«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

قيادات جزائرية ومالية تترك خطوط القتال وتفر إلى خارج ليبيا

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
TT

«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية
أعلام داعش مرفوعة في قاعة واغادوغو بمدينة سرت وسط حضور متطرفين ومؤيدين له ({ الشرق الأوسط}) - أحد عناصر داعش يتصفح منشورا في إحدى المناطق الشرقية

ردَّ تنظيم «داعش ليبيا» على منشقين في صفوفه بإطلاق موجة جديدة من «فتاوى التخوين والتكفير»، ووصف الفارين من سلطته في عدة بلدات ليبية خاصة مدينة سرت بأنهم «مرتدون»، وذلك بعد أن تركت قيادات جزائرية ومالية من «داعش سرت» خطوط القتال وفرت إلى خارج ليبيا خلال الأسبوعين الماضيين.
وبينما بدأ التنظيم في تنفيذ عملية واسعة لإعادة الانتشار بين قياداته وعناصره حمَّل منظرون تابعون له مسؤولية الخلافات إلى من يروّجون لـ«الديمقراطية والقبول بحكومات لا تحكم بما أنزل الله»، على حد وصفهم. وشارك في شن هذه «الحملة الفقهية» عدد من منظّري التنظيم من بينهم خطَّاب المُهاجر ومعاذ البرقاوي. وجرى توزيع منشورات على نطاق واسع في مواقع يسيطر عليها «داعش» في وسط ليبيا وغربها.
كفّر «داعش ليبيا» وخوّن منشقين عنه، في أعقاب فرار مجموعات أغلبها من العناصر الجزائرية والمالية، من الجبهات التي كانت تتمركز فيها، خاصة في مدينة سرت التي بدأت تتعرض لحملة عسكرية من الجيش الليبي ومن قوات تابعة لمدينة مصراتة أو ما كان يعرف باسم قوات «فجر ليبيا».
وكذلك مجاميع داعشية كانت فارة من مواقع الاشتباكات مع الجيش في درنة وبنغازي، إلى العاصمة، لما وصفه التنظيم بـ«الانقلاب عليهم» من جانب «إخوة في طرابلس كنا نظن أنهم يقفون مع المجاهدين والمهاجرين».
وطافت سيارات تابعة لـ«داعش» في وسط مدينة سرت ووصلت إلى جبهات يتمركز فيها مقاتلو التنظيم، ووزعت منشورات ومطويات ورقية على المقاتلين وكوادر التنظيم، وحذرت فيها من مغبة أي تأثر بمن «تركوا الساحة وأظهروا خيانة»، بينما أفادت مصادر تعمل بالقرب من العناصر المتطرفة في ليبيا أن كبار قادة «داعش» في كل من سرت وطرابلس، أصيبوا بارتباك بعد هروب كوادر جزائرية ومالية.
وتابعت المصادر قائلة إن أحد قادة التنظيم في سرت ويدعى «أبو أنس»، أبلغ من يطلق عليه «أمير إمارة طرابلس» في «داعش»، ويلقب بـ«المدهوني»، بهروب مقاتلين من المدينة وأنهم عادوا إلى بلادهم التي كانوا قد جاءوا منها قبل عدة أشهر. ووفقا للمصادر، تأكد لدى تنظيم داعش في سرت أن عشرات من الجزائريين والماليين ممن طلبوا زيارة ذويهم في بلادهم، على أن يعودوا مرة أخرى، لم يعودوا في الموعد المقرر لهم وهو منتصف شهر مارس (آذار) الماضي.
ونفض التنظيم يده من هؤلاء باعتبارهم «فارين»، بحلول يوم التاسع من أبريل (نيسان) الماضي، وذلك حين قرر «أبو أنس» أن يستبعد فرضية حدوث تأخير من جانب من تركوا سرت لأي أسباب طارئة. وأبلغ القيادي الداعشي في سرت «أمير طرابلس» بأن الأمور في المدينة ليست على ما يرام، قائلا إن الإخوة الذين سافروا من سرت إلى الجزائر، وكان من المفترض أن يعودوا يبدو أنهم قرروا البقاء في بلادهم، ويبدو أنهم انشقوا علينا، وكذلك مجموعة الدواعش الماليين الذين سافروا لزيارة بلدهم، لم يرجعوا، وانقطع الاتصال بهم.
وبعد يوم التاسع من أبريل، وبحسب إفادات من مصادر قريبة من الجماعات المتطرفة، قرر التنظيم قطع صلته بالهاربين من سرت، ووصف «أمير إمارة طرابلس» من تركوا المدينة، بأنهم «جبناء» وأنه كان في داخلهم نوايا بالخيانة، سواء ظلوا مع التنظيم في سرت أو انشقوا عنه كما حدث. وبعد مشاورات بين قيادات «داعش» جرى التوصل إلى نظرية لامتصاص الصدمة التي خلفتها حادثة الفرار في هذه الظروف. وتقول النظرية إن «عدم بقائهم مع التنظيم أفضل من بقائهم داخله وهم يضمرون نوايا أخرى تضر الإخوة» في «داعش».
أما الردود المكتوبة على المنشقين على التنظيم، والتي جرى توزيعها على العناصر الداعشية في عدة مناطق في ليبيا، فقد ألقت باللائمة على تنظيم «القاعدة» في المنطقة، وتطرقت في الشروح والتنظير إلى أن تأثير القاعدة على عناصر «داعش»، لا يقتصر على سرت وطرابلس فقط، بل هو منتشر في مناطق أخرى منها العراق وسوريا وأفغانستان. وتطرق خطَّاب المهاجر في رسالة طويلة إلى المفاوضات الجارية بين الأطراف الليبية للوصول إلى حكومة وفاق وطني، بـأنها «إجراءات كفرية»، مهاجما في الوقت نفسه القيادات الدينية الليبية التي تدعو إلى سرعة صياغة دستور للبلاد، بدلا من الانضمام إلى دعوة التنظيم بتحكيم «شرع الله» بدلا من «دستور وضعي»، بحسب توصيفه.
وبعد انشقاقات دواعش ليبيا نقلت منشورات التنظيم الورقية خطابا تنظيريا آخر مطولا بتوقيع معاذ البرقاوي شن فيه هجومًا حادًا على الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وعلى قوات «فجر ليبيا». ويبدو أن هذه المنشورات، التي وزعت كميات كبيرة منها في اجتماع للدواعش في قاعة واغادوغو بمدينة سرت، أواخر الشهر الماضي، تسعى لشحذ همم باقي عناصر التنظيم في المدينة، وغالبيتهم من التونسيين والسودانيين والمصريين.
ويبدو أن معالم القلق بدأت تنتشر بين صفوف تنظيم داعش في ليبيا قبل نحو شهر من إعلان الجيش عن نيته اقتحام مدينة سرت وطرده منها. ووفقا للمصادر، جرت مشاورات بين قادة تابعين للتنظيم في طرابلس حول هذا الموضع قبل ثلاثة أسابيع، أي أثناء الانتصارات التي حققها الجيش ضد الدواعش في مدينتي درنة وبنغازي. وتطرقت هذه المشاورات إلى جدية الجيش في التحرك من بنغازي إلى سرت. وحتى أسبوعين ماضيين، لم يضع التنظيم في حسبانه أنه يمكن أن يتعرض للحصار في أهم معاقله في تلك المدينة المعروفة بأنها مسقط رأس معمر القذافي.
وقال مصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في العاصمة إن «أمير ولاية طرابلس»، التي تضم سرت ومناطق غرب البلاد، رفض أخذ التحذيرات التي وصلته مبكرًا بخصوص تحركات الجيش مأخذ الجد. ورد على مساعديه حينذاك بالقول إن ما يتردد حول هذا الموضوع ما هو إلا محاوله ممن سماهم «دعاة الكفر والمناهضين للإسلام» لتفريع طرابلس من عناصر التنظيم واستدراج مقاتليه في غرب البلاد إلى سرت، عن طريق تسريب أخبار عن استعداد الجيش للتوجه إلى هناك.
واتضح فيما بعد أن تقديرات «أمير طرابلس» لم تكن دقيقة لا بالنسبة للجيش ولا بالنسبة لميليشيات مصراتة التي أعلنت هي الأخرى محاربة التنظيم. وإلى جانب حركة الانشقاقات داخل «داعش» في سرت، بدا التنظيم في أسوأ أحواله سواء على مستوى القيادة أو على الأرض.
مشكلة خلافات تنظيم داعش في سرت لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت إلى قيادات التنظيم في الخارج، والتي يبدو أنها اضطرت للتدخل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد واقعة هروب المقاتلين الجزائريين والماليين من صفوف «داعش» سرت. وبحسب معلومات من قيادات في ميليشيات طرابلس، تلقى «داعش ليبيا» وعودا من قيادات التنظيم في العراق، بشحن عناصر متطرفة آتية من ماليزيا ومن السودان ومن موريتانيا، من أجل تعويض نقص الكوادر في سرت، والوقوف ضد النزعات الانفصالية المتنامية بين باقي المقاتلين الذين يرابطون في المدينة منذ نحو سنة.
وعقب هذه الوعود بعدة أيام لوحظ في طرابلس الغرب أن طلائع الدواعش بدأت تصل عبر محورين: الأول الطريق البري الجنوبي، والثاني مطار معيتيقة الموجود قرب العاصمة. ومن بين القيادات التي دخلت من مطار معيتيقة مع عناصر داعشية غير ليبية، ورصدتها الجهات المختصة في طرابلس، سوداني يلقب باسم «العين». ولقد جرى توجيهه بمن معه من مقاتلين إلى سرت، بعدما أقام لفترة للاستراحة في معسكر تابع لـ«داعش» بمنطقة القربولي في العاصمة. وبحسب المصادر انطلق «العين» وعشرات من المقاتلين القادمين من الخارج، من طرابلس، عبر البحر إلى سرت.
وللتغلب على فرار العشرات من العناصر الداعشية إلى خارج ليبيا، جرى أيضا توجيه مجاميع تابعة للتنظيم كانت تتلقى التدريبات في معسكرات في غرب طرابلس، للالتحاق بسرت وتعويض النقص فيها. ويدور عدد المقاتلين في سرت حول الثلاثة آلاف عنصر غالبيتهم من العرب والأجانب والليبيين، ويبدو أن المهم بالنسبة للتنظيم هو القادة والكوادر الوسطى، وهذه الشريحة يظهر أنها تأثرت إلى حد كبير بعد فرار الجزائريين والماليين، وبعض الجنسيات الأخرى التي لم تتمكن المصادر من تعريفها على وجه الدقة.
وأصدر تنظيم داعش في «إمارة طرابلس» تعليمات مشددة لقادته في سرت بعدم الخوض في قصة المنشقين أو موضوع رحيل قادة وكوادر عن المدينة. وفي رسالة من هذا النوع شدد التنظيم على أنه محظور على القادة في سرت التحدث في العلن عن «حالة التنظيم، أو تدارس ما يحصل في صفوفه».
وتتميز العناصر الداعشية التي كانت في معسكرات تدريب معزولة في غرب طرابلس، بأنها لم تتأثر بالجدل الدائر في سرت حول جدوى الاستمرار في القتال بعد هزائم درنة وبنغازي. وقال مصدر يتعامل مع المتطرفين ويقيم في سرت إن غالبية المجاميع الداعشية التي انشقت وتركت المدينة كانوا يتبعون قياديا في سرت يدعى «الشيخ سيَّاف»، ومعظم هؤلاء جزائريون، أما المجموعة المالية التي انشقت وغادرت سرت أيضا فكانت تتبع قيادي في المدينة يدعى «أبو الليث».
وعلى أثر هذه التطورات ظهرت أسماء جديدة في سرت، بمن في ذلك أسماء جزائرية لم تكن معروفة من قبل، تختلف عن المجموعة التي كانت تتبع «الشيخ سيَّاف»، ومن بين هؤلاء قيادي جزائري كان ينشط في غرب طرابلس يدعى «عبد العظيم». وتشير المصادر إلى أن «عبد العظيم» محل ثقة لدى «داعش»، لأنه سبق وسافر إلى الجزائر وعاد عدة مرات. وهو «من المخلصين للتنظيم».
وبمجرد تمركزه في سرت، بدأ «عبد العظيم» في جمع عدد من القادة لترتيب الأوضاع ولم شمل الدواعش في المدينة، وبعد عدة أيام من دراسة الأمر طلب من قادة طرابلس إرسال شاحنات محملة بالأسلحة والمؤن الغذائية إلى سرت، وأمر أيضا بمبرّدات متحركة (محمولة على سيارات كبيرة) لحفظ الطعام والأدوية وتوفير المياه الباردة، بسبب عدم انتظام التيار الكهربائي في المدينة. وقبل عدة أيام وصلت إلى سرت بالفعل كميات كبيرة من الأسلحة والتمور والطحين.
كذلك واصل «داعش»، منذ أواخر الشهر الماضي، إرسال مجموعات جديدة غالبيتها من التونسيين والمصريين إلى سرت. منها مجموعة كانت تتدرب قرب الحدود التونسية بقيادة ليبي يسمى «أبو طلحة»، وانتقلت في زوارق بحرية من ميناء مدينة الخُمس قرب طرابلس إلى سرت. وتولى قيادي آخر يلقب بـ«كشلاف» عملية توجيه مقاتلين دواعش كانوا يتدربون في منطقة اسمها «قطيس» غرب العاصمة الليبية، إلى سرت. وتتكون هذه المجموعة من نحو أربعين مقاتلا من المصريين والتونسيين أيضا، وهم مسلحون بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وبالتزامن مع حملة توزيع المنشورات، لبث الحماس و«الثبات» بين مقاتلي التنظيم، واصل «داعش» شن هجوم شديد اللهجة على من كانوا يتعاونون معه من العناصر ذات الخلفيات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وجماعة الإخوان. وقالت المصادر إن قيادات كثيرة ظهرت لأول مرة على السطح في سرت معظمها من الأفارقة خاصة تنظيم «بوكو حرام» الموالي لـ«داعش». ويوجد قيادي آخر أصبح له دور لافت للنظر بعد هروب كثر من الجزائريين والماليين، وهو صومالي الجنسية يدعى «أبو عبد الله»، ومعروف عنه أنه غير متعمق في العلوم الدينية، ومحترف في أجهزة الاتصال الحديثة، وسريع الغضب ولا يتقبل المزاح.
وفي كلمات حماسية وجهها البرقاوي لخصوم التنظيم وعلى رأسهم الجيش الليبي، حذر من «التورط» في قتال، وأضاف: «عليكم أن تتعلموا مما حصل لأميركا في العراق». ودعا إلى تأمل حال كل من قاتل التنظيم في العراق وسوريا وزعم أنهم أصبحوا اليوم قتلى أو أسرى أو مطاردين. ولوحظ من منشورات «داعش» أن عناصر التنظيم تأثرت باللغط الدائر عن توجهات قادته واحتمال تورطهم في علاقات خفية مع جماعات أخرى في ليبيا لا تؤمن بفكره. وقال إن من يروجون لمثل هذه الأمور «يروجون افتراءات».
رغم كل هذه المحاولات النظرية والعملية، إلا أن الخلافات داخل صفوف «داعش ليبيا» خاصة سرت، تجاوزت مرحلة الانشقاق والهروب، ووصلت إلى منعطف أخطر من كل التجارب السابقة، ألا وهو تنفيذ بعض القيادات في سرت لعمليات قتالية دون تنسيق مع زعماء التنظيم، ودون تنسيق مع باقي المجاميع الداعشية في المدينة. جرت واقعة من هذا النوع على تخوم سرت ضد بوابة كان يسيطر عليها تنظيم تابع لمدينة مصراتة، ما أدى إلى سقوط قتلى من الجانبين. وقال مصدر قريب من دواعش سرت، إن القيادات في طرابلس فوجئت بالعملية التي هاجم فيها التنظيم البوابة على تخوم مصراتة، وحين اتصل بـ«أبو عبد الله» الصومالي، الذي يتمركز بالقرب من المنطقة، لمعرفة ما حدث قال إنه لم يصدر أي أوامر وأنه لا يعرف من أعطى الإشارة بالهجوم.
وجرى تعنيف الصومالي وثلاث قيادات أخرى بينهم مصري يدعى «أبو أحمد». وقال زعيم التنظيم في «ولاية طرابلس» لقيادات سرت، وفقا لمصادر على صلة بالمتطرفين في المدينة: أنا لست ضد سحق العدو. أنا ضد عمليات غير مدروسة.. فردية، تشجع الكل على عدم طاعة ولي الأمر. هذه خيانة.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟