأنها مسقط رأس معمر القذافي.
وقال مصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في العاصمة إن «أمير ولاية طرابلس»، التي تضم سرت ومناطق غرب البلاد، رفض أخذ التحذيرات التي وصلته مبكرًا بخصوص تحركات الجيش مأخذ الجد. ورد على مساعديه حينذاك بالقول إن ما يتردد حول هذا الموضوع ما هو إلا محاوله ممن سماهم «دعاة الكفر والمناهضين للإسلام» لتفريع طرابلس من عناصر التنظيم واستدراج مقاتليه في غرب البلاد إلى سرت، عن طريق تسريب أخبار عن استعداد الجيش للتوجه إلى هناك.
واتضح فيما بعد أن تقديرات «أمير طرابلس» لم تكن دقيقة لا بالنسبة للجيش ولا بالنسبة لميليشيات مصراتة التي أعلنت هي الأخرى محاربة التنظيم. وإلى جانب حركة الانشقاقات داخل «داعش» في سرت، بدا التنظيم في أسوأ أحواله سواء على مستوى القيادة أو على الأرض.
مشكلة خلافات تنظيم داعش في سرت لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت إلى قيادات التنظيم في الخارج، والتي يبدو أنها اضطرت للتدخل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد واقعة هروب المقاتلين الجزائريين والماليين من صفوف «داعش» سرت. وبحسب معلومات من قيادات في ميليشيات طرابلس، تلقى «داعش ليبيا» وعودا من قيادات التنظيم في العراق، بشحن عناصر متطرفة آتية من ماليزيا ومن السودان ومن موريتانيا، من أجل تعويض نقص الكوادر في سرت، والوقوف ضد النزعات الانفصالية المتنامية بين باقي المقاتلين الذين يرابطون في المدينة منذ نحو سنة.
وعقب هذه الوعود بعدة أيام لوحظ في طرابلس الغرب أن طلائع الدواعش بدأت تصل عبر محورين: الأول الطريق البري الجنوبي، والثاني مطار معيتيقة الموجود قرب العاصمة. ومن بين القيادات التي دخلت من مطار معيتيقة مع عناصر داعشية غير ليبية، ورصدتها الجهات المختصة في طرابلس، سوداني يلقب باسم «العين». ولقد جرى توجيهه بمن معه من مقاتلين إلى سرت، بعدما أقام لفترة للاستراحة في معسكر تابع لـ«داعش» بمنطقة القربولي في العاصمة. وبحسب المصادر انطلق «العين» وعشرات من المقاتلين القادمين من الخارج، من طرابلس، عبر البحر إلى سرت.
وللتغلب على فرار العشرات من العناصر الداعشية إلى خارج ليبيا، جرى أيضا توجيه مجاميع تابعة للتنظيم كانت تتلقى التدريبات في معسكرات في غرب طرابلس، للالتحاق بسرت وتعويض النقص فيها. ويدور عدد المقاتلين في سرت حول الثلاثة آلاف عنصر غالبيتهم من العرب والأجانب والليبيين، ويبدو أن المهم بالنسبة للتنظيم هو القادة والكوادر الوسطى، وهذه الشريحة يظهر أنها تأثرت إلى حد كبير بعد فرار الجزائريين والماليين، وبعض الجنسيات الأخرى التي لم تتمكن المصادر من تعريفها على وجه الدقة.
وأصدر تنظيم داعش في «إمارة طرابلس» تعليمات مشددة لقادته في سرت بعدم الخوض في قصة المنشقين أو موضوع رحيل قادة وكوادر عن المدينة. وفي رسالة من هذا النوع شدد التنظيم على أنه محظور على القادة في سرت التحدث في العلن عن «حالة التنظيم، أو تدارس ما يحصل في صفوفه».
وتتميز العناصر الداعشية التي كانت في معسكرات تدريب معزولة في غرب طرابلس، بأنها لم تتأثر بالجدل الدائر في سرت حول جدوى الاستمرار في القتال بعد هزائم درنة وبنغازي. وقال مصدر يتعامل مع المتطرفين ويقيم في سرت إن غالبية المجاميع الداعشية التي انشقت وتركت المدينة كانوا يتبعون قياديا في سرت يدعى «الشيخ سيَّاف»، ومعظم هؤلاء جزائريون، أما المجموعة المالية التي انشقت وغادرت سرت أيضا فكانت تتبع قيادي في المدينة يدعى «أبو الليث».
وعلى أثر هذه التطورات ظهرت أسماء جديدة في سرت، بمن في ذلك أسماء جزائرية لم تكن معروفة من قبل، تختلف عن المجموعة التي كانت تتبع «الشيخ سيَّاف»، ومن بين هؤلاء قيادي جزائري كان ينشط في غرب طرابلس يدعى «عبد العظيم». وتشير المصادر إلى أن «عبد العظيم» محل ثقة لدى «داعش»، لأنه سبق وسافر إلى الجزائر وعاد عدة مرات. وهو «من المخلصين للتنظيم».
وبمجرد تمركزه في سرت، بدأ «عبد العظيم» في جمع عدد من القادة لترتيب الأوضاع ولم شمل الدواعش في المدينة، وبعد عدة أيام من دراسة الأمر طلب من قادة طرابلس إرسال شاحنات محملة بالأسلحة والمؤن الغذائية إلى سرت، وأمر أيضا بمبرّدات متحركة (محمولة على سيارات كبيرة) لحفظ الطعام والأدوية وتوفير المياه الباردة، بسبب عدم انتظام التيار الكهربائي في المدينة. وقبل عدة أيام وصلت إلى سرت بالفعل كميات كبيرة من الأسلحة والتمور والطحين.
كذلك واصل «داعش»، منذ أواخر الشهر الماضي، إرسال مجموعات جديدة غالبيتها من التونسيين والمصريين إلى سرت. منها مجموعة كانت تتدرب قرب الحدود التونسية بقيادة ليبي يسمى «أبو طلحة»، وانتقلت في زوارق بحرية من ميناء مدينة الخُمس قرب طرابلس إلى سرت. وتولى قيادي آخر يلقب بـ«كشلاف» عملية توجيه مقاتلين دواعش كانوا يتدربون في منطقة اسمها «قطيس» غرب العاصمة الليبية، إلى سرت. وتتكون هذه المجموعة من نحو أربعين مقاتلا من المصريين والتونسيين أيضا، وهم مسلحون بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وبالتزامن مع حملة توزيع المنشورات، لبث الحماس و«الثبات» بين مقاتلي التنظيم، واصل «داعش» شن هجوم شديد اللهجة على من كانوا يتعاونون معه من العناصر ذات الخلفيات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وجماعة الإخوان. وقالت المصادر إن قيادات كثيرة ظهرت لأول مرة على السطح في سرت معظمها من الأفارقة خاصة تنظيم «بوكو حرام» الموالي لـ«داعش». ويوجد قيادي آخر أصبح له دور لافت للنظر بعد هروب كثر من الجزائريين والماليين، وهو صومالي الجنسية يدعى «أبو عبد الله»، ومعروف عنه أنه غير متعمق في العلوم الدينية، ومحترف في أجهزة الاتصال الحديثة، وسريع الغضب ولا يتقبل المزاح.
وفي كلمات حماسية وجهها البرقاوي لخصوم التنظيم وعلى رأسهم الجيش الليبي، حذر من «التورط» في قتال، وأضاف: «عليكم أن تتعلموا مما حصل لأميركا في العراق». ودعا إلى تأمل حال كل من قاتل التنظيم في العراق وسوريا وزعم أنهم أصبحوا اليوم قتلى أو أسرى أو مطاردين. ولوحظ من منشورات «داعش» أن عناصر التنظيم تأثرت باللغط الدائر عن توجهات قادته واحتمال تورطهم في علاقات خفية مع جماعات أخرى في ليبيا لا تؤمن بفكره. وقال إن من يروجون لمثل هذه الأمور «يروجون افتراءات».
رغم كل هذه المحاولات النظرية والعملية، إلا أن الخلافات داخل صفوف «داعش ليبيا» خاصة سرت، تجاوزت مرحلة الانشقاق والهروب، ووصلت إلى منعطف أخطر من كل التجارب السابقة، ألا وهو تنفيذ بعض القيادات في سرت لعمليات قتالية دون تنسيق مع زعماء التنظيم، ودون تنسيق مع باقي المجاميع الداعشية في المدينة. جرت واقعة من هذا النوع على تخوم سرت ضد بوابة كان يسيطر عليها تنظيم تابع لمدينة مصراتة، ما أدى إلى سقوط قتلى من الجانبين. وقال مصدر قريب من دواعش سرت، إن القيادات في طرابلس فوجئت بالعملية التي هاجم فيها التنظيم البوابة على تخوم مصراتة، وحين اتصل بـ«أبو عبد الله» الصومالي، الذي يتمركز بالقرب من المنطقة، لمعرفة ما حدث قال إنه لم يصدر أي أوامر وأنه لا يعرف من أعطى الإشارة بالهجوم.
وجرى تعنيف الصومالي وثلاث قيادات أخرى بينهم مصري يدعى «أبو أحمد». وقال زعيم التنظيم في «ولاية طرابلس» لقيادات سرت، وفقا لمصادر على صلة بالمتطرفين في المدينة: أنا لست ضد سحق العدو. أنا ضد عمليات غير مدروسة.. فردية، تشجع الكل على عدم طاعة ولي الأمر. هذه خيانة.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».