من التاريخ: المكارثية

جوزيف مكارثي
جوزيف مكارثي
TT

من التاريخ: المكارثية

جوزيف مكارثي
جوزيف مكارثي

دفعني الفضول لمشاهدة الفيلم الأميركي «ترامبو» Trumbo الذي يأخذ عنوانه من اسم كاتب السيناريو الأميركي جيمس دالتون ترامبو الذي اشتهرت سيناريوهاته للكثير من الأفلام التي تمثل أيقونات في السينما العالمية مثل «سبارتاكوس» و«إجازة رومانية» إلخ... والتي أدعي أنني شاهدتها مرارًا في حياتي. إلا أنني كأغلب المشاهدين لم ألتفت إلى الكاتب بقدر ما التفت إلى الممثل وبدرجات أقل المخرج، أما السيناريست فلا مكان له في معظم الأحيان في أذهان المشاهدين من أمثالي.. الذين هم الغالبية.
ما هالني في الفيلم حالة الاضطهاد التي تعرّض لها يساريو الولايات المتحدة وليبراليوها في الفترة التي تزامنت مع «الحرب الباردة» برغم عدم تحمّسي الطبيعي للفكر اليساري، وبالذات الشيوعي. إذ جسّد الفيلم حالة التخوف الهستيري الذي شاب المجتمع الأميركي تجاه ذلك الفكر، وبلغ هذا التخوف مرحلة الملاحقة القضائية المستمرة والحصار الشخصي، وسط تجاهل كامل لـ«التعديل الأول» للدستور الأميركي الذي يضمن حرية الفكر طالما أنه لا يتعرض للمبادئ العامة له.
يومذاك حاصر القائمون على السينما الأميركية كل من اعتنق فكرًا يساريًا بغض النظر عن قدراته على أداء مهنته، وشخصية «ترامبو» كانت تجسّد أفضل كاتبي السيناريو في هوليوود، لكنه مع ذلك سُجن ومُنع من الكتابة لسنوات طويلة فاضطر للكتابة تحت أسماء مستعارة، إلى أن انتهت حقبة الاضطهاد تلك التي شوهت لفترة المجتمع السياسي الأميركي.
تلك الحقبة عرفت بـ«الحقبة المكارثية» نسبة للسيناتور اليميني جوزيف مكارثي. ومن ثَم، دخلت «المكارثية» قاموس السياسة لتعني الاضطهاد والملاحقة من قبل الدولة لمن يعتنق فكرًا مناوئًا لها، وذلك على الرغم من وجود مُسميات مشابهة مختلفة أدرجها التاريخ في طياته، لعل أشهرها ما عُرف باسم «محاكم التفتيش» Inquisition التي قادتها الكنيسة الكاثوليكية ضد كل من كانت تشك فيهم بما في ذلك العلماء، وعلى رأسهم العالم العظيم غاليليو غاليليي لأنه آمن وأعلن أن الأرض ليست مركز الكون. ولقد اضطرت الكنيسة لأن تعتذر له بعد مرور قرون من الزمن.
جوزيف ماكارثي قاد حملات التشهير والتطهير في الولايات المتحدة خلال مطلع خمسينات القرن الماضي ضد كل ليبرالي أو يساري ملصقًا به أو بها تهمة الشيوعية، مدفوعًا بطموحاته الشخصية للارتقاء السياسي في أروقة السياسة الأميركية، وأيضًا للارتقاء الاجتماعي، خاصة أنه كان من أصول آيرلندية متواضعة في ولاية يسكونسن، وبدأ كفاحه الاجتماعي على مقاعد الدراسة. بعدها التحق بالجيش خلال الحرب العالمية الثانية ولكن لم تكن لديه الخبرة القتالية التي سعى لمحاولة اكتسابها من خلال وسائل الإعلام فيما بعد. وبعد عودته للحياة العامة عمل قاضيًا في الولاية إلى أن رشح نفسه لمجلس الشيوخ الأميركي. ولقد نجح في ترشحه الثاني كمرشح جمهوري فأصبح في حينه أصغر سيناتور أميركي عن عمر يناهز الثامنة والثلاثين.
لقد كانت الظروف السياسية المحيطة بالولايات المتحدة في ذلك الوقت تنبئ ببداية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وأخذت واشنطن تعد لهذه الحرب الجديدة تدريجيًا في محاولة لمواجهة الفكر اليساري على المستوى الدولي لـ«إبعاد خطر الشيوعية» عن حلفائها أو الدول المحايدة. وكان قد ساهم في انتشار الفكر اليساري في ذلك الوقت داخل الولايات المتحدة ذكريات حالة «الكساد الكبير» الذي ضرب البلاد لمدة طويلة قبل الحرب العالمية الثانية وأدى إلى مشاكل اجتماعية كبيرة للغاية وفقدان الملايين وظائفهم في المصانع والشركات. تلك المعاناة أسهمت في تجميل الاشتراكية والشيوعية في نظر هؤلاء وأسرهم وانتشرت بعض البؤر التي اعتنقت هذا الفكر بما في ذلك الحزب الشيوعي الأميركي. وكان من الطبيعي مع اندلاع الحرب الباردة، وبالأخص، بعد تطوير الاتحاد السوفياتي القنبلة الذرية انتشار الخوف من حرب نووية آتية. وهذا ما ساهم في تطوير مصطلح «الرعب الأحمر» Red Scare الذي انتاب الولايات المتحدة على كل الأصعدة. وكان هذا الخوف هو الفرصة التي استغلها السيناتور الشاب للتدرج السياسي من خلال قيادة حملاته القضائية والبرلمانية لملاحقة كل من كان له علاقة باليسار أو حتى المتعاطفين معه.
بدأ مكارثي حملته قرب نهاية مدته الأولى في مجلس الشيوخ، عندما بدأ يصنع لنفسه هالة «مخلص البلاد من الشيوعيين» من خلال توجيه الاتهامات إلى مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة كالصحافة والجامعات وهوليوود، مستغلاً الخوف الأميركي. وهذا ما جلب له تعاطفًا شديدًا على المستوى الشعبي، لا سيما أن الرجل كان صريحًا ولبقًا ويتمتع بـ«الكاريزما». كذلك كان للإعلام دوره الكبير في صناعة هذا «النجم» المثير للجدل. وبدأت كل مؤسسات الولايات المتحدة تخشاه، حتى أنه شن هجومًا عاتيًا على وزارة الخارجية متهمًا وزير الخارجية جون فوستر دالاس، في ذلك الوقت، بـ«حماية دبلوماسيين شيوعيين» في وزارته متهمًا بعضهم صراحة بالعمالة للاتحاد السوفياتي. كذلك فجّر مفاجأة مدوّية بزعمه وجود 150 دبلوماسيا أميريًا يعتنقون الشيوعية ولهم اتصالات بالمؤسسات السوفياتية. ولقد لاقت هذه الحملة رواجًا إعلاميًا وجماهيريًا كبيرًا جعلت مكارثي نجمًا ساطعًا في واشنطن، وثمة آراء تشير إلى أن نجاحاته وطموحاته دفعته للاعتقاد بأنه يمكن أن يكون رئيسًا للبلاد في المستقبل.
وواصل مكارثي حملاته من دون توقف أو تحديد أهداف بشكل سياسي متّزن، وساعده على ذلك أنه تم انتخابه رئيسًا للجنة الحكومية في مجلس الشيوخ ما منحه السلطة البرلمانية للتحقيق مع هذه المؤسسات الحكومية. أتيحت له حالة من القوة المفرطة لم يستغلها بشكل حكيم، فكانت بداية أخطائه أنه وجه حملته التالية على وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) الأميركية التي كانت يترأسها في ذلك الوقت آلان دالاس، الأخ الأصغر لوزير الخارجية. إذ بدأ مكارثي يروّج شائعات عن وجود عملاء سوفيات في الوكالة يتجسسون على البلاد وهو ما لاقى استياء القيادة السياسية الأميركية في ذلك الوقت، إذ رأت أنها ستؤثر سلبًا على المصداقية الأميركية خارجيًا وعلى الرأي العام داخليًا، وكذلك ضرب الوحدة المؤسسية الحاكمة في البلاد. وكان للسيناتور ريتشارد نيكسون - الذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد - دور كبير في إثناء زميله عن الاستمرار في هذا الهدف الخطير، وهو ما اضطر الرجل للانسحاب من هذه المعركة، ولكن ليس قبل أن يوحد صفوف أعدائه داخل مؤسسة السلطة، الذين ضاقوا ذرعًا برعونته وطموحاته.
لكن الخطأ السياسي الأكبر الذي ارتكبه مكارثي كان إشهار سلاحه ضد المؤسسة العسكرية الأميركية. ويومذاك كان رئيس الجمهورية دوايت أيزنهاور، الجنرال المتقاعد وبطل الحرب العالمية الثانية، الذي رأى أن الرجل قد بدأ يتخطى كل الحدود. ومع تزايد الأعداء، وانكشاف بطلان الاتهامات التي كان يطلقها مكارثي جزافًا، شكلت «الحرب» الحرب بينه وبين مؤسسات الجيش بداية نهايته. وأخذت تظهر دلائل على أن الرجل لم يكن موضوعيًا في الكثير من اتهاماته، التي أطلقها دون دليل دامغ أو حتى شبهات يمكن أن تمثل أساسًا لبدء التحقيقات خاصة أن القضاء قد برا كثيرين من المتهمين. ولقد استغل أعداؤه تهديدات أحد مساعديه لأحد الجنرالات لرفضه منح معاملة استثنائية لمجند كانت تربطه به علاقة آثمة، وعقد مجلس الشيوخ جلسات استماع ضد مكارثي جعلته يفقد كل الأرضية السياسية والدعم الشعبي الذي كان محاطًا به كما أفقدته هذه الجلسات الشعبية الإعلامية. ومن ثم استقرت اللجنة ضد مكارثي وأصدرت ضده قراراتها العقابية التي انتهت بكسره سياسيا، وبانطفاء نجم مكارثي انطفأت الفتنة التي قادها في المجتمع التي دفع ثمنها كثيرون من الأبرياء. ولكن على الرغم من القضاء على «المكارثية» رجلا وحملة، فإنها ظلت كظاهرة «نقطة سوداء» في التاريخ الأميركي شكلت أسوأ تعديات على الحريات والعدالة في كثير من الأحيان.
حقيقة الأمر، أن ظاهرة مكارثي تحتاج إلى وقفة للتأمل والتفكر في الوقت ذاته. ففكرة الاضطهاد الجزافي لأسباب فكرية تمثل نموذجًا غير ممكن استمراره، خاصة أن الفكرة لا تقارع إلا بالفكرة طالما أنها لم تدخل إلى حيز السلوك. ولكن من ناحية فإن التاريخ السياسي لمكارثي يمثل نموذجًا لرجل جانبه الصواب في مرحلة ما متأثرًا بالنجاح الكبير الذي حققه والدعاية الإعلامية التي سبقته ولاحقته. وهو في تقديري وقع في خطأين أساسيين: الأول أنه فاته كسياسي ضرورة التوقف عند نقطة زمنية محددة. والثاني كان سوء تقديره خطورة تهديد كل مؤسسات الدولة القوية في آن واحد. ومع أن الخطأ الأول يظل مشكلة شخصية يمكن تداركها مع الوقت، ولكن عند حدوث الخطأ الثاني فإن السياسي يكون في سبيله لحفر قبره السياسي وهذا ما حدث لجوزيف مكارثي. إن البوصلة السياسية عندما تضل تقود صاحبها إلى الهلاك حتمًا... وهذه سنة السياسة في كل الأنظمة والدول والمجتمعات.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.