قصائد أبريل.. ومفارقاته

الشهر المبشر بالربيع والحياة مؤلم لأناس محرومين منهما

تي.إس. إليوت و محمود درويش و شكسبير
تي.إس. إليوت و محمود درويش و شكسبير
TT

قصائد أبريل.. ومفارقاته

تي.إس. إليوت و محمود درويش و شكسبير
تي.إس. إليوت و محمود درويش و شكسبير

في بداية دراستي للأدب الإنجليزي، كانت حالات الدهشة والاستغراب تتوالى بتوالي النصوص التي كنا ندرس، وبدرجة ما تضمنته من اختلاف ومخالفة لما اعتدنا عليه، من نصوص مسيحية، إلى أخرى ملحدة، إلى نصوص متبرجة لغة وصورًا. ومع أن بعض ذلك كان يلذ لي، كما لزملائي الشبان، فإن الوضع لم يخل من حالات فيها من الاستغراب أكثر مما فيها من المتعة أو اللذة.
قرأنا مثلاً سوناتة شكسبير رقم 18 «هل أقارنك بيوم صيف؟»، وتلك القصيدة ذات الأربعة عشر سطرًا هي من أشهر قصائد شكسبير، وأشهر ما في الشعر الإنجليزي، وفيها يخاطب الشاعر معشوقته مقارنًا إياها بنهار صيف، ونهار الصيف في عرفنا العربي الصحراوي كان أسوأ ما يمكن أن يقارن به الإنسان، ناهيك عن أن يكون الإنسان معشوقًا.
يقول شكسبير: «هل أقارنك بيوم صيف؟ / أنت أكثر حلاوة وهدوءًا»، ليمضي بعد ذلك في القول إن تلك المعشوقة تتفوق على الصيف في أن صيفها خالد نتيجة لكتابته عنها، فالصيف سينتهي، لكنها ستبقى تصافح الأعين كلما صافحت الأعين أسطر القصيدة.
اتضح فيما بعد، وتدريجيًا، أن ما استغربناه تلامذة هو من سمات الثقافة إذ تحمل خصائص الجغرافيا، وأن الصيف هناك هو فعلاً فصل جميل، حين تذوقناه مبتعثين، ثم سواحا في بلاد تكره الشتاء الذي لم نكن نكره في بلادنا، وتحب الصيف الذي كنا نكره، أو الذي لم نجده مناسبًا للتشبيه بامرأة جميلة، فليس في الشعر العربي كله شاعر واحد يجرؤ على مقارنة حبيبته بالصيف، إلا إن كان أحمقًا، أو في حالة غضب.
أشير إلى قصيدة شكسبير من حيث هي مدخل للتأمل في الاختلاف الثقافي، إذ ينعكس على النصوص الشعرية تحديدًا. فسوناتة شكسبير لم تقدم الصيف على نحو يدهش أهل البلاد التي كتبت فيها، إلا أن قصيدة أخرى جاءت فيما بعد لتتحدث عن بداية فصل جميل، لكن على نحو صادم لأولئك ولنا نحن المختلفين ثقافة. ففي مطلع قصيدته الشهيرة «الأرض اليباب»، القصيدة التي قادت الحداثة الشعرية في القرن العشرين، رسم ت. س. إليوت واحدة من أشهر الصور الشعرية في الشعر الإنجليزي، حين قال:

«أبريل أقسى الشهور، يخرج
الليلك من الأرض الميتة، مازجًا
الذكرى بالرغبة، ومحركًا
الجذور الخاملة بمطر الربيع».

قسوة أبريل تدهش من يقرأ القصيدة للمرة الأولى، ولكن المفارقة تظل فاعلة طوال القراءة، إذ إنها تختصر مأساة البشر المقيمين في الأرض اليباب، أرض الانهيارات المادية والمعنوية التي نتجت عن الحرب والدمار. كما أنها مفارقة تتخطى حدود الثقافة والجغرافيا، وإن لم تتخط حدود التاريخ والاجتماع، فنحن قادرون على الرغم من اختلاف مواقعنا وثقافاتنا أن ندرك عمق المأساة التي تجعل الشهر المبشر بالربيع والحياة مؤلمًا لأناس محرومين من ذلك الربيع والحياة.
لكن التجربة التاريخية والنتائج الاجتماعية ليست بالضرورة واحدة، بل هي مختلفة فعلاً حين نتبين أن آثار الدمار الذي تركته الحروب في حياتنا، كما عبرت القصائد العربية، لم يكن مماثلاً لما وصفه إليوت في قصيدته (وهذا لا يعني أن الآثار كانت أقوى أو أخف)، ولعل من المهم هنا أن إليوت في تلك القصيدة وغيرها كان من أكثر الشعراء الغربيين تأثيرا على شعراء الحداثة العرب (السياب، وعبد الصبور، وغيرهما)، لكننا لا نكاد نعثر في أعمالهم، أو ما أعرفه من تلك الأعمال، على تماهٍ مع الرؤية الإليوتية في رسم معالم المآسي، وما تستتبع أحيانا من مفارقات، فمآسي أوروبا بعد الحرب الأولى وانعكاساتها اختلفت بطبيعة الحال، فاختلف معها تأثيرها، ومع التأثير اختلفت أدوات التعبير من رموز وأساطير ومفردات وما إليها.
إن أبريل لم يكن أقسى الشهور بالنسبة لمحمود درويش الذي يتحدث عن الشهر المبشر بالربيع بوصفه ضمن ما يستحق الحياة، ويستحق أن تعاش الحياة من أجله:

«على هذه الأرض ما يستحق الحياة: تردد أبريل، رائحة الخبزِ
في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات أسخيليوس، أول
الحب، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط ناي، وخوف
الغزاة من الذكرياتْ».

هذه الصورة التي تبدو وكأنها رد على الموات واليأس في قصيدة إليوت، بتأكيدها على جمال الحياة وأهميتها، تبدو أيضًا كما لو أنها تصدر، ويا للمفارقة، عن إحساس قاتل باليأس، عن إنسان يقف على حافة الهاوية، ويذكّر نفسه بما هو بدهي للآخرين: أن هناك ما يستحق الحياة. إنه يحتاج إلى تذكر جمال الحياة، وتذكير الآخرين بذلك الجمال، لكن أليس قولنا «الله!» ونحن نتأمل صورها الباذخة دليلاً على مدى تماهينا مع المتحدث فيها، إننا رغم بداهة التعلق بالحياة، بحاجة إلى من وما يذكرنا بأهميتها، وجماليات ما فيها، ونعمة البقاء وسط ذلك الجمال؟
ومن تلك الصور الباذخة في قصيدة درويش، وهي سوناتة أيضًا كقصيدة شكسبير عن الصيف، صورة العشب على الحجر وهي تحمل قوة الربيع إذ يُخرج، كما عند إليوت، الليلك من الأرض الميتة، لكنه هنا خروج مفرح لأنه لا جثث أو أناسا كالجثث يتحدثون، العشب على الحجر لدى درويش، ولدى شعراء المقاومة، إعلان الطبيعة عن رفض الغزو. نجد ذلك في قصيدة أخرى لدرويش، من مجموعته «لماذا تركتَ الحصان وحيدًا؟»، حين يذكّر الأب ابنه:

يا ابني تذكّر
غدًا. وتذكّرْ قلاعاَ صليبيَّةً
قَضَمَتْها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود...

هنا يمارس نيسان / أبريل دوره المقاوم للغزاة بقضم قلاعهم، في مفارقة رائعة تجعل الحشائش الهشة في بنيتها، الضئيلة في إهابها، أقوى من حجارة القلاع، وأكثر شموخًا.
إن أبريل هو نفسه، سواء عند إليوت أو عند درويش، هو بشارة الربيع المحرك للحياة، لكنه الوضع الإنساني، وملابسات التاريخ - إلى جانب خصوصيات الإبداع طبعًا - هو الذي يميز شاعرًا عن شاعر، وقصيدة عن أخرى.



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي