لانغ لانغ عازف البيانو الصيني يشنف آذان جمهور مهرجان أبوظبي

أوركسترا باريس تقدم لأول مرة أعمالها لعمالقة الموسيقى الكلاسيكية للفرنسيين

لانغ لانغ يبهر الجمهور
لانغ لانغ يبهر الجمهور
TT

لانغ لانغ عازف البيانو الصيني يشنف آذان جمهور مهرجان أبوظبي

لانغ لانغ يبهر الجمهور
لانغ لانغ يبهر الجمهور

أطرب عازف البيانو الصيني لانغ لانغ الحضور في حفل حضره عدد كبير من الجهور مساء أول من أمس، وقدم مقطوعة «مواسم» من أعمال تشايكوفسكي، والكونشرتو الإيطالية من أعمال باخ، والمقطوعة الموسيقية المستقلة «شيرزي» من أعمال شوبان، خلال «مهرجان أبوظبي» هذا العام المقام في الفترة من 3 - 30أبريل (نيسان) الحالي.
وامتلأت قاعة مسرح قصر الإمارات عن آخرها بالجمهور، الذي حجز كل تذاكر العرض، قبل عدة أشهر من موعد الحفل. أكدت «أمسية بيانو مع لانغ لانغ»، استحقاق هذا الفنان العالمي للقب الذي منحته إياه صحيفة «نيويورك تايمز» عندما وصفته بالفنان الكلاسيكي الأكثر إثارة في العالم.
واشتهر لانغ لانغ بتقديمه روائع كلاسيكيات البيانو حول العالم إلى جوار أسماء عالمية مرموقة، مثل بلاسيدو دومينغو، وميتاليكا، وفاريل ويليامز، وخوليو إغلاسياس. ويفخر لانغ لانغ بجهوده في إنشاء جيل جديد من الموسيقيين، وخلال زيارته لأبوظبي، شارك في فعالية «العودة للمدارس» التابعة لمهرجان أبوظبي، التي تمنح طلبة المدارس فرصة استعراض مهاراتهم والحصول على إرشادات ونصائح من النجوم العالميين الذين يشاركون في فعاليات مهرجان أبوظبي كل عام.
حصد لانغ كثيرا من الأوسمة والجوائز المرموقة، واختير ضمن قائمة المنتدى الاقتصادي للقادة العالميين الشباب، ونال شهادات دكتوراه فخرية من «الكلية الملكية للموسيقى» وغيرها. وحصل على الجائزة العليا من وزارة الثقافة الصينية، ووسام الاستحقاق الألماني، ووسام الفنون والآداب الفرنسي.
وحسبما ذكر لانغ، أنه نشأ وسط أجواء من الموسيقى الكلاسيكية، وكان والداه يستمعان إلى موسيقى البيانو في المنزل منذ ولادته. وأضاف: بعد دراسة البيانو، ازداد شغفي بالموسيقى وتحول إلى التزام على المدى الطويل. وكنت أحلم أن أصبح عازف بيانو محترف. «الموسيقى لغتي الأولى وكثيرًا ما ألهمتني». هذا ما أكده لانغ لانغ.
وقدم لانغ مقطوعات موسيقية لكبار المؤلفين، أمثال ليشت، وشوبان، وغيرهم كثير ممن يستمتع لانغ بتقديم أعمالهم الخالدة، وشكلت مقطوعة «كونشيرتو الهرة» الشهيرة في مسلسل الرسوم المتحركة «توم وجيري» الدافع الكبير الذي شجع لانغ في طفولته على استكشاف الأعمال الموسيقية للمؤلف ليشت.
ومن جهة أخرى، قدمت أوركسترا باريس مساء أول من أمس، الجمعة، لأول مرة في أبوظبي سيمفونية بقيادة مديرها الموسيقي الشهير بافو يارفي ثلاثة أعمال لعمالقة الموسيقى الكلاسيكية الفرنسية، وهي «القرصان» لبيرليوز، و«كونشيرتو التشيللو» لإدوارد لالو (عزف كزافييه فيليبس) و«السيمفونية الثالثة» للموسيقار سان سونص (سيمفونية على آلة الأرغن تيري إيسكايش).
وتأتي فعاليات المهرجان في عام 2016 ثمرة نجاح اثنتي عشرة دورة سابقة من عمر هذا المحفل الثقافي والفني المميز، حيث يعد المهرجان أحد أبرز فعاليات الثقافة والفنون في الإمارات والمنطقة العربية، ومنصة عالمية للموسيقى الكلاسيكية في منطقة الشرق الأوسط.
تمكّن المهرجان على مدى السنوات الماضية، من تعزيز موقعه بوصفه فعالية فنية وثقافية رائدة في المنطقة، وبوصفه كذلك أحد المظاهرات الفنية المميّزة على مستوى العالم. وتضم دورة هذا العام مجموعة فعاليات مميّزة ومتنوّعة تجمع كوكبة من روّاد الفن الراقي والثقافة، فهناك حفلات الموسيقى الكلاسيكية برفقة مجموعة من أبرز العازفين وفرق الأوركسترا العالمية، وأمسيات الأوبرا وعروض الباليه التي يقدمها نخبة راقصي الباليه في العالم، وموسيقى الجاز، ومجموعة من البرامج التعليمية والمجتمعية وغيرها. كما يولي المهرجان خلال هذا العام اهتماما كبيرًا للفن التشكيلي الإماراتي من خلال تنظيم معرض فني تشكيلي بعنوان «صورة وطن»، الذي انطلق في 10 أبريل (نيسان)، ويستمر حتى 10 مايو (أيار)، ويحتفي بمرور 20 عاما على تأسيس مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون عبر 20 عملا فنيا من أعمال التكليف الحصري و30 قطعة فنية مستعارة من فنانين إماراتيين تم عرضها في غاليري قصر الإمارات.
وقدمت أوركسترا باريس حفلا كلاسيكيا لأعمال المؤلف الفرنسي هنري دوتيو، وذلك بقيادة المايسترو بافو يارفي، حيث نالت هذه الأسطوانة عدة جوائز مرموقة وإشادة واسعة من النقاد.
وقد أطربت جمهور المهرجان بموسيقى باريس الكلاسيكية لثلاثة من أعمال عمالقة الموسيقى الكلاسيكية، وهي «القرصان» لبيرليوز، و«كونشيرتو التشيللو» لإدوارد لالو (عزف كزافييه فيليبس)، و«السيمفونية الثالثة» للموسيقار سان سونص (سيمفونية على آلة الأرغن) عزف تيري إيسكايش).
وتعد أوركسترا باريس إحدى أهم الفرق الموسيقية السيمفونية في العالم، وقد تأسست عام 1967 من قبل شار مونش وسيرج بودو، وذلك بعد حل حفلات الكونسيرفاتوار التي تم تأسيسها في عام 1828.
وقال كزافييه فيليبي عازف آلة تشيللو لـ«الشرق الأوسط» إنه سعيد للمشاركة لأول مرة في مهرجان أبوظبي، الذي من خلاله سوف يقدم رسالة عن الحب من خلال الموسيقى، وأضاف أن العزف على تلك الآلة نوع من المرح والسعادة وأنه أحب من خلال حفل مساء أمس مشاركة جمهور المهرجان بتلك الإحساس المرهف للموسيقى الكلاسيكية.
أما تيري إيسكايش عازف الأرغن قال قبل الحفل لـ«الشرق الأوسط» إنه يشارك لأول مرة في مهرجان أبوظبي، ويتمنى أن يستمتع الجمهور التي قد تكون جديدة عليه، لكنها حسب قوله «آلة جميلة وتقدم رسالة سلام ومحبة للجمهور من خلال عمل جماعي مع أوركسترا باريس».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)