شباب بغداد يعيدون الحياة لمسرح الرشيد

بعد مرور 13 عامًا على قصفه

شذى سالم ومشهد من مسرحيتها «الجنة تفتح أبوابها متأخرا»
شذى سالم ومشهد من مسرحيتها «الجنة تفتح أبوابها متأخرا»
TT

شباب بغداد يعيدون الحياة لمسرح الرشيد

شذى سالم ومشهد من مسرحيتها «الجنة تفتح أبوابها متأخرا»
شذى سالم ومشهد من مسرحيتها «الجنة تفتح أبوابها متأخرا»

استهل المسرحيون العراقيون احتفالاتهم بيوم المسرح العالمي الذي صادف أمس بتدشين قاعة مسرح الرشيد للمرة الأولى بعد مرور 13 عاما على قصفه من قبل القوات الأميركية عام 2003، وذلك بقراءة قصيدة للشاعر حميد قاسم قبل أن يتم تقديم مشاهد من عروض مسرحية عراقية متميزة، مثل: الملك لير، والجنة تفتح أبوابها متأخرا، ومخفر الشرطة القديم، وروميو وجوليت في بغداد، جسدها على خشبة المسرح الفنان المسرحي الكبير سامي عبد الحميد والفنانتان المبدعتان شذى وشقيقتها سهى سالم والمسرحية المتألقة آلاء حسين، والمسرحيون المبدعون: مناضل داود وحكيم جاسم ورائد محسن ويحيى إبراهيم، حيث اختتم العرض الفنان سامي عبد الحميد بمشهد من «روميو وجوليت في بغداد»، داعيا العراقيين إلى نبذ الكراهية والاقتتال وداعيا إلى سيادة المحبة بين الناس.
وكان ما يقرب من مائة متطوعة ومتطوع من شباب بغداد قد عملوا لأسابيع طويلة من أجل إعادة الحياة لصالة مسرح الرشيد في منطقة الصالحية بجانب الكرخ من العاصمة بغداد الذي يتسع لسبعمائة شخص يعد واحدا من أكبر واهم صالات العراق للعروض المسرحية من حيث تقنياته الفنية وإضاءته وأجهزته الصوتية قبل أن يتم قصفه من قبل الطائرات الأميركية في 2003 وتدمير بناية دائرة السينما والمسرح بصالاتها وأجهزتها السينمائية، وكل ما تبقى من البناية ذات الطوابق السبع صالة مسرح الرشيد التي تعرضت للحريق والخراب.
وحسب أحد القائمين على المسرح فإن «الحكومة كانت قد خصصت أكثر من 20 مليون دولار لإعادة صيانة مسرح الرشيد لكن الأموال سرقت، بل إن من تم تكليفه من المقاولين بصيانة المسرح قام بسرقة أجهزته وتركه خربا»، مشيرا إلى أن «وزارة الثقافة تركت هذا المسرح خربا ومشوها، مع أننا كنا نتوسل وزراء الثقافة المتعاقبين على الوزارة الاهتمام به ولم يلتفتوا إلينا حتى تطوع شباب من بغداد لإعادة صيانة أجزاء بسيطة منه وتنظيفه وتهيئته للعرض بإمكانات متواضعة لافتتاح احتفالاتنا بيوم المسرح العالمي».
الفنانة المسرحية، الدكتورة شذى سالم، أستاذة في كلية الفنون الجميلة، كانت تؤدي مشهدا من مسرحية «الجنة تفتح أبوابها متأخرا» من إخراج الدكتور فاضل خليل، بينما تغالبها دموعها «حزنا على ما آل إليه وضع أفضل صالة عرض مسرحي في العراق، وسعادة لأنني أقف اليوم وبعد سنوات طويلة على خشبة هذا المسرح مع أن الخراب يحيط بنا».
وأضافت «لقد قدمت أروع عروضي المسرحية فوق خشبة هذا المسرح وكل ذكرياتي الفنية هنا، وأراد الاحتلال الأميركي أن يمحوا هذه الذاكرة كما أن الحكومات التي توالت على حكم العراق منذ تغيير النظام حتى اليوم أصرت على إحالة مسرح الرشيد إلى النسيان لعدم اهتمامهم بالثقافة العراقية، وبفضل إصرار الشباب عدنا محتفلين بيوم المسرح العالمي إلى بيتنا الأول والأثير».
بينما استذكرت شقيقتها الدكتورة سهي، وهن ابنتي الفنان المسرحي الراحل طه سالم، التي قدمت أمس مشهدا من مسرحية شكسبير(الملك لير) إخراج الدكتور صلاح القصب، سنواتها مع مسرح الرشيد قائلة لـ«الشرق الأوسط» لقد «كنت طفلة وأنا أمثل لمسرح الطفل فوق هذا المسرح حيث قدمنا مسرحية (الأمير الصغير) لسانت اكزوبري وإخراج الفنانة الراحلة منتهى عبد الرحيم، ومنذ ذلك الوقت المبكر وأنا أمثل فوق خشبة مسرح الرشيد حتى تم قصفه وكأنه مقر قيادة وليس مسرحا وصرحا فنيا وثقافيا»، معبرة عن أسفها «لترك بناية دائرة السينما والمسرح عرضة للخراب، وخاصة هذا المسرح الذي شهد عروضا متألقة لكبار المسرحيين العراقيين أمثال إبراهيم جلال وقاسم محمد وبدري حسون فريد وصلاح القصب وعوني كرومي، كما أقيمت عليه مهرجانات الشعر التي قرأ فيها نزار قباني ومحمود درويش وغيرهما».
المخرج والممثل المسرحي الدكتور مناضل داود، قال لـ«الشرق الأوسط» «لست مصدقا نفسي باني وبعد سنوات من تغييب واحد من أهم المسارح العراقية نعود لنؤدي عليه ونحتفل بيوم المسرح العالمي فوق خشبته». وكان قد قدم داود أمس مشاهد من مسرحيته(مخفر الشرطة القديم) وهي من تأليفه وإخراجه وتمثيله التي جذبت اهتمام المشاهدين، وقال: «هل يعقل أن يتم إنفاق مليارات الدولارات في مشاريع لم نرها ولا يتم إعمار أفضل مسرح في العراق بينما كان المسرح العراقي هو في مقدمة المشهد العربي مسرحيا.»



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)