«كناوة موسيقى العالم» يطل على صويرة المغربية الشهر المقبل

الدورة الـ19 فرصة لإعادة استكشاف أهم موسيقيي عالم الجاز

«كناوة موسيقى العالم» يطل على صويرة المغربية الشهر المقبل
TT

«كناوة موسيقى العالم» يطل على صويرة المغربية الشهر المقبل

«كناوة موسيقى العالم» يطل على صويرة المغربية الشهر المقبل

تحتضن مدينة الصويرة المغربية بين 12و15 مايو( آيار) المقبل، الدورة الـ 19 من مهرجان «كناوة موسيقى العالم»، التي ستكون مناسبة للاحتفاء برواد وكبار رجالات هذا الفن الذين كان لهم الفضل في إرساء أسس فن كناوة، كما ستمثل فرصة لإبراز مواهب شابة من الجيل الصاعد.
وأبرز بيان للمنظمين أن المهرجان سيعرف، وعلى غرار الدورات السابقة، تنظيم مجموعة من المواعيد، المفتوحة في وجه العموم، تشمل وصلات للمزج الموسيقي (فيزيون) وإقامات فنية علاوة على برمجة متميزة، فضلا عن تنظيم منتدى حقوق الإنسان، الذي أضحى موعدا أساسيا للمهرجان.
وأشار البيان إلى أن مهرجان «كناوة موسيقى العالم» سيعود أكثر قوة وتألقا هذه السنة من ذي قبل، فمهرجان مدينة الرياح سيشكل مناسبة لتكريم رواد هذا الفن وأبناء المدينة الموهوبين، الذين غادروها في سن مبكرة، على غرار الفنان محمود غينيا، والمسرحي الطيب الصديقي. كما سيتم تكريم دودو ندياي روز، الفنان الذي لا يزال صدى طبله يتردد في سماء الصويرة، منذ أول مشاركة له في هذا المهرجان منذ خمس عشرة سنة خلت حينما أقام أول حفل له بالمملكة المغربية.
ويقترح مهرجان كناوة موسيقى العالم بالصويرة على عشاقه هذه السنة، يضيف البيان، لحظات موسيقية استثنائية من خلال تنظيم حفلات بمختلف المنصات المبرمجة.
وخلال فترة المهرجان، ستكون مدينة الصويرة على موعد مع موسيقى كناوة إلى جانب موسيقى العالم. وستبدأ الاحتفالات بحفل تكريمي للمعلم محمود غينيا الذي ستبقى موسيقاه خالدة في الأذهان، إضافة إلى عازف الإيقاع السنغالي دودو ندياي روز الملقب بـ«ساحر الإيقاعات». وسيتحف مختار غينيا، شقيق محمود غينيا، بمعية 12 عازفا للإيقاع من أبناء دودو الجمهور من خلال وصلات للمزج الموسيقي تكريما لجيل الرواد ولإفريقيا التي تعج بالمواهب، تشارك فيها ديفا الصحراء ذات الصوت القوي رشيدة طلال. وسيشكل المهرجان فرصة لاكتشاف أو إعادة اكتشاف أسماء كبيرة من عالم الجاز إلى جانب فنانين أعطوا نفسا جديدا لهذا الفن عبر تبني أسلوب متفرد، يقدم للجمهور رؤية ذكية نابعة من الثقافة ومن المعيش اليومي ومن الحاجة، أمثال راندي ويستون، وجمال الدين تاكوما، وكريستيان سكوت، وجيف بايار تريو.
كما يشكل المهرجان فرصة للاحتفال بالجاز و موسيقى العالم؛ إذ سيستضيف لأول مرة بالمغرب النجم الصاعد في العزف على البوق كريستيان سكوت، الفنان ذا المواهب الاستثنائية. فبعد أن شكل مهرجان كناوة، قبل عشر سنوات، مناسبة للجمهور للتعرف على إبراهيم معلوف، ها هو اليوم يستضيف فنانا من الطينة نفسها اسمه كريستيان سكوت.
كما سيمكن للجمهور متابعة حفلات هوبا هوبا سبيريت، وهي الفرقة الغنية عن التعريف، كما سيكتشف الحضور الفنان الغاني بليز ذي إامباسادور، رائد اللون الموسيقي الجديد الذي يمزج بين الألحان الأفريقية كـ «الهاي لايف»، و«الأفروبيت»، و«الهيب الهوب». وبعيدا عن عالم الموسيقى، يعود منتدى حقوق الإنسان إلى الواجهة من جديد، وهو من بين المواعيد البارزة في المهرجان؛ حيث سيتطرق هذه السنة إلى موضوع «الدياسبورا الأفريقية.. الجذور، الحركية والإرساء». ويعد هذا المنتدى، الذي يطفئ هذه السنة شمعته الخامسة، مناسبة لاستحضار تشبث المغرب ببعده الإفريقي من خلال استضافة شخصيات مرموقة.
كما ستعيش مدينة الصويرة على إيقاعات الفن والثقافة؛ إذ سيتم تكريم الرواد من خلال أعمال الفنان حسن حجاج عبر معرض تحت عنوان «كولورز أوف كناوة» (ألوان كناوة). وتعد هذه الأعمال ثمرة بحث امتد على مدى سنوات عديدة ولقاء جمع بين صاحب لقب «أندي وارهول المغرب» ومروان البهجة الذي نشأ وترعرع على حب واحترام الفن والثقافة الكناويين.
وسيختتم المهرجان بحفل تكريمي للراحل الطيب الصديقي الذي عايش وساهم في ميلاد مجموعات أحدثت ثورة في تاريخ الموسيقى المغربية في عقد السبعينات على غرار «ناس الغيوان» و«لمشاهب» و«جيل جيلالة». وسيسير هذا الحفل الفنان محمد الدرهم، الذي سينضم إليه كل من: نبيل الخالدي، وعمر السيد، والمعلم مصطفى باقبو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)