أرسطو: مؤسس العلم والعلوم

د. محمد عبد الستار البدري

أرسطو: مؤسس العلم والعلوم
TT
20

أرسطو: مؤسس العلم والعلوم

أرسطو: مؤسس العلم والعلوم

إذا كانت الثقافة اليونانية تعد بداية مرحلة التنوير الشامل للإنسانية، فإن الفيلسوف أرسطو يعد بكل المقاييس إحدى أهم الشخصيات العلمية على الإطلاق في التاريخ اليوناني أو الإنساني على حد سواء، ليس لأنه أول الفلاسفة اليونانيين، فهو لم يكن كذلك، بل إنه ثالث العظماء بعد سقراط وأفلاطون، ولكن قيمته تنبع من كونه المؤسس الحقيقي لعدد من العلوم الإنسانية والطبيعية، فهو مؤسس علم المنطق والعلوم السياسية والأخلاق والزراعة إلخ.. ولو طالعنا أي كتاب حول المسيرة البشرية لوجدنا أرسطو يتصدر المقدمة فيها بلا منازع، فقيمة أرسطو الفكرية والعلمية تعد أعمق وأكثر أثرا من أي فيلسوف آخر حتى يومنا هذا، وكثير من المفاهيم أو الكلمات المستخدمة اليوم ترجع إليه، وهذا ليس على سبيل المبالغة، ولكن لأنه صاحب علم مؤسسي وفكر ممتد إلى يومنا هذا. وتشير التقديرات إلى أن الإنتاج الفكري لأرسطو بلغ أكثر من مائة وخمسين منتجا ما بين الكتاب والمخطوط على حد سواء، ونظرا لأنه كان مقدونيا فإنه سريعا ما استخدم لدى البلاط الملكي من أجل الإشراف على تعليم الإسكندر الأكبر، فغرس فيه حب العلم والمعرفة وتقديس الفكر اليوناني واعتبار الثقافة اليونانية هي مركز الكون.
ولد أرسطو في مقدونيا عام 361 قبل الميلاد لأب يعمل بمهنة الطب، حيث أخذ منه حب المعرفة والمنهج المبني على الملاحظة واستخدام الحواس في فهم المسائل الطبية والطبيعية، وكان لهذا أكبر الأثر في تطوير فكره الشخصي. وقد تدرب أرسطو في كنف أستاذه أفلاطون، وتعلم على يديه كل أفكاره التي ارتكزت على مفاهيم ما وراء الطبيعية، لكنه لم يسلك الدرب الفكري نفسه، بل إنه وضع لنفسه منهجا مختلفا مبنيا على فكرة الطبيعة ودراسة الظاهرة وليس افتراض وجود المثل الأعلى لمفهومها في مكان بعيد عن متناول فكرنا، بالتالي لجأ لاستخدام الحواس في فهم الأمور وهو ما كان له أكبر الأثر في ميلاد مفهوم المنهج التجريبي الذي أصبح هو أساس دراسة العلوم الإنسانية وغير الإنسانية على حد سواء.
تعد الزراعة والسياسة والأخلاق من أهم ما اعتنى به أرسطو، وقد استنبط الرجل وجود الإله الواحد الأحد فاطر العالم من خلال الممارسة العقلية بنظريته المعروفة بالمحرك الأول. والثابت أن أرسطو كان مؤسس علم المنطق الذي نعرفه اليوم والذي تم بناؤه على الفرضيات الثلاث الأساسية للمنطق، كما أنه صاحب فكرة القياس المنطقي الأرسطي والمعروفة لدينا بالـ«Aristotelian Syllogism»، والتي تعد أساس علم الاستنباط.
وعلى الرغم من أننا كثيرا ما نؤمن بأن المصدر الوحيد للأخلاق هو الأديان السماوية أو الوضعية، فإن هذا ليس بالضرورة صحيحا، فهناك مصادر أخرى للأخلاق ومفاهيمها، فأرسطو هو أبو علم الأخلاق، وفكره في هذا الصدد جاءنا من خلال كتابه الشهيرة «أخلاقيات نيكومانشيان» (نسبة إلى ابنه)، وقد وصل الرجل إلى قناعة بأن سعادة البشر تتأتي بالأخلاق من خلال التوازن بين ثلاثة أنواع من السعادة، أولها حياة المتعة والسعادة، وثانيها حياة المواطن والمسؤول، وثالثها حياة المفكر والفيلسوف. فالتوازن بين هذه الأركان الثلاثة هو مبتغى أي إنسان عادي، كما أنه صاحب فكرة التوازن في الفضائل وبينها، وهو ما جسدته الحكمة العربية القائلة بأن الفضيلة هي وسط الرذيلتين، وإليه ترجع أهمية التفرقة الشديدة بين الأخلاق من ناحية والسياسة من ناحية أخرى.
لعل من أهم مرتكزات فكر أرسطو تعامله مع السياسة، فهو بكل تأكيد مؤسس علم السياسة كما نعرفه اليوم، وكتابه الشهير «حول السياسة» يعد أحد أهم مراجع دراسة العلوم السياسية، فانطلاقة أرسطو في هذا المجال كانت من خلال جملته الشهيرة «بأن الإنسان حيوان سياسي»، أي أن الإنسان يتعامل مع السياسة كما لو أنها كانت نزعة قوية بداخله لأن السياسة حتما تؤثر عليه، وقد أكد الرجل في أكثر من مرة في كتاباته «أن الدولة هي أعلى تعبير للتعاون البشري» ومن ثم جاء اهتمامه الخاص بوضع الأسس المهمة التي تمثل الأنظمة السياسية المختلفة لدى الدول، فقسم الأنظمة السياسية من خلال الدساتير الخاصة بها، وهو أمر غير معيب لأن اليونان في ذلك الوقت كانت مليئة بالمدن التي تكون كالدويلة (City States) لكل منها دستورها، وبناء عليه ركز أرسطو على ثلاثة أنواع أساسية وهي الملكية والديمقراطية والأرستقراطية، وقدم عرضا لشكل كل واحدة، وقدم لنا النماذج المختلفة لها شارحا كيف تتحول الملكية إلى حكم استبدادي فردي، وكيف يمكن أن تتحول الديمقراطية إلى حكم الغوغائية، وكيف يتحول النظام الأرستقراطي إلى نظام أوليجاركي بحيث تحكم الدولة عصابة مستفيدة، وكما لو أن الرجل كان يقرأ المستقبل، فكل نقطة خطر حذر منها أرسطو البشرية بشكل أو بآخر لا تزال تقع إلى اليوم، خاصة عند صياغة مفهوم الديمقراطية الذي لا يزال ينتظر التطبيق الوسطي السليم بعيدا عن طرفي الغوغائية والديكتاتورية.
إن كتابات أرسطو في السياسة كان محورها الأساسي معنيا بسؤال لا يزال يداهم البشرية حتى اليوم ويرافقنا عند صياغة أي دستور أو عند الوصول لمحور فارق يتعلق بالديمقراطية، وهو كيفية توحيد القوة الشعبية مع الإدارة الذكية خاصة في الدول الكبرى. ولعل إجابة أرسطو عن هذا السؤال يمكن أن تكون من أهم ما ورثناه عن هذا الفيلسوف العظيم، فمن خلال ملاحظاته حول النظم السياسية المختلفة توصل الرجل إلى ما يمكن أن نصفه اليوم بمفهوم السلطات الثلاث للدولة ممثلة في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فكان أول من ميز بينها وفصلها عن بعضها البعض، بل إن فكره السياسي الوسطي كان واضحا من خلال السعي لمحاولة إيجاد التوازن الطبيعي للأذرع المختلفة للدولة حتى يضمن نوعا من التوازن المرغوب لحماية الدولة ودستورها، ولا غرابة في أن يميل أرسطو بعض الشيء إلى حكم الأرستقراطية الوسطية المتوازنة سياسيا ببرلمان قوى من الطبقة المتوسطة، وذلك بهدف التوصل إلى وضع توازن بين السلطات والطبقات والذي اعتبره أعلى أنواع الفضيلة.
أذكر أنني استفسرت من أحد أستاذة العلوم السياسية عن أفضل دراسة قرأها في مجال السياسة، فذكر أنها كانت لأحد تلاميذه، والتي شدد فيها على أن أفلاطون وأرسطو قد تناولا كل محيط الأفكار السياسية كما نعرفها، فلم يتركا لنا شيئا جديدا نكتشفه في علم السياسة، فنظل نحن إلى يومنا هذا نجذب فكرة أو مفهوما تناولاه فنصبغه بزمننا أو تجربتنا الإنسانية، ومع ذلك فقد ظل يؤكد على أهمية الدولة في صياغة أهداف المجتمع، محذرا من انفراد الإنسان بالسلطة بجملته الشهيرة «إن الإنسان عند الاكتمال هو أفضل الحيوانات على الإطلاق، ولكن عند فصله عن القانون والعدالة فهو أسوأها على الإطلاق»، فما أشبه إنسان اليوم بحيوان الأمس!



حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
TT
20

حرب أميركا ـــ الصين التجارية... بين «واقعية» بكين و«طموح» ترمب


الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب جعل حربه الاقتصادية ضد الصين استراتيجية لواشنطن (رويترز)

ثمة فوارق جوهرية بين استراتيجيات الولايات المتحدة والصين في الرسائل السياسية-الاقتصادية المتبادلة بين البلدين العملاقين. فواشنطن، من خلال تصعيد الرسوم بسرعة وبشدة، تظهر قوتها الاقتصادية وتستخدم التصعيد أداة ضغط سياسي واقتصادي، معتمدة على واقع الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عالمية. بالمقابل، اختارت بكين نهجاً تدريجياً وأكثر تحفظاً، في البداية، ربما لتفادي التصعيد المباشر مع واشنطن ولتجنب الدخول في حرب تجارية شاملة قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.

ولكن، مع مرور الوقت، رفع الجانب الصيني ردوده تدريجياً لتصل إلى مستوى قريب من حجم إجراءات الجانب الأميركي، ما يشير إلى رد بالمثل لكن محسوب، مع إظهار حرص على التوازن وتحاشي الانجرار نحو تصعيد كامل.

التفاوت الزمني

أيضاً، يكشف الفارق بين تواريخ التصعيد بين الطرفين عن مدى تفاعل كل طرف مع الآخر وردّه على تحركاته. فالتفاوت الزمني بين التصعيدات يعكس استراتيجية قائمة على مراقبة مستمرة وحسابات دقيقة من الجانبين، حيث يعكس كل تصعيد رد فعل مدروسا، وليس ردة فعل عشوائية. وبالتالي، كل طرف يراقب الآخر ويأخذ في اعتباره تحرّكاته قبل اتخاذ قراراته، ما يعكس تنسيقاً ضمنياً بين القرارات المتخذة.

«التحكم» و«الهيبة»

من خلال هذا التصعيد المتبادل، يظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكأنه يبعث برسالة واضحة مضمونها «نحن نتحكّم بالسوق العالمي، وسنضغط بقوة».

إنه موقف يعكس صورة قوة الولايات المتحدة كداعم رئيس في الاقتصاد العالمي، ويؤكد أنها مستعدة للمضي بالضغط على الصين إلى أن تمتثل الأخيرة لمطالبها. وفي الجهة المقابلة، تسعى بكين من خلال الردّ المتدرّج إلى إرسال رسالة معاكسة مضمونها «نحن نرد بالمثل لكن بحكمة وتدرّج، ولسنا منفعلين». وهذا الموقف يعكس «توازناً» حذراً في الردود الصينية، ويعزّز من صورتها كدولة قوية اقتصادياً تستطيع اتخاذ قرارات مدروسة... بعيداً عن الانفعال وردود الفعل العاطفية.

أسلوب الرئيس الصيني ... و«الكتاب الأبيض»

في هذا السياق، يعود موقف الرئيس الصيني شي جينبينغ ليشكّل الإطار العام لفهم هذا السلوك؛ فالرئيس شدد مراراً على أن التعاون هو الخيار الصحيح الوحيد بين البلدين، وأن الصين لا تسعى إلى الهيمنة أو المواجهة، بل إلى حوار قائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. غير أن هذا الانفتاح الصيني لا يعني قبولاً بالضغط أو الإملاءات، كما يوضح «الكتاب الأبيض» الصيني، الذي أكد أن بكين «لن تقف مكتوفة الأيدي أمام محاولات الترهيب الاقتصادي»، وإن كانت في الوقت ذاته تفضل استخدام أدوات محسوبة ومدروسة.

في التاسع من أبريل (نيسان) 2025، أصدر مكتب الإعلام التابع لمجلس الدولة الصيني «الكتاب الأبيض» الذي حمل عنوان «موقف الصين بشأن بعض القضايا المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة».

لم يكن الكتاب مجرّد وثيقة حكومية عابرة، بل جاء مرافعةً استراتيجيةً شاملة، مدعومة بالأرقام والحقائق، وتكشف عن موقف بكين من العلاقة الاقتصادية الأكثر حساسية في عالم اليوم: علاقتها مع واشنطن.

ما قدّمته الصين في هذا الكتاب ليس دفاعاً بقدر ما هو دعوة إلى «الفهم الواقعي». ذلك أن العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة - وفق بكين - ليست «لعبة صفرية»، بل منظومة تكامل معقّدة، قائمة على المنفعة المتبادلة والنتائج المُربحة للطرفين. وترى جهات قريبة من بكين أن هذا المنطلق يغيب عن بعض دوائر صنع القرار في العاصمة الأميركية، التي ما زالت تعاني من تبعات «ذهول ما بعد الهيمنة»، وتُصرّ على قراءة الحاضر بعدسات الماضي الإمبراطوري.

من التعاون إلى التوتر... أرقام لا تكذب

تبدأ القيادة الصينية في «كتابها الأبيض» بتشخيص للعلاقات الاقتصادية الثنائية، فتشير إلى أن هذه العلاقة «لم تُبْنَ في فراغ، بل هي نتاج تطور طبيعي استجابت فيه قوانين السوق والمنطق الاقتصادي لحاجات كل من البلدين».

فمنذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1979، ارتفع حجم التجارة الثنائية من أقل من 2.5 مليار دولار أميركي إلى نحو 688.3 مليار دولار في عام 2024.

هذا النمو المذهل ما كان ليتحقّق لولا التكامل العميق في الموارد، ورأس المال، والتكنولوجيا، واليد العاملة، والأسواق بين البلدين. إذ أصبحت الصين سوقاً رئيسة للمنتجات الزراعية الأميركية مثل فول الصويا إلى القطن ووصولاً للغاز والأجهزة الطبية. وفي المقابل، استفاد المستهلك الأميركي من المنتجات الصينية ذات الجودة العالية والتكلفة المعقولة، ما خفّض تكاليف المعيشة ورفع مستوى القدرة الشرائية للطبقات المتوسطة والدنيا.

من الزاوية الصينية، لم يكن الفائض التجاري هدفاً مقصوداً، بل نتيجة طبيعية لتركيبة الاقتصاد العالمي، وللخيار الأميركي بالتركيز على الصناعات ذات القيمة المضافة العالية والاعتماد على الاستيراد من الصين في قطاعات التصنيع. ثم إن تقييم هذا الفائض باستخدام منهجية «القيمة المضافة» يغيّر الصورة جذرياً، إذ إن القيمة التي تحصل عليها الصين من العديد من صادراتها لا تمثل سوى جزء بسيط من القيمة النهائية للسلع.

واشنطن والتناقض البنيوي: عن العجز والتضليل

على الرغم من هذه الحقائق، تصرّ بعض الجهات السياسية والاقتصادية - اليمينية، بالذات - في واشنطن على تصوير العلاقات الاقتصادية مع الصين على أنها سبب رئيس للعجز التجاري الأميركي، مُتناسية العوامل البنيوية التي تعاني منها منظومتها الصناعية، بما في ذلك ارتفاع التكاليف الداخلية، ونقل الصناعات إلى الخارج، والتركيز على قطاع الخدمات على حساب الصناعة التحويلية.

الإحصاءات التي أوردها «الكتاب الأبيض» تشير إلى أن الولايات المتحدة تحقق فوائض كبيرة في تجارة الخدمات مع الصين بلغت 26.57 مليار دولار في عام 2023، كما أن الشركات الأميركية في الصين تحقق أرباحاً ضخمة، إذ بلغ حجم مبيعاتها في السوق الصينية عام 2022 نحو 490.52 مليار دولار أميركي، بفارق يزيد على 400 مليار دولار عن مبيعات الشركات الصينية في الولايات المتحدة.

بلغة الأرقام، يتّضح أن المكاسب المتبادلة أكثر توازناً مما يحاول بعض الساسة الأميركيين تصويره. وإذا ما جرى احتساب المبيعات والخدمات وتدفقات الاستثمار بشكل مشترك، فإن العلاقات الصينية ـ الأميركية تبدو بعيدة كل البعد عن «الرواية الأحادية» التي تتكلّم عن «استغلال» أو «سرقة» اقتصادية.

الحرب التجارية ... سلاح ذو حدّين

في الحقيقة، لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي، وفرضت منذ عام 2018 رسوماً جمركية أحادية الجانب على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية. ومع أن هذه الإجراءات فُرضت تحت شعار «حماية الصناعة الوطنية»، فإن الواقع أثبت عكس ذلك.

وحقاً، تفيد دراسة لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي إلى أن أكثر من 90 % من تكاليف هذه الرسوم انتقلت فعلياً إلى المستهلكين الأميركيين. كذلك فإن هذه الإجراءات لم تساهم في تقليص العجز التجاري الإجمالي، ولم تُعِد الحيوية للصناعة الأميركية. بل على العكس، أدّت إلى ارتفاع أسعار السلع، وتباطؤ النمو، وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

بل، من المفارقات أن هذه الحرب التجارية تزامنت مع احتجاجات في الداخل الأميركي، لا سيما من القطاعات الزراعية والصناعية المتضرّرة، التي خسرت أسواقها في الصين بسبب سياسات التصعيد. ولقد أظهرت بيانات السوق تراجع التوقعات بشأن النمو الاقتصادي الأميركي على خلفية هذه السياسات.

الصين: لا صدام ... ولا تهديد

من جهة ثانية، جاء في «الكتاب الأبيض» أيضاً أن «الصين لا تسعى إلى حرب تجارية، لكنها في ذات الوقت لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره ترهيباً اقتصادياً». وبالنسبة لبكين، فإن التعاون هو الخيار الأول، لكن الرد بالمثل خيار دائم إذا اقتضت الحاجة.

وهنا تؤكد بكين أن الحل الأمثل هو «الحوار المتكافئ، واحترام المصالح الأساسية لكل طرف»، لا سيما أن العالم لم يعُد ساحة للابتزاز، بل غدا شبكة معقدة من المصالح. وعليه فالانفصال القسري لن يؤدي إلا إلى مزيد من الخسائر للطرفين، وربما للنظام الاقتصادي الدولي بأسره.

ووفق جهات مقرّبة من بكين، فبين أكثر ما يلفت النظر في الموقف الصيني، ليس فقط إصرار بكين على «الحقائق الاقتصادية»، بل أيضاً محاولتها معالجة جذور الخلل في نظرة واشنطن للصين.

وحسب هذه الجهات، فإن نسبة عالية من الساسة الأميركيين ووسائل الإعلام التابعة لهم، لا تزال تنظر إلى الصين من خلال «عدسة الحرب الباردة»، فإما أن تكون الصين «شريكاً طيعاً» أو «عدواً مطلوباً تحجيمه». لكن الحقيقة التي تتجاهلها هذه الرؤية هي أن الصين المعاصرة ليست دولة تُدار وفق نص مكتوب في واشنطن، بل أمة عمرها خمسة آلاف سنة، سلكت طريقاً تنموياً خاصاً بها، قائماً على الواقعية، والإصلاح التدريجي، والتفاعل العميق مع العولمة. وهذا بالضبط ما عبّر عنه بوضوح كبير الدبلوماسيين الصينيين يانغ جيه تشي خلال قمة ألاسكا الشهيرة حين قال: «واشنطن لا تملك المؤهلات اللازمة للتكلّم إلى الصين من موقع قوة».

الهيمنة تُفقد البوصلة

أخيراً، يقول مقربّون من بكين إنه من خلال تتبع سياسات واشنطن، يظهر أن الأزمة الأعمق ليست في التجارة أو التوازن الاقتصادي، بل في نمط التفكير السائد في واشنطن. وحسب هؤلاء «هناك تيار سياسي أميركي لا يستطيع تقبّل فكرة عالم متعدّد الأقطاب، قارئاً في صعود الصين تهديداً لامتيازات استمرت لعقود، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية».

بالتالي - والكلام لا يزال للمقربين من بكين - «هذا النمط من التفكير جعل بعض السياسيين في واشنطن كمن يحاول قيادة قطار فائق السرعة بمحرك عربة تجرها الخيول. فهم يصرّون على استخدام معايير القرن التاسع عشر لفهم تفاعلات القرن الحادي والعشرين، ويحاولون لعب أدوار متناقضة في الوقت نفسه: الحكم واللاعب والمُشرّع». لطالما استخدمت واشنطن التعريفات الجمركية سلاح ضغط اقتصادي على الصين