ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

رئيس مجلس الدولة يسحب البساط من المؤتمر الوطني

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»
TT

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

ليبيا.. السويحلي رجل «مفترق الطرق»

من النادر أن تجد اسم عبد الرحمن السويحلي، الذي عُيّن أخيرًا رئيسًا لـ«المجلس الأعلى الدولة» الليبي، في المواقف العادية، إذ إنه يظهر عادة في الظروف الصعبة، أو كما يقال هنا: حين يكون هناك مفترق طرق، وحين يسود الارتباك، ستراه واقفًا لحسم الأمر وتوجيه الدفة، بغض النظر عن أي حسابات. السويحلي، ابن مدينة مصراتة الليبية، هو أول رئيس للمجلس الذي جرى انتخابه قبل أسبوعين رغم اللغط والانتقادات. ولقد ولد في أواخر أربعينات القرن الماضي، لأسرة معروفة شاركت في إرباك الاحتلال الإيطالي لليبيا. ومثل مصراتة، ارتبط اسم السويحلي بالكثير من المنعطفات التي مرت بها ليبيا بما في ذلك سنوات حكم معمر القذافي، ثم عام 2011 التي قامت فيها ميليشيات من المدينة بتهجير سكان بلدة تاورغاء المجاورة لها، بعد اتهام السكان هناك بمساندة نظام القذافي. وبعد ذلك شاركت ميليشيات من مصراتة في شن هجوم عسكري في عام 2012 على بلدة بني وليد، في عملية ارتبطت على ما يبدو بالرغبة في تصفية ثأر قديم وعملية انتقامية تركت جراحًا لم تندمل بعد. وبعد ذلك ظهرت مصراتة على الواجهة مجددًا من خلال «قوات فجر ليبيا»، التي شنت حروبا ضد خصومها، أشهرها معركة المطار ومناطق غرب طرابلس.
يمتلك عبد الرحمن السويحلي، بغض النظر عن كل شيء، تجربة سياسية قديمة تعود لسنوات المد القومي في سبعينات القرن الماضي. وقتها كان القذافي يغيّر موازين القوى الداخلية تحت شعارات، منها الاشتراكية والوحدوية، وتحت حماية «اللجان الثورية» التي أسست في ذلك الوقت لدعم نظام الحكم والسيطرة على الغضب الطلابي في الجامعات، وتطبيق نظريات السلطة التي عُرفت فيما بعد بمنهج «الكتاب الأخضر».
في تلك السنوات التي كانت فيها منطقة الشرق الأوسط ما زالت تدور في دوامة تداعيات حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، بدأ السويحلي، قبل أن يتخطى عامه الثلاثين، ينشط في الأوساط السياسية حين انتقل للدراسة خارج البلاد، معتمدًا في ذلك على علاقاته القديمة مع طلاب المرحلتين الثانوية والجامعية ممن انتقلوا لاستكمال الدراسة في أوروبا، خصوصًا من أبناء مدينته.
من السيرة الطويلة لهذا الرجل، يمكن أن تلاحظ أنه يحسب خطواته.. قبل أن ينتقل من مكانه ينظر أمامه وينظر خلفه، ثم يتخذ القرار حتى لو لم تكن نتائجه مضمونة تمامًا. لهذا يبدو أنه أدرك، حين كان يقيم في العاصمة البريطانية لندن، حيث كان يتابع دراسته، استحالة تغيير نظام القذافي من خلال حركة طلابية صغيرة تنحصر غالبية أنشطتها بعيدا عن أرض الوطن. وعليه قرر في أواخر ثمانينات القرن الماضي العودة إلى ليبيا والابتعاد عن العمل السياسي، رغم ما كان في هذه العودة من مخاطر.
حدث هذا بينما كانت المعارضة الليبية في الخارج، سواء تلك التي اتخذت من لندن مقرًا لها، أو التي كانت مبعثرة في العالم، تزداد نشاطًا وقوة، مقابل ارتفاع وتيرة الملاحقات من جانب النظام ضد المعارضين في الداخل. ولهذا كان من المستغرب، لدى كثرة من السياسيين المطارَدين في البلدان الغربية، أن يتخذ الشاب السويحلي النشيط في خصومته لحكم القذافي، قرارًا بالعودة إلى ليبيا.
في نهاية المطاف.. وحين تنظر إلى تلك الأيام، حين كانت المعارضة في الخارج تعاني من الفقر والعراقيل، يمكن أن تفهم قرار السويحلي بالرجوع إلى بلاده. في تلك الفترة أيضًا ظهر اسم رجل الجيش خليفة حفتر، قائدًا للجيش الوطني الليبي في المنفى. كان حفتر قائدًا في القوات البرية الليبية أثناء الحرب بين ليبيا وتشاد، وتعرض للأسر وانتقل بواسطة إقليمية ودولية إلى الولايات المتحدة، لينضم بعد ذلك إلى «جبهة إنقاذ ليبيا» و«التحالف الوطني» وغيرهما من مسميات المعارضة.
لم يستمر الأمر طويلاً. دبت الخلافات بين عدد من قادة المعارضة الليبية في الخارج، وتوزعت ولاءات كثير منهم بين هذه الدولة وتلك، وبين هذا التيار وذاك. كان مفترق طرق يقف فيه قوميون وجماعة الإخوان وماركسيون وليبراليون ومشارب سياسية مختلفة. وفي هذه الأثناء كان السويحلي قد حصل على شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية من بريطانيا، وعاد إلى بلاده ليدخل في منعطف جديد، حيث أصبح رجل أعمال يدير مكتبه الاستشاري الخاص في أعمال الهندسة.
مدينة مصراتة، التي ينتمي إليها السويحلي، معروفة تاريخيًا بأنها مدينة الصناعة والثراء والميل إلى التيار المحافظ. ويبدو أن هذه الخلفية أثرت في تكوين شخصيته. ومن الطرائف أن بعض قيادات التيار الديني تصنّفه على أنه من «العلمانيين»، بينما يصنفه البعض في التيار المدني ضمن التيار الديني. ويقول عنه بعض المحايدين إنه «سياسي يجيد استخدام ما لديه من أوراق». وللعلم، تقع مصراتة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من طرابلس، وشهدت عواصف سياسية وعسكرية مرت على البلاد. ولقد كان لها مكانة خاصة في قلب القذافي منذ انتقل لاستكمال دراسته الثانوية فيها آتيًا من مدرسته في سبها في الستينات. (مدينة سرت، مسقط رأس القذافي، تقع إلى الشرق من مصراتة بنحو 200 كيلومتر أيضًا).
وفي مصراتة نفسها، شكّل القذافي «خلايا ثورية» رئيسية، وأقنع الكثير من الدارسين باستكمال التعليم عسكريًا في الكلية الحربية التي كانت تتخذ من مدينة بنغازي مقرا لها. ومن هناك انطلقت الحركة التي عرفت فيما بعد باسم «ثورة الفاتح عام 1969»، لتتولى حكم البلاد، وكان لرجال مصراتة نصيب في النظام الجديد، رغم اعتماد القذافي على التوزيع القبلي لكثير من المناصب خصوصًا الأمنية والعسكرية.
بعدها مرّت مصراتة ومعها كبار أثرياء ووجهاء المدينة، بمفترق طرق جديد يعد من المنعطفات المهمة التي أثرت بطريقة أو بأخرى على مسيرة السويحلي، وطريقته في النظر إلى الأمور، ووضع التصورات للمستقبل، بعد رجوعه إلى ليبيا ببضع سنوات. وهذا المنعطف يرتبط بشكل مباشر بالعلاقة التاريخية المضطربة بين مصراتة ومدينة بني وليد معقل قبيلة ورفلّة.
أولا.. تتذكر كثرة من الليبيين أن أصل الخلاف بين ورفلة ومصراتة يرجع إلى نحو مائة سنة مضت. وكان يدور في الأساس بين رجلين صديقين؛ أحدهما من أجداد السويحلي، اسمه رمضان السويحلي، وكان زعيمًا كبيرًا لقبائل مصراتة، والآخر هو عبد النبي بالخير، زعيم قبيلة ورفلّة. كان الرجلان ممن أسهموا في تأسيس أول جمهورية عربية، هي جمهورية طرابلس، إلا أن تباين الرؤى في التعامل مع المحتل الإيطالي وقتذاك، دفع السويحلي الجدّ إلى شن هجوم عسكري كبير على ورفلّة، لكن المعارك انتهت بمقتله، وانتهت أيضًا باختفاء بالخير من ليبيا.
ومضت السنون، وظلت كوادر من الجانبين، أي من مصراتة وورفلّة، يتربّص بعضها ببعض، رغبة في الثأر والانتقام وحسم الخلاف القديم، مع أن غالبية كل من مصراتة وورفلّة ما أرادتا أبدا أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لكن هكذا كانت الظروف تسير بالجميع إلى الأمام.
واستمرت الأحوال على هذا المنوال إلى أن بدأت الانتفاضة المسلحة ضد نظام القذافي في مطلع 2011. ومن جديد وجدت مصراتة وقياداتها - ومن بينهم رجل الأعمال والسياسي القديم عبد الرحمن السويحلي - نفسها عند مفترق طرق جديد.. هل يقفون مع ثورة 17 فبراير، أم ينتظرون إلى أن تتضح الآفاق الجديدة؟ بيد أن الأمم المتحدة، وأطرافًا إقليمية ودولية أخرى، كانت قد تواصلت مع «الثوار»، وبدا أنها عزمت على تغيير الأوضاع في ليبيا إلى الأبد. ووجد السويحلي نفسه من بين المتهمين بالتحريض على الثورة، وزجّ به القذافي في السجن مع عدد من أفراد أسرته.
ومن المفارقات العجيبة أن قبيلة ورفلّة، خصوصًا في مدينة بني وليد، ورغم الظلم الذي وقع على أبنائها من نظام القذافي، وقفت ضد تدخّل حلف الـ«ناتو» في البلاد. ولهذا جرى تصنيف المدينة وسكانها باعتبارهم من الموالين لنظام القذافي، رغم أن هذا لا يُعد دقيقًا بأي حال، فكبار رجال القبيلة يقولون إنهم ما كانوا مع القذافي بل مع مبدأ عدم التحالف مع الأجنبي للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، أيًا ما كانت طبيعة الخلافات بين أبناء الوطن الواحد.
في أي حال، تمكن المنتفضون على حكم القذافي من تحرير عبد الرحمن السويحلي ومَن معه من السجن، لتواصل المدينة رحلتها في التحرّر من قبضة قوات النظام الذي فرض عليها حصارًا من جميع الجهات لعدة أشهر. وتكوّنت عدة ميليشيات وكتائب في مصراتة شاركت بقوة في ملاحقة رجال النظام السابق، إلى أن وصلت إلى مقر إقامته في ذلك الوقت في مسقط رأسه بمدينة سرت. وبعد قتله، نُقِل جثمانه إلى مصراتة لكي يُدفن في مكان لم يُعلن عنه حتى الآن.
في البداية، أي بعد مقتل القذافي بعدة أشهر، أسس السويحلي حزب «الاتحاد من أجل الوطن» في عام 2012، ثم فاز في انتخابات «المؤتمر الوطني العام» (البرلمان السابق، وهو الأول بعد سقوط نظام القذافي) عن مدينة مصراتة، التي أجريت خلال شهر يوليو (تموز) من تلك السنة، ليترأس فيه لجنة «الدفاع والأمن القومي». وفي هذا التوقيت، أدت الظروف والانقسامات التي تمر بها البلاد، إلى جانب الخوف من عودة رجال النظام السابق إلى الحياة السياسية والعسكرية، إلى اتخاذ «المؤتمر الوطني» السابق قرارًا بشن هجوم مسلح على مدينة بني وليد، بزعم أنها تناصر أنصار القذافي، وتخبئ بعض القيادات المطلوبة. وظهرت على السطح اتهامات بوجود رغبة في الانتقام والثأر لمقل الجدّ رمضان السويحلي، خصوصًا أن كثيرًا من الميليشيات التي شاركت في الهجوم كانت محسوبة على مصراتة وقادتها، بمن فيهم عبد الرحمن السويحلي، حفيد الجدّ رمضان.
ومع ذلك فاز السويحلي في الانتخابات الجديدة للبرلمان في يونيو (حزيران) عام 2014، عن مصراتة أيضًا، لكنه رفض الالتحاق بالعمل في البرلمان الذي اضطر لعقد جلساته في مدينة طبرق بشرق البلاد. وسبب رفضه هو صدور حكم للمحكمة الدستورية العليا يخص بطلان إجراءات اتخذت في البرلمان السابق، إلا أن تفسير خصوم البرلمان الجديد، ومنهم السويحلي، أن قرار المحكمة يقضي بحل البرلمان الجديد من الأساس. وعلى ذلك عاد الرجل لمواصلة عمله في البرلمان السابق، الذي واصل عقد جلساته في طرابلس.
استمر هذا الوضع إلى أن بدأت «معركة طرابلس» التي أدت لحرق مطار العاصمة الليبية الدولي، وتدمير الطائرات الجاثمة فيه. ومجددًا اتهمت ميليشيات مصراتة، بإيعاز من بعض قادتها، بأنهم وراء هذه القوة التي استولت على طرابلس، تحت اسم «قوات فجر ليبيا». وبعد هذه الواقعة دخلت الأمم المتحدة على الخط، من جديد، لأول مرة منذ قرارها بإعطاء الضوء الأخضر للـ«ناتو» في 2011 بالتدخل في ليبيا. وبدأت منذ أواخر 2014 سلسلة من المفاوضات الصعبة لإيجاد حكومة توافقية بين بعض الخصوم الليبيين. واختير عبد الرحمن السويحلي ضمن الفريق الممثل للبرلمان السابق. واستمرت هذه المفاوضات ما بين بلدة الصخيرات المغربية وعدة مدن عربية وأجنبية أخرى إلى أن انتهت في أواخر العام الماضي، بالإعلان عن «مجلس رئاسي» برئاسة فايز السرّاج، وحكومة مقترحة لم تحصل على ثقة البرلمان بعد، مع إنشاء «مجلس أعلى للدولة» يتكون من أعضاء من «المؤتمر الوطني» (البرلمان السابق) يكون له الصفة الاستشارية، مع البرلمان الحالي المعترف به دوليًا وصاحب الاختصاص الأصيل في التشريع والرقابة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.