سوق باب شريف في جدة.. سعودية بنكهة سودانية

يوفر الزي القومي السوداني ومختلف أنواع العطور والبخور

سودانية تعاين قطعة من القماش في أحد محلات السوق
سودانية تعاين قطعة من القماش في أحد محلات السوق
TT

سوق باب شريف في جدة.. سعودية بنكهة سودانية

سودانية تعاين قطعة من القماش في أحد محلات السوق
سودانية تعاين قطعة من القماش في أحد محلات السوق

تعد جدة ثاني المدن السعودية حجما بعد العاصمة الرياض، وهي الميناء الأكبر والأقدم، نشأ في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وهي عروس البحر الأحمر، وكما يقول أهلها:«جدة غير».
سودانيا تعد جدة أقرب مدن المملكة للسودان عبر البحر الأحمر، ومنه يصلها آلاف الحجاج سنويا، أما أكبر تجمع للسودانيين بجدة فيتوفر بسوق باب شريف.
باب شريف واحد من عدة أبواب لسور جدة القديم، ومنها باب الصبة وباب المدينة وباب المغاربة وباب النافعة وباب جديد وباب مكة.
مع مرور السنين واستيطان بعض الحجاج الأفارقة والسودانيين في جدة، نشأت سوق شعبية حول باب شريف، وكعادة أسواق جدة في «التخصص» تحولت المنطقة إلى «سوق سودانية» بمعنى الكلمة حيث يتوفر الزي القومي السوداني، بالإضافة إلى مختلف العطور السودانية والبخور، ناهيك عن بقية الاحتياجات التي تستمتع ست البيت السودانية بالحصول عليها.
وصلت جدة، قبل بضع ساعات من موعد رحلتي المغادرة للعاصمة النمساوية فيينا، لكن رغم إرهاقي وجهلي التام بجغرافيا المدينة، فإنني لم أفوت فرصة زيارة سوق باب شريف التي كثيرا ما سمعت عنها من الحجاج والمغتربين، خاصة أن من طبائع المسافر السوداني ألا يقصر تسوقه على شراء احتياجاته وأسرته المباشرة فقط، بل يشتري للأسرة الممتدة والجيران والأصدقاء والمعارف.
وما تزال الهدايا بندا أساسيا في قوائم المشتريات، ليس عند العودة النهائية، بل مع كل إجازة ومناسبة، بوصفها نوعا من التضافر والتكافل والمساعدة، لا سيما في ظل الضائقة المالية والاقتصادية بالسودان. مع ملاحظة أن السودان رغم أهمية التقشف فإن أسواقه تكتظ بالبضائع مع «شهية عارمة» لتنوع الملبوسات. ومن «المكروهات» عند بعض النساء - إن لم نقل غالبيتهن - تكرار الظهور بالتوب نفسه، في أكثر من مناسبة. و«التوب» بالتاء هو الزي القومي للنساء بالسودان قاطبة، داخل البلاد وخارجها، وللنهار توبه كما للأمسيات، وللعمل الرسمي توبه وللفرح توبه، كما للحزن والوفيات.
قلت لسائق سيارة أجرة: «أريد الذهاب للهنداوية»، سألني متحيرا: «أين بالضبط؟» فسألته بدوري: «هل تعلم من أين يشتري السودانيون ثيابهم؟» فجاء رده سريعا: «باب شريف، سوق الزول».
بعد مشوار طويل، قبل أن نصل تماما إلى باب شريف، ظهرت لي عمائم وجلاليب سودانية داخل ما بدا ناديا رجاليا، وذلك بينما كانت السيارة تعبر جسرا يؤدي إلى السوق. وما إن توقفت السيارة حتى كنت في خضم زخم سوداني، مائة في المائة، من حيث أسماء المتاجر، والمعروضات من ثياب وعطور، وأساليب وطرق العرض، والسحنات واللهجات، والزحام، وكأنني انتقلت إلى قلب سوق أم درمان، عاصمة السودان. وفي الواقع يماثل سوق باب شريف، سوق أم درمان بأجوائه القديمة ذاتها، وأزقته البسيطة، و «شطارة الباعة و «مفاصلة» الزبائن في الأخذ والرد.
وبالطبع، وكأم درمانية أصيلة، لم أشتر «توبا» واحدا بالسعر الذي حدده التاجر، إذ سريعا ما استرجعت المقدرة على المفاصلة والفرز ولمس الأقمشة للإحساس بالخامة، مما يتطلب استعراض أكبر عدد من التياب، والسؤال عن السعر، والاستفسار إن كانت هناك ألوان أخرى، ثم مواصلة المهمة ذاتها، في متجر آخر، ومن ثم العودة لمن حظيت بضاعته ببالغ الإعجاب.
جرى كل ذلك، في حماس عال رغم ضيق الوقت والإرهاق; ولا تعتقدوا خطأ أنني ممن يحببن التسوق; لكنني أحب «التوب» وأعشقه بوصفه تراثا سودانيا من واجبنا الحفاظ عليه، حيثما حط ركبنا وتغربنا. كم اكتظ باب شريف بالتياب، بعضها أوروبي وبعضها آسيوي، تنوعت أقمشتها وألوانها ونقوشها، مع وفرة ملحوظة للقطن الهندي بأسعار متهاودة وغلاء شديد للتوتال السويسري، ناهيك عن الشيفون الفرنسي; والأخيران يعدان من أرقى أنواع التياب وأفخمها حتى البسيط منهما.
مما يجدر ذكره أن هناك في عدد من المدن الصغيرة في المنطقة الحدودية ما بين النمسا وسويسرا، مصانع متخصصة في صناعة التياب السودانية. وتشهد هذه المنطقة توسعا صناعيا وازدهارا، فيما تجتهد بشدة للعمل على حماية منتجاتها من التقليد الصيني الذي زحف عليها، إذ ينتشر الصينيون تجارا وملاكا للفنادق والمطاعم. بدورها توفر متاجر بمختلف العواصم الخليجية ودبي، تيابا واحتياجات توافق الذوق السوداني، يبزها سوق باب شريف، الذي نال اسم «سوق الزول». والزول وصف يطلقه الخليجيون «تحببا» على المواطن السوداني الذي بدوره يكثر من استعمال كلمة زول بمعنى إنسان. داخل سوق باب شريف، ومن متجر لآخر تتنوع التياب، ما بين تياب تباع بالقطعة، وأخرى تباع بالجملة، ولكلٍّ سعره ولكل زبائنه.
كما يرد باب شريف رجال أعمال يشترون التياب بالجملة لتوزيعها على محال داخل السودان، ترده نساء يعملن «دلالات» ويشترين مئات القطع لبيعها منزليا غالبا بالدين والأقساط. ومما تمتاز به الدلالات عموما، حسن الاختيار، لا سيما أنهن لا يخترن من ذات التشكيلة إلا بضعة قطع إيمانا بأهمية «التميز» و«التنوع» وحرصا ألا يشبه توب هذه الزبونة تلك، وإلا بارت تجارتهن وخسرن.
ورغم أن معظم الباعة بسوق باب شريف من أهل اليمن فإنهم ملمون تماما بالذوق السوداني، وبالنفسية السودانية، وأهمية التعامل معها بمنتهى الذوق والاحترام. أضف إلى ذلك أن التاجر اليمني عموما ليس بغريب عن السودان، إذ إنه حتى بداية سبعينات القرن الماضي كان معظم أصحاب المحال
و«الدكاكين» بالمناطق السكنية داخل الأحياء في كثير من المدن يمنيين ممن عاشوا في السودان، ومنهم من تصاهروا وتزاوجوا مع أهله.
ويعتبر شارع الـ«عدني» بأم درمان، ليومنا هذا من أكثر الطرقات ازدحاما بأم درمان. ويحتفظ للسودانيين بأكثر من حكاية عن ظرف التاجر اليمني أو العم «علي بن علي».
وفي هذا السياق، لم يرغب بائع يمني في أن نغادر عندما أذن الأذان، وكان عليه أن يغلق متجره ليذهب للمسجد لأداء الفريضة، فمنحنا مقاعد للجلوس، وانتظرناه خارج المحل لحين عودته. وحتى عندما احتججت بأن أسعاره غالية، قادني مبتسما لرزم تياب وصلته حديثا لا يزيد سعر التوب منها على 15 ريالا، مستعرضا في بداهة شديدة أسماءها واحدا تلو الآخر.
وجرت العادة أن تطلق على التياب أسماء ذات مضامين تشير لواقع اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي. وهكذا تتغير أسماء التياب مواكبة لتغير الأحوال. ومن أحدث أسماء التياب «الشيخ» (وأطلق على توب قطني أرضيته بيضاء بمربعات سوداء، ظهر بالأسواق بعد وفاة الشيخ حسن الترابي، الشهر الماضي).
والأدهى تسمية توب آخر باسم «مثير للجدل» ظهر بالتزامن مزخرفا بأشكال هندسية متداخلة صارخة الألوان. ومعلوم أن وصف مثير للجدل ظل يلاحق الدكتور الترابي، منذ أن سطع نجمه بصفته سياسيا في الستينات، وما يزال يلاحقه حتى بعد وفاته، يرحمه الله. وكما هناك سودانيات شغوفات بتتبع آخر صيحات موضة التياب، التي تتنوع من حيث نوعية القماش والتصميم والزخارف والأسماء، هناك من يفضلن تيابا محدودة العدد «كلاسيكية» ذات ألوان سادة لا تتغير بتغير المواسم، ولا تتحكم فيها الصرعات، وإنما يكملنها بقطع إكسسوار أنيقة. وحديثا، أمست مهارة تصميم التياب السادة خدمة تمتهنها كثير من المصممات السودانيات، بل أصبحت تجارة لا تبور مع كثرة الطلبات.
ورغم غضب بعض الشعوب ممن ينكرون «سودانية التوب» مؤكدين أن التوب ليس سودانيا صرفا، بل هو زي مشترك يخص عدة ثقافات مختلفة تنتشر من جنوب المغرب إلى موريتانيا وشمال الكاميرون وشمال نيجيريا، كما تلبسه معظم نساء تشاد وكذلك ينتشر في مالي، ولكن هذه الدعاوى ومهما اشتطت لا يمكن أن تنكر أن التوب بأمتاره الأربعة والنصف وطريقة لبسه المعروفة، هو الزي الرسمي للمرأة السودانية التي تعده إرثها المميز.
إلى ذلك ومع احتجاجات بأن التوب مكلف وغير عملي، فإن واقع الحال يؤكد أن المستقبل للتوب وليس لمحاولات طمسه أو الاستغناء عنه.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».