رسالة لندن إلى العالم

رسالة لندن إلى العالم
TT

رسالة لندن إلى العالم

رسالة لندن إلى العالم

لندن، المسيحية البيضاء والعلمانية، لم ترتفع على نفسها، باختيارها مسلمًا أسمر يحرسها، بل توافقت مع نفسها، وهذه المرة أعلى درجات التوافق.
لقد وصلت إلى نقطة قصوى في سلم تطورها الإنساني، هذه المدينة الأوروبية الكبرى، إن لم تكن الأكبر اقتصاديًا وثقافيًا عاصمة الاستعمار البريطاني، الذي غزا العالم شرقًا وغربًا، وعبّد طريق الهند بالدم والدموع، تختار واحدًا من أحفاد غاندي الفقراء، الذين استخدمتهم شركة الهند الشرقية في غزو العالم، عمدة لها، مفضلة إياه على ابنها الآخر، خريج كلية أتون للأغنياء، الأرستقراطي الذي ورث ثروة طائلة أبًا عن جد. لم تنظر لندن لدين صادق خان، في هذه الظروف التي تحول فيها هذا الدين إلى شبح يجول في أوروبا. لم تتمعن في ملامحه الآسيوية السمراء، وتنقب في سجلات الحكومة عن أصله وفصله، بل هي تعرف جيدًا أنه ابن سائق باص فقير. لم يعنِ لها ذلك شيئًا. كان يهمها الإنسان فيه والمواطن، ووعده الانتخابي لها، فمنحته أصواتًا لم تمنحها لأي سياسي من قبل في تاريخها الطويل.
وصلت لندن، هذه المدينة الأوروبية الكبرى، إن لم تكن الأكبر اقتصاديًا وثقافيًا، بهذا الخيار غير المسبوق، إلى نقطة أبعد مدى في سلم تطورها الإنساني الممتد إلى ثلاثة قرون على الأقل.
فقد لجأ إليها الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر هربًا من اضطهاد السلطات الدينية في بلده، فرنسا، وآوى إليها الألماني كارل ماركس سنوات هاربًا من بلاده، حيث صرف وقته فيها بكل حرية، قارئًا ليل نهار في المكتبة البريطانية، التي لا تزال محافظة على «حرمة» غرفته، التي سمتها «غرفة ماركس»، محللاً البنية الرأسمالية ليفككها، متوقعًا أن تحدث الثورة الاشتراكية في هذا البلد، إلى جانب ألمانيا، لوصول التطور الرأسمالي لمرحلة متقدمة، ولنضج الطبقة العاملة.. ثم دُفن فيها، حيث صار قبره مزارًا.
وأثناء الحرب الكونية الثانية، فرّ إلى بريطانيا مفكرون وكتاب وسياسيون كثيرون بالإضافة إلى «عامة الناس». وقسم من هؤلاء أصبح مسؤولاً كبيرًا داخل حزب المحافظين نفسه، مثل وزير الدفاع السابق مايكل بورتللو، ووزير الداخلية السابق مايكل هاورد. وأصبح تيد ميليباند وزيرًا للخارجية، وانتخب أخوه إد ميليباند، ابنا المنظر الماركسي المعروف الذي هرب من بلجيكا، زعيمًا لحزب العمال، وكان يمكن أن يكون رئيسًا للوزراء.
ومن «الناس العاديين»، فتحت لندن أبوابها مضطرة لآلاف مؤلفة من المهاجرين إليها من جميع القارات. وربما كانت أوسع الهجرات قادمة من الدول الآسيوية، وبصفة خاصة شبه القارة الهندية - الهند وباكستان وبنغلاديش، إلى جانب القارة الأفريقية. وهذه الهجرات الكبيرة، خلقت غيتواتها.
لكن بريطانيا اتبعت، كما يقول محمد نجيب السعد في دراسة أكاديمية له، استراتيجية جديدة على المستوى المحلي والوطني لإدخال الأقليات السوداء والآسيوية في العملية السياسية من خلال تعيين منظمات محددة أو قادة أقليات، لتمثيل مصالحهم. وأعادت هذه الاستراتيجية تعريف مفاهيم العنصرية والمساواة. أصبحت العنصرية تعني ليس مجرد الحرمان من حقوق متساوية، ولكن أيضًا الحرمان من الحق في أن تكون مختلفًا.
لندن الآن اختارت المختلف لتحقق للمرة الأولى في تاريخ أوروبا مستحيلاً ما كان يراود أحدًا في أقصى درجات الحلم، واختراقًا ستكون له نتائج الملموسة في الوعي التي تشكل في فترة الكولونيالية وحتى الآن، وقسم العالم إلى شرق وغرب، وأبيض وأسود.
وبقدر ما يفرح المرء بخيار لندن، بوصول البشرية إلى هذا المستوى العالي من تطورها الاجتماعي والثقافي، بقدر ما يحزن على أرضه هناك، حيث لا يزال أولو الأمر، يسمون البشر، أبناء الدين الواحد، والبلد الواحد، أقسامًا، ويهينون إنسانيتهم ويصادرون مواطنتهم بقياسهما بمسطرة المذهب الضيق والطائفة الأضيق، التي سرعان ما تتكسر إذا استطالت لأكثر من حي أو مدينة صغيرة، حيث يختزلون الوطن.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.