فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

الوعظ والوعظ المضاد في خطاب رئيسة حزب «البديل لألمانيا» اليميني

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا
TT

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

فراوكه بيتري.. أحدث قادة متطرفي أوروبا

لمع أخيرًا اسم جديد في سماء السياسة الأوروبية القومية اليمينية المتطرفة المعادية للاجئين والإسلام، هو اسم السياسية الألمانية فراوكه بيتري، زعيمة حزب «البديل لألمانيا». والمفارقة مع الزعيمة الجديدة أنها في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عمّمت رسالة إلكترونية إلى أصدقائها تقول فيها إنها وزوجها الواعظ الكَنسي سفين بيتري، سيمشيان من الآن فصاعدًا في طريقين مختلفين. ومنذ ذلك الحين ما عاد سكان بلدة تاوتنهين - القريبة من مدينة لايبزيغ بأقصى شرق ألمانيا - يشاهدون بيتري كثيرًا في المدينة التي يلقى زوجها وعظه من على منصة كنيستها. بل، قبل يوم واحد من تاريخ تلك الرسالة، يوم الأحد بالضبط، كان على السياسية الشعبوية الألمانية، التي ترفع لواء العداء للاجئين والأجانب، أن تستمع إلى مواعظ زوجها في تلك الكنيسة. وقرأ سفين: «كنت ظمآن ورويتموني، وكنت غريبًا فآويتموني، وكنت عاريًا فكسيتموني».
ثم وعظ الناس بضرورة الترحيب باللاجئين، مقتبسًا كلمات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الشهيرة: «سنحقق ذلك!». ويعرف القس بالتأكيد أن زوجته كانت تعظ في الصحف بشعار «لا نريد أن نحقق ذلك!»، المناقض لشعار ميركل. وبعد ذلك، قال سفين بيتري للصحافة إنه لن يغلق بابه عندما يطرقه محتاج ذو نيات طيبة، وإن من يريد أن يأتي فليأت.
بيتري، السياسية الصاعدة على أكتاف اللاجئين، والباحثة في الكيمياء، ضحت هكذا بحياة زوجية طالت 14 سنة، وبمصير أربعة أطفال، مقابل تمسكها بسياستها المتطرفة التي تثير اشمئزاز كثيرين. وذكرت صحيفة «تزايت» الأسبوعية المعروفة أن مطلقها كان يعاني منذ سنوات، وأنه كان قبل «موعظة الانفصال» تلك يكتب الآراء نفسها على صفحته في موقع «فيسبوك»، وأن ما يكتبه عبارة عن برنامج مضاد لبرنامج «حزب البديل لألمانيا». ويذكر أنه قبل انتفاضته على الحزب اليميني القومي المتطرف، انضم سفين بيتري إلى الحزب الديمقراطي المسيحي، وهو الحزب الذي وصفته فراوكه بـ«حزب الكارتيل» مرة، وشكت زعيمته ميركل إلى المحكمة بتهمة «تهريب اللاجئين». ورغم استعداده الكبير لتقديم العون للاجئين، وصفت زوجته مرة المتطوعين لمساعدة اللاجئين بأنهم «مغفلو سخرة».
* «سيدة أعمال» مفلسة
ولدت فراوكه ماركهاردت (بيتري لاحقًا) يوم 1 يونيو (حزيران) 1975 قرب مدينة دريسدن عاصمة ولاية سكسونيا بشرق ألمانيا. ودرست شؤون الكيمياء في جامعة ريدينغ البريطانية قبل أن تحصل على الدكتوراه في الكيمياء في جامعة غوتينغن الألمانية العريقة. يذكر أنها ابنة أم تخصصت بالكيمياء، وأب مهندس، عاشا في ألمانيا الشرقية حتى فترة أشهر قليلة سبقت انهيار «جدار برلين» استغل فيها الأب زيارة عمل إلى برلين الغربية للبقاء.
لبيتري الكثير من المقالات والأبحاث في المجلات العلمية، ونالت 7 جوائز رسمية وغير رسمية نظير دراساتها وأبحاثها في الشؤون الكيماوية، وخصوصًا تطوير مادة كيماوية لاصقة لإطارات السيارات (اسمها هايدروبور). كذلك فإنها أسست شركة لإنتاج هذه المادة برأسمال قدره مليون يورو بالقرب من لايبزيغ، وأعلن إفلاس الشركة (10 عمال) قبل ثلاثة أيام من صعودها السياسي إلى برلمان سكسونيا عام 2014. ويومذاك رفعت النيابة العامة عليها قضية بتهمة «الإفلاس الاحتيالي»، ويقال إن شراء الشركة من قبل شركة بافارية أدى إلى إسقاط التهمة عنها.
وواقع الحال أن مرتّلة الكنائس وسيدة الأعمال «الناجحة» بيتري، بدأت نشاطها السياسي ضمن الجماعات الداعمة لحملة الحزب الديمقراطي المسيحي الانتخابية حتى عام 2012. وأسهمت بعد ذلك بتأسيس «حزب البديل لألمانيا» في عام 2013، وأصبحت واحدة من الثلاثي الذي يقود الحزب. ثم فازت بأصوات 60 في المائة من نواب الحزب في عام 2015، وأصبحت زعيمة الحزب منذ ذلك الحين. وجاء هذا الفوز بعد سنتين من الصراع بين الجناح القومي اليميني الذي تقوده، وجناح «الاقتصاديين الليبراليين» الذي كان يقوده الرجل الثاني في الحزب بيرند لوكه. ويعكس هذا الفوز نفوذها بين أعضاء الحزب بعد أن فازت في عام 2012 بجائزة «أنجح سيدة أعمال في عالم يسوده الرجال»، التي تمنحها ولاية سكسونيا.
* السلاح ضد اللاجئين
لا تختلف الشعارات الانتخابية لـ«حزب البديل لألمانيا»، وزعيمته بيتري، عن برنامج أي حزب قومي يميني متطرف آخر في أوروبا، بدءًا برئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وانتهاء برئيسة الوزراء البولندية بياته شيدوو. بل إن البرنامج الذي أُقرّ أخيرًا في مؤتمر الحزب في نهاية أبريل (نيسان) الماضي، ويحمل بصمات بيتري، يؤكد على المفاصل السائدة نفسها بين ممثلي اليمين المتطرف، وهي العداء للاجئين والأجانب، والوقوف ضد الوحدة الأوروبية، والدعوة للخروج من منطقة اليورو، والعداء للإسلام، ورفض القوانين التي تتيح الإجهاض.
من ناحية ثانية، تطالب بيتري دائمًا بوقف المزيد من إجراءات تعميق الوحدة الأوروبية، وتدعو إلى «ألمنة» ألمانيا. وتحدثت لصحيفة «تورينغن لانديستزايتونغ» عن ضرورات تقليص نفوذ الاتحاد الأوروبي، ودراسة أفضل سبل الخروج من منطقة اليورو. وأضافت أن الوحدة الأوروبية جرّدت ألمانيا من ديمقراطيتها وحريتها بالتدريج، ولا بد من العودة إلى الديمقراطية «الحقيقية».
وفي قضية اللاجئين والهجرة تعظ بيتري، من على منصة مؤتمر حزبها، من جديد مستخدمة كلمة «الحقيقية»، لأنها طالبت بالسماح «للاجئين الحقيقيين» فقط، ورفض اللاجئين «الاقتصاديين» و«السياحيين»، وفق تعبيرها. وطالبت بوضع ضوابط «حقيقية» ضد «إساءة استخدام حق اللجوء»، وحثت على ضرورة تقنين هجرة العمالة إلى أوروبا «بحسب الحاجة».
ولقد أثارت بيتري بتصريحاتها، التي تطالب باستخدام السلاح ضد اللاجئين، امتعاض بعض قادة حزبها من «الجناح الليبرالي» أيضًا، إذ إنها قالت لصحيفة «مانهايمر مورغن» في يناير (كانون الثاني) الماضي إن على شرطة الحدود «منع تسلل اللاجئين إلى ألمانيا وإن بقوة السلاح». ورد الباحث القانوني كريستوف شونبيرغر على هذا التصريح بالقول إن استخدام السلاح ممكن على الحدود، ولكن ليس ضد أناس عزّل.
* عداء واضح للإسلام
وفي المؤتمر الأخير صحّت التوقعات حول تكريس برنامج الحزب بالكامل لقضايا العداء للاجئين والإسلام. وضمّن الحزب برنامجه فقرات تشدد على أن «الإسلام لا ينتمي إلى ألمانيا»، وأنه «لا علاقة له بالديمقراطية»، وأكد على منع الحجاب في المدارس والدوائر، وحظر بناء منارات المساجد.
ولكن هل تفضل بيتري اسم «الشعبوي» أم «المعادي للإسلام» صفة لحزبها؟ تقول بيتري لا هذا ولا ذاك، لأن رفض الإسلام بالنسبة لها ليس أداة لاصطياد الناخبين اليمينيين بل هو وسيلة لمعالجة مشكلات ألمانيا، كما ذكرت في مقابلة مع تلفزيون «ن.ت.ف».
ووفق بيتري فإن الإسلام «يتناقض مع فقرات الدستور الألماني»، فلماذا لا تطالب بحظره رسميًا، لأن محكمة الدستور تحظر أي نشاط يتعارض مع الدستور؟ وهنا تجيب: «لأن المسلمين المندمجين جزء من ألمانيا ولا مانع من ممارستهم دينهم إذا كانوا يفعلون ذلك بشكل شخصي وسلمي».
في المقابل، في قضية المرأة تقف بيتري بوضوح إلى جانب الاحتفال بـ«يوم المرأة العالمي»، وتطالب بـ«كوتا» للنساء في الدوائر والبرلمانات والشركات، لكنها تقف بقوة ضد القانون رقم 218 الذي يتيح الإجهاض عند الضرورة. وتقول إن إلغاء هذه الفقرة فيه الحل لمشكلة قلة الولادات في ألمانيا، التي تعتبر صاحبة أقل معدل ولادات في العالم. وترى السياسية اليمينية المتطرفة أن على كل عائلة أن تنجب ثلاثة أطفال، وتعتبر نفسها من الروّاد هنا بحساب أن لديها أربعة أطفال. وعلى أي حال، يفسّر دارسو حياتها السياسية موقفها الإيجابي من «يوم المرأة العالمي» و«الكوتا» بتربيتها ونشأتها السابقة في ألمانيا الشرقية.
* ... ولليسار
ولن تصبح بيتري يمينية متطرفة «حقيقية» ما لم تتصف بالعداء لليسار الألماني وتخشى منه، لذلك فإنها لا تكل عن مطالبة الدولة الألمانية بكبح جماح اليسار. ولا تفرق بتري هنا بين اليسار «الحقيقي» الممثل في البرلمان الألماني والبرلمانات المحلية واليسار المتطرف، ولا بين الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديمقراطي ومنظمة «جناح الجيش الأحمر» المحظورة. فكلهم بالنسبة لها يسار ينبغي حظره.
وذكرت بيتري لتلفزيون «ن.ت.ف» أن الدولة الألمانية تحارب اليمين المتطرف، لكنها لا تفعل شيئًا ضد اليسار. وأضافت بضرورة منع تمويل الأحزاب اليسارية، وحرمانها من حق التظاهر. لماذا؟ لأن اليسار يواجهون مظاهرات حزبها ويشتمون أعضاءه. ومعروف أن المظاهرات المناهضة لمظاهرات حزب البديل لألمانيا تضم كل الأحزاب الأخرى في البرلمان، إضافة إلى ممثلي المنظمات الكنسية ومنظمات حقوق الإنسان.. إلخ.
من ناحية أخرى، تعاني بيتري - التي قد تعود إلى اسمها الأصلي ماركهاردت - بشكل دائم من الصحافة والصحافيين الذين لا يكفّون عن لعن حزبها وإظهاره بمظهر «الشيطان»، بحسب تعبيرها. فكل الصحافيين في نظرها «معادون لها».. و«تقطر أسئلتهم بالسم» أثناء المقابلات. وحقًا، اتهمت بيتري الصحافة الألمانية بـ«اللامهنية» والانحياز، مما استدعى رد نقابة الصحافيين الألمان عليها بالقول إن «سيدة حزب البديل لألمانيا لا تفهم فن الصحافة ولا تمتلك (بديلاً) عن أساليب المقاطعة ورفض الرد على الأسئلة». وردًا على قول بيتري إنها «تشعر بالألم» من تعامل الصحافة معها ومع حزبها، قال المتحدث الرسمي باسم نقابة الصحافيين هيندريك زورنر: «على من يشعر بالألم الذهاب إلى الطبيب».
وكانت بيتري قد خاضت قبل فترة قصيرة معركة صغيرة مع نقابة الصحافيين ضد مقدمة البرنامج الصباحي المشترك في قناتي التلفزيون الألماني الأولى والثانية، دنيا الحيالي (العراقية الأصل)، إذ اتهمت الزعيمة اليمينية دنيا خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة «ز.د.ف» بالكذب قائلة إنها «أنف بينوكيو»، وإنها منحازة ولا تفهم مبادئ الصحافة. وجاءت هذه الاتهامات بعد نيل الحيالي جائزة «الكاميرا الذهبية» لقاء تقاريرها المصورة حول «الأفكار اليمنية المتطرفة» في مظاهرات «حزب البديل لألمانيا».
بل وعمّمت بيتري بيانًا يتهم دنيا الحيالي بأنها «عاجزة عن الفصل بين عواطفها وعملها في تلفزيون يموّل نفسه من الضرائب المفروضة على المواطنين». وأضاف البيان أن الحيالي «تبدو ناشطة سياسية أكثر منها صحافية محترفة، لأنها تنشط أيضًا في تنظيمات تدافع عن اللاجئين». ومن ثم وقفت نقابة الصحافيين الألمان إلى جانب الزميلة، مطالبين كل الأحزاب بالتعامل بشكل ديمقراطي وعادل مع الصحافيين الذين ينقلون الحقيقة إلى المواطنين، دون أن يدسوا «أنوف بينوكيو فيها». وطالبت النقابة أيضًا كل الأحزاب الألمانية بالتعامل بعدالة مع الصحافيين الذين يؤدون واجبهم. ووصفت النقابة الحيالي بأنها صحافية محايدة ومحترفة استحقت التقدير لقاء عملها.
أيضًا، رفض توماس فورمان، مدير البرنامج الصباحي في «ز.د.ف»، وصف الحيالي بـ«الناشطة السياسية»، مشددًا على تجردها. وردّ فورمان على اتهام الحيالي بالعلاقة مع منظمة «احترام.. لا مكان للعنصرية» بالتساؤل: لماذا تنزعج بيتري من النشاط ضد العنصرية، إذا كانت غير عنصرية؟ وكانت الحيالي، في كلمتها عند تسلّمها الجائزة، قد عبرت عن قناعتها بأن من يرفع الشعارات العنصرية لا بد أن يكون عنصريًا.
* «الأحمر» و«الأخضر»
على صعيد آخر، يظهر الساسة الألمان دائما بربطات عنق، أو بقمصان أو تنورات ذات ألوان تعكس تلوناتهم السياسية. وهكذا يظهر وزير الخارجية فرانك - فالتر شتاينماير بربطة عنق حمراء تمثل لون حزبه الديمقراطي الاشتراكي، وكان الراحل هانز ديتريش غينشر يظهر دائمًا بربطة عنق صفراء تمثل لون حزبه الليبرالي. لكن بيتري تحاول قلب هذه المفاهيم الآن كما يبدو، لأنها ظهرت في مؤتمر حزبها الأخير في شتوتغارت بتنورة حمراء وسترة خضراء على قميص أبيض. وذكرت لوكالة الأنباء الألمانية لاحقًا أنها أرادت بذلك القول إنها قد «احتلت» هذه الألوان الآن، وإنها تريد لهذه الأحزاب أن تفهم أنها غير قادرة على إيقاف مسيرتها.



3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
TT

3 «سيناريوهات» لتطور الوضع حول كورسك


من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)
من آثار المعارك على جبهة كورسك (رويترز)

لا شك في أن التوغل الأوكراني المباغت داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك الحدودية الأسبوع الفائت، شكّل مفاجأة صادمة لموسكو، التي انشغلت خلال الأشهر الأخيرة بتسجيل إنجازاتها على الأرض، ومستوى التقدم البطيء ولكن المتواصل، على عدد من الجبهات. كانت كييف تصارع خلال أشهر لتأكيد قدرتها على الصمود أمام الهجمات الروسية الناجحة على محوري خاركيف ودونيتسك، ولتوصل رسالة إلى الغرب مفادها أن المساعدات التي تقدم إلى أوكرانيا فعالة وضرورية، وأن مقولة «الانتصار الروسي المؤلم ولكن المحتوم» التي بدأت تأخذ رواجاً أكثر في الغرب، ليست أكيدة. في هذه الظروف جاء هجوم كورسك ليقلب موازين القوى، ويضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام إحراج غير مسبوق منذ اندلاع الحرب قبل ثلاثين شهراً.

وجّهت أوكرانيا ضربة للكرملين، حين سلّطت الضوء على فشله في حماية أراضي روسيا وحطّمت رواية الرئيس فلاديمير بوتين أن روسيا ظلت إلى حد كبير غير متأثرة بالأعمال الحربية على الجبهات البعيدة.

التوغّل الأوكراني في روسيا أرسل أيضاً إشارة قوية إلى حلفاء كييف أن الجيش الأوكراني يمكن أن ينتزع زمام المبادرة ويلحق هزيمة ولو محدودة حتى الآن، بالجيش الروسي. وهذه رسالة مهمة بشكل خاص قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية. وفي إطار السجالات الغربية المتزايدة حول آفاق دعم أوكرانيا وتداعيات الحرب المتواصلة على البلدان الأوروبية.

مجريات العملية وأهدافها

بعد أشهر من التراجع على الجبهة الشرقية، أطلقت أوكرانيا عملية واسعة النطاق غير مسبوقة في منطقة كورسك الحدودية الروسية، سمحت لقواتها بالتوغل، حسب محلّلين، حتى عمق 35 كيلومتراً على الأقل، والسيطرة على نحو 80 بلدة وقرية روسية بمساحة إجمالية تزيد على 1000 كيلومتر.

يوم 6 أغسطس (آب) الحالي، تدفقت القوات الأوكرانية إلى منطقة كورسك من اتجاهات عدة، وسرعان ما اجتاحت عدداً قليلاً من نقاط التفتيش والتحصينات الميدانية التي يحرسها حرس الحدود الروس المسلحون تسليحاً خفيفاً. وتخطّت القوات الأوكرانية كذلك وحدات المشاة الروسية على حدود المنطقة الروسية التي يبلغ طولها 245 كيلومتراً (152 ميلاً) مع أوكرانيا.

وعلى النقيض من الهجمات السابقة التي شنّتها مجموعات صغيرة من المتطوّعين الروس الذين يقاتلون إلى جانب القوات الأوكرانية، ورد أن التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك شمل هذه المرة وحدات من ألوية عدة من الجيش الأوكراني المخضرم.

وأفاد مدوّنون عسكريون روس بأن مجموعات أوكرانية متنقّلة تتألف من مركبات مدرعة عدة، قادت كل منها بسرعة عشرات الكيلومترات (الأميال) إلى داخل الأراضي الروسية، متجاوزة التحصينات الروسية، وزرعت الذعر في جميع أنحاء المنطقة. وشكّل هذا التطور ضربة واسعة لثقة الروس بتقدّم قواتهم على الجبهات، لا سيما أن هذه المساحة التي تحققت السيطرة عليها في أسبوع واحد، تعادل تقريباً المساحة التي سيطرت عليها روسيا في أوكرانيا منذ بداية العام.

الهدف النهائي

ما زال الهدف النهائي من عملية كورسك غير واضح تماماً، رغم الخطوات الأوكرانية على الأرض، بما في ذلك على صعيد الحديث عن إعلان منطقة عسكرية وفتح ممرات إنسانية لخروج المدنيين، أو الخطة التي تكلمت عن إنشاء «منطقة عازلة» في كورسك لتخفيف الضغط المدفعي والصاروخي الروسي على المناطق الأوكرانية المحاذية للحدود. لكن الأكيد وفقاً لتقدير خبراء عسكريين أن درجة نجاح الهجوم المباغت فاجأت حتى الأوكرانيين أنفسهم، الذين بدأوا نقاشات لتحديد آليات الإفادة من الوضع الجديد.

تقارير روسية تشير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية في كورسك تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية، وسمحت بتقدم سريع للآليات داخل المناطق الروسية، مدعومة بهجمات من الطائرات المُسيّرة وحماية الدفاع الجوي. وهذا يعكس أن كييف حصلت حتماً على مساعدة لوجستية واستخباراتية قوية من جانب الغرب، الذي ربما يكون، بدوره، فوجئ بتوقيت العملية وحجمها، لكنه بالتأكيد كان على علم بجانب من التخطيط لعملية كبيرة محتملة.

لقد ربح الأوكرانيون عملياً مع السيطرة على مساحة من الأرض الروسية موطئ قدم في روسيا يمكّنهم من إرسال مجموعات استطلاع للبحث عن نقاط ضعف هناك، واستقدام قِطع المدفعية لقصف أهداف داخل عمق أراضيها.

في المقابل، قال مسؤول أميركي إن واشنطن ترى أن أحد أهداف عملية كورسك هو قطع خطوط الإمداد الروسية للجبهة الشرقية، حيث ينفّذ الجيش الروسي هجوماً منذ مايو (أيار) الماضي.

وتقول مصادر إنه بعيداً عن الانتصارات التكتيكية، أظهرت أوكرانيا قدرتها على التخطيط بسرّية لعملية هجومية وتنفيذها، خصوصاً بعد فشل هجومها المضاد الصيف الماضي، الذي طرح تساؤلات في الداخل والخارج حول قدرتها على مواصلة «حرب الخنادق» الطاحنة أمام الهجوم الروسي.

وفقاً لخبراء، سعت كييف عبر شن هذا التوغّل إلى إجبار الكرملين على تحويل الموارد من منطقة دونيتسك (في شرق أوكرانيا)، حيث شنّت القوات الروسية هجمات في قطاعات عدة وحققت مكاسب بطيئة ولكن ثابتة، معتمدةً على تفوقها في القوة النارية. وإذا تمكنت أوكرانيا من التمسك ببعض مكاسبها من التوغّل داخل روسيا، فمن شأن هذا تعزيز موقف كييف في مباحثات السلام المستقبلية، وقد يسمح لها بتبادل هذه المكاسب مقابل الأراضي الأوكرانية التي تحتلها موسكو.

وعلى الرغم من النجاحات الأولية للتوغّل الأوكراني داخل روسيا، فإنه قد يتسبب في استنزاف بعض أكثر الوحدات قدرةً في أوكرانيا، ويترك القوات الأوكرانية في دونيتسك من دون تعزيزات حيوية، كما أن محاولة تأسيس وجود أوكراني دائم في منطقة كورسك قد تشكّل تحدياً للقوات الأوكرانية، التي ستغدو خطوط إمدادها عُرضة للنيران الروسية.

رد فعل موسكو

لا شك أن التوغل المباغت أحرج الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وصف أكبر هجوم بري تتعرض له بلاده منذ الحرب العالمية الثانية بأنه مجرد «استفزاز واسع النطاق»؛ أي إن الكرملين لم يتعامل مباشرة مع التطور بصفته حدثاً كبيراً يمكن أن يؤثر على مسار الحرب وعلى استراتيجيات إدارة الصراع.

ولعل الفشل الروسي في توقع الهجوم أولاً، وفي مواجهته ثانياً، سيخلّفان تداعيات واسعة على المستوى الداخلي؛ إذ لم يكن الروس يتوقعون قبل ثلاثين شهراً عندما أطلق بوتين «العملية العسكرية الخاصة» أن يكونوا يوماً أمام مشهد الدبابات الألمانية وهي تتجوّل فوق أراضيهم، ولا ناقلات الجنود والمدرعات الغربية وهي تبني تحصينات ومواقع دفاعية في مدنهم.

هذا المشهد مع قسوته سيشكّل حافزاً لرفض أي تسويات، ووضع موارد ضخمة بهدف إعادة تحرير المناطق التي دخلتها القوات الأوكرانية.

على المستوى العسكري، حيّر المراقبين فشل روسيا بشن هجوم مضاد سريع ضد الأوكرانيين والحلفاء الغربيين. ولم تنقل وزارة الدفاع الروسية حتى الآن قواتها على نطاق واسع من الدونباس إلى منطقة كورسك.

تبرير ذلك بسيط للغاية، وهو أن موسكو ترى أنه بين أبرز أهداف تخفيف الضغط عن قطاعي خاركيف ودونيتسك، لذلك حرص بوتين خلال اجتماعات القيادة العسكرية على تأكيد أن الهجوم الروسي في العمق الأوكراني لم ولن يتأثر. لكن إلى أي درجة يمكن أن تحافظ موسكو على هذه الوتيرة في التعامل مع الحدث؟

هذا سؤال ما زالت السلطات المختصة في روسيا لم تقدم جواباً بشأنه.

لقد تحرك الهجوم بسرعة كبيرة، وكان رد الروس بطيئاً للغاية لدرجة أن أوكرانيا ربما بدأت تعيد النظر في أهدافها. وبدايةً كانت كييف مدفوعة بالرغبة في رفع معنويات الأوكرانيين وتحفيز الدعم العسكري من حلفائها الغربيين. وبالإضافة إلى ذلك، سعت القوات الأوكرانية إلى تحويل القوات الروسية عن خط المواجهة في منطقة دونيتسك، حيث تتقدم القوات الروسية بالقرب من توريتسك وبوكروفسك وتشاسوفوي يار. وهذا يفسر كلام العسكريين الأوكرانيين بعد مرور أسبوع على بدء الهجوم عن خطط لإنشاء «منطقة عازلة» على الأراضي الروسية أو تعزيز تحصينات إضافية فيها.

زيلينسكي (رويترز)

مغامرة زيلينسكي تقلق الغرب

في هذه الأثناء، يقول خبراء غربيون إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي اتخذ بإطلاق العملية قراراً جريئاً للغاية، يكاد يقترب من أن يكون مغامرة حقيقية؛ إذ قال زيلينسكي خلال أيام من بدء الهجوم إن كييف «تسعى إلى نقل الحرب» داخل روسيا، وإن أوكرانيا «تثبت أنها قادرة على ممارسة الضغط الضروري؛ الضغط على المعتدي».

وعندما بدأ التوغل، في 6 أغسطس، بدا الأمر كأنه «عرض آخر للشجاعة العسكرية» من قِبل «الفيلق الروسي»، وهو واحدة من مجموعات الميليشيات المناهضة لبوتين، لكن بعد مرور يومين فقط أصبح من الواضح أن كييف نفسها تحاول توجيه ضربة استراتيجية مضادة لروسيا.

المرجح أن وراء الهجوم قراراً مباشراً من زيلينسكي، الذي ضغط وفقاً لتقارير لعدة أشهر على قادته العسكريين لشنّ هجوم صيفي. ونظراً للمشاكل المتعلقة بالقوى البشرية والموارد في أوكرانيا، كان القادة متردّدين، لكن زيلينسكي كان يسعى جاهداً إلى عكس السرد القائل إن أوكرانيا تخسر الحرب. بل حاول فعلاً إيجاد طريقة لوقف خسارة المزيد من الأراضي في شرق أوكرانيا، وتعطيل هذه الديناميكية أو عكسها. وهذا الخيار العسكري الاستراتيجي «أسلوب إلى حد كبير جريء ومحفوف بالمخاطر»، وفقاً لتعبير معلق عسكري.

أما القادة الغربيون فيشعرون الآن بالقلق، وبخاصة مع استخدام بعض المعدات الأرضية (مركبات قتالية مدرّعة، ومركبات مشاة مدرّعة، وقاذفات صواريخ، ومدافع هاون، ووحدات دفاع جوي أرضية) لحلف شمال الأطلسي (ناتو) داخل روسيا، الأمر الذي يمثّل تجاوزاً لعتبة أو «خط أحمر» آخر، ولو أن القادة الأوكرانيين طلبوا الإذن الغربي مسبقاً لما حصلوا عليه. لذلك أقدم زيلينسكي على الهجوم من دون تنسيق واسع، وفقاً لتقديرات مع الغرب. وهذا يفسر أن واشنطن في الأيام التالية قالت إنها تنتظر معلومات إضافية من كييف حول الهجوم.

مع هذا، مغامرة زيلينسكي محفوفة بالمخاطر؛ فليس أمام موسكو الآن من خيارات سوى فعل كل ما يلزم لوقف التوغل، ولا يمكن للضربة المضادة الأوكرانية في كورسك أن تحقّق سوى أهداف محدودة.

وكحد أقصى، قد تأمل القوات الأوكرانية حول كورسك في توسيع نطاق وصولها إلى ما هو أبعد من احتلال محطة الطاقة النووية فيها، مقابلاً لاحتلال روسيا لمحطة زابوريجيا الأوكرانية عام 2022، لكن هذه الأهداف ستعتمد على المدة التي ستستغرقها العملية، وبأي طريقة يمكن للأوكرانيين الصمود داخل كورسك.

تشير تقارير إلى أن التقدم السريع للقوات الأوكرانية تحقَّق بفضل مُعدات حرب إلكترونية قطعت الاتصالات الروسية

ماذا بعد كورسك؟

يقول المحلل العسكري فرانتز ستيفان غادي، من جنيف، إن المرحلة المقبلة من عملية كورسك تعتمد على الاحتياطي المُتاح لدى كل طرف، وكيف سيستخدمه على الجبهة. ويتابع: «ستحتاج أوكرانيا إلى نقل جنود وموارد عسكرية إضافية للجبهة كي تحافظ على زخم الهجوم، في حين ستسعى روسيا لصدّ الهجوم بسرعة، واستخدام قوتها النارية كالقنابل المنزلقة».

ويرى غادي، كما نقلت عنه «وول ستريت جورنال»، أن المشكلة الرئيسية في عملية كورسك أنها لا تُغير الوضع على الجبهة الشرقية، حيث ما زالت القوات الروسية تتقدم، وإن كان بوتيرة أبطأ. ويضيف: «عملية كورسك تتطلب قدراً كبيراً من الموارد، خصوصاً جنود المشاة، الذين قد تحتاج إليهم أوكرانيا على جبهة أخرى». وعلى الجبهة الشرقية يعاني الضباط الأوكرانيون قلة عدد الجنود، ويتساءلون عن مغزى مهاجمة الأراضي الروسية، رغم أنهم يأملون أن تؤدي هذه العملية الهجومية في كورسك إلى تخفيف الضغط على جبهتهم.

وهنا، يرجّح أن الجيش الأوكراني يفضّل الوقوف والقتال في الجيب الذي أنشأه، وربما يتم تعزيزه، لكن الأعداد الهائلة من الجنود الذين سترسلهم موسكو ستُنبئنا في نهاية المطاف بشكل القتال المقبل. واستمرار وجود هذا التوغل داخل الأراضي الروسية سيكون أمراً غير مقبول بالنسبة للرئيس بوتين.

 

بوتين (رويترز)

الخيارات الثلاثة: مزيد من التقدم، تراجع أو انسحاب جزئي

يتوقع الجنرال الأسترالي المتقاعد، ميك رايان، 3 سيناريوهات لتطور الأحداث في منطقة كورسك. يتضمن السيناريو الأول، الأكثر اندفاعاً، محاولة التمسك بالأراضي التي أمكن الاستيلاء عليها، حتى التقدم أكثر من أجل سحب مزيد من القوات الروسية من أوكرانيا، والحصول على أوراق مساومة في المفاوضات المستقبلية. لكن هذا أمر محفوف بالمخاطر، وفق المحلل، لأنه سيكون من الصعب على القوات الأوكرانية توفير غطاء للحرب الإلكترونية والدفاع الجوي، حتى للقوات المتمركزة جيداً في مثل هذه المنطقة الواسعة.أما السيناريو الثاني فهو التراجع وإنقاذ القوات والمعدات وإعادة تجهيزها، وقد تسلحت بروح معنوية عالية، في محاولة تحرير أراضيهم العام المقبل. وأما الخيار الثالث فيقوم على الانسحاب جزئياً إلى مواقع أكثر أمناً أقرب إلى الحدود الأوكرانية. وسيتطلب الأمر قوات أقل عدداً، وتوفير دعم مدفعي أفضل ولوجستيات أفضل، وتأمين قاعدة لمزيد من الهجمات في المستقبل. ويشير مصدر لمجلة «الإيكونوميست» في هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الأوكرانية إلى أن هذا الخيار هو الأكثر ترجيحاً. وقد جرى بالفعل نقل جزء من الخدمات اللوجستية - قوات الهندسة والوقود والمستشفيات الميدانية وقواعد الغذاء والإصلاح - على بعد عدة كيلومترات إلى عمق الأراضي الروسية.