«الكوميكس» في العالم العربي.. زفرة الشعوب المقهورة أم تسلية النخبة؟

أول رسم كاريكاتيري في تاريخ العالم وجد في عمل فرعوني قديم

العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
TT

«الكوميكس» في العالم العربي.. زفرة الشعوب المقهورة أم تسلية النخبة؟

العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت
العدد السادس من «فوت علينا بكرة» - «الرجل البرباطوظ» كان أول محاولة لشريف عادل للدخول في مجال «الكوميكس» على الإنترنت

الزمان: سنة 3014 بالتاريخ الأرضي.
المكان: جمهورية مصر الجديدة
الحدث: فهمي في الطريق إلى مركز المخابرات العلمية السرية ليتسلم عمله الجديد.....
وهكذا يهرب بنا شريف عادل عبد الفتاح ألف سنة فقط ليقدم لنا في قالب شديد الإبداع رؤية عميقة ونقدًا ساخرًا لواقع المجتمع المصري اليوم في إطار عمله المثير الجديد الذي يقدمه على شكل مجلة رسوم مصورة - كوميكس - أطلق عليها اسم «فوت علينا بكرة»، وهو بذلك يبدأ نقده للحياة المصرية المعاصرة من اللحظة الأولى. فـ«فوت علينا بكرة» تلخص حالة البيروقراطية الرثة التي تبدو عليها غالبية المؤسسات الرسمية، التي لم تعد في زمان القرية العالمية مجرد مصدر للإزعاج، بل مثارا للسخرية الحادة أيضا، التي يبدع شريف عادل في تقديمها نصًا ورسمًا وأفكارًا.
شريف عادل فنان شديد الغضب، يعبر بالضرورة عن خيبة أمل جيل مصري وعربي كامل في مآلات الأمور في بلاده. نقده اللاذع ليس موجهًا لمؤسسة الحكم مباشرة، ولكنه هجوم عاصف على ثقافة البلاد من كل زاوية صغيرة وكبيرة، كاشفًا حالات التناقض والارتباك السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشها مجتمعات «مات قديمها ولم يولد جديدها بعد»، على حد قول غرامشي.
شريف عادل طبيب أسنان بحكم المهنة، وكانت له تجربة سابقة إلكترونية في القصص المصورة صدرت تحت اسم (الرجل البرباطوظ) لكنها لم تطبع قط. ولكنه طبع العمل الجديد؛ ولذلك فإن إمكانات التواصل مع الجمهور تأخذ أبعادًا أوسع وتصل إلى جمهور ما قبل الاستعمال المكثف للكومبيوتر، في مجتمع ما زالت عدة ملايين منه تعاني من الأمية والفقر المدقع.
التعبير بالرسم الساخر بالطبع ليس جديدًا على مصر، بل إن أول رسم كاريكاتيري في تاريخ العالم ربما وجد في عمل فرعوني قديم. كما أن مجلة مصورة للصغار صدرت في مصر منذ عام 1870 (روضة المدارس ورئيس تحريرها رفاعة الطهطاوي متأثرًا دون شك بتجربة الفرنسيين الرائدة في هذا المجال)، وكان لجيل الرواد من كبار فناني الكاريكاتير حسين بيكار (مجلة سند.ب.أد) وحجازي ومحيي الدين اللباد أعمال تأسيسية في نسق التعبير الفني، هذا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. إلا أن التحولات الصاخبة التي عاشتها المجتمعات العربية - وفي قلبها المجتمع المصري شديد الفكاهة - منذ بداية القرن الحادي والعشرين في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، ومحاولات التغيير الدموية المجهضة بالتدخلات الاستعمارية، مع استمرار تفرد السلطات الرسمية الباقية من أجيال سابقة أو حتى الجديدة بالتحكم بكل قنوات التعبير على اختلاف أشكالها، كل ذلك قد خلق فرصة ولحظة ثورية لاستخدام نموذج الفن الشعبي (بوب آرت) المعروف بالقصص المصورة لتوجيه النقد غير المباشر لكل الظواهر السلبية في المجتمع من الانقسام الطبقي إلى فساد النخبة، وانتهاءً إلى الرداءة الشاملة في حياة الأكثرية، التي يمتلك الفنانون أمثال شريف حساسية عالية تجاه ما يمكن أن يعتاده ويتقبله الآخرون. وهكذا كان لا بد من مجدي الشافعي الذي أطلق (مترو) بوصفها صرخة تعبير مبكرة في وجه الواقع المتجه للتأزم من خلال قصة (بوليسية) مصورة، تحكي قصة مهندس كومبيوتر مصري شاب يصاب بالإحباط من مجتمعه، ويقرر السطو على مصرف للخروج من اليأس بسرعة، وحينها يتورط مع عدة أنواع من اللصوص والفاسدين في رواية شائقة تأخذك في رحلة بصرية في عمق حياة القاهرة وشوارعها التي تكاد تنادي (بالألوان) لضرورة حصول تغير ثوري نوعي يقصي تراكم الفساد. لم يفت هذا النقد على الرقابة المصرية في عهد الرئيس الرئيس حسني مبارك، وانتهت (مترو) إلى المصادرة من الأسواق رغم أنها لقيت أصداء إيجابية واسعة من قبل النقاد في مصر والغرب.
منحت أحداث «25 يناير» والارتباك الحاصل بعدها مساحة أوسع للتعبير باستخدام هذه القناة الجديدة الشديدة الشبه بالجيل الذي خرج إلى شوارع القاهرة وميدان التحرير وكسر هيبة أجهزة الأمن الرسمية في 2011. وقدمت المؤسسات الثقافية الغربية الدعم الفني و - المالي أحيانًا - لاستكشاف هذا الفن. وهكذا كبرت مساحة «الكوميكس» في الحياة المصرية في يوم وليلة. مجدي الشافعي، أصدر مشروعًا بديلاً لـ(مترو) المصادر، وهذه المرّة تحت اسم (الدُّشمة)، وهي مجلة في 64 صفحة وصدرت بتمويل منظمة مجتمع مدني تُعنى بحقوق الإنسان. لكن المجلة الأكثر شعبية في مصر كانت (توك توك) ذات التمويل الذاتي، وقد استوحت اسمها من وسيلة النقل الشعبية ثلاثية العجلات التي تملأ شوارع الأحياء البائسة في القاهرة والإسكندرية وبقية المدن الكبرى في مصر.
لكن استمرارية هذه المجلات، وقدرتها على الانتشار بوصفها وسيلة تعبير تمثل حلاً وسطًا بين جيل الشباب والسلطات، مرتبطة أساسًا بقدرة المجتمعات الرأسمالية الطابع على تحويل هذه المحاولات إلى مشاريع ناجحة تجاريًا، وهو تحد ليس سهلاً في بلد مثل مصر، حيث لا يمكن رفع سعر النسخة إلى مستوى الأسعار في الغرب مثلاً لأن ذلك يجعلها خارج السوق، وكذلك لا يمكن استقطاب إعلانات بصفة حاسمة بوصفها لم تثبت نفسها في قدرتها على التوزيع الواسع - رغم محاولات شريف عادل المتكررة في مجلته لترك مساحات للإعلان ملأها دائمًا بإعلانات ساخرة، لعل وعسى، لكن دون نجاح يذكر وصولاً للعدد الثالث - كما أن تلقيها الدعم من المراكز الثقافية الغربية يجعلها مثار شك بوصفها خاضعة لأجندات خارجية. إذن النافذة الوحيدة الممكنة هي تقديم مادة عميقة تخاطب الجمهور وتعبر عنه وتستعير صوته على نحو يدفع قطاعات أوسع لتبني «الكوميكس» خارج لعبة الفن التجريبي. التجربة المصرية تبدو الأهم عربيًا في فن «الكوميكس»؛ وذلك للظروف الموضوعية للأسواق العربية الأخرى مع استثناء لبنان ربما - حيث هامش من الحرية النسيية - والتي شهدت تجربة مجلة السمندل الطليعية الثلاثية اللغة - عربية وإنجليزية وفرنسية - وقدمت أعمالا لمجموعة من فنانين موهوبين انتقدوا - بعيدًا عن السياسة - قضايا مجتمعية كثيرة وبعض التابوهات في المجتمع العربي - فغرّم ثلاثة من محرريها بتهمة التحريض على الفتن - لكنها بقيت دائمًا مجلة نخبوية الطابع ولم تصبح صوتًا شعبيًا رغم توالي صدور أعدادها.
التجربة الأنجح في هذا المجال في دول الأطراف، جاءت من البرازيل، حيث المجتمع يضرب في أطنابه الفساد وتتآكله الجريمة ويتلاعب به السياسيون عديمو الضمير، ظهر بطل قصص مصورة - بداية على «فيسبوك» - تقول القصة إنه كان جنديًا سابقًا أغضبه الفساد الشامل في البلاد، فتقنّع وبدأ بمطاردة وصيد الشخصيات المساهمة في تكوين هذا الفساد من سياسيين ورجال أعمال وإعلاميين. شخصية «الموقظ» - كما سمي لاحقًا - استهدفت نماذج فاسدة لها مثيل موازٍ في الحياة العامة البرازيلية فحازت على اهتمام متزايد بين الشباب البرازيلي. ويقال: إنها ساهمت في تجييش الجمهور للمظاهرات الهائلة التي اجتاحت البلاد بعد عدة أشهر - يونيو (حزيران) - 2013 وضغطت لتغيير النخبة البرازيلية المغرقة بالسرقة والنهب. بعض الشخصيات الحقيقية التي شعرت أن القصة تتحدث عنها سارعت إلى رفع دعاوى، متهمة الفنان مبدع القصص (لوسيانو كونها) بالتحريض على القتل لكن هذه الدعاوى لم تنجح في إثبات شيء، وإن مثلت دفعة هائلة لشعبية شخصية الموقظ الكوميكية؛ فازداد الطلب عليها على نحو غير مسبوق. وقد تلقى لوسيانو عرضًا الآن من أهم شركة إعلامية برازيلية لتحويل القصة إلى عمل سينمائي، وأصبح قادرًا على التفرغ للعمل على إنتاج الرسوم للقصة المصورة عبر وسائط الإعلام المختلفة مطبوعة وإلكترونية.
«فوت علينا بكرة» - لشريف عادل - تجربة واعدة - لكنها يجب أن تكسب قلوب الجماهير المصرية برفع مستوى النقد قبل أن تتوقع تدفق المبيعات، ولاحقًا، الإعلانات. حتى ذلك الحين، ربما على شريف أن يستمر في العمل في عيادة الأسنان لبعض الوقت إلى جانب عمله على قصة شخصية الشاب المصري النبيل - فهمي - في مواجهته الجميلة للرداءة الشاملة، وهو في كلا المهنتين يسمح لنا بالابتسام رغم كل شيء.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.