«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له

شرعنة قتل العناصر المُتمردة ونشر صور الرهائن قبل إعدامهم.. أبرز ملامحه

«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له
TT

«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له

«داعش» يستمد عقيدته من «إدارة التوحش» للمتطرفين ويتخذه دستورًا له

شكلت صناعة الصورة واستخدام أقصى طاقات التكنولوجيا في ترويجها، وقياس ردود الفعل المحتملة حيالها، ركيزة أساسية في الحرب المتطرفة التي يديرها ويشنها بنجاح تنظيم داعش الإرهابي، ويدعم من خلالها أهدافه الاستراتيجية على الأرض، وعلى رأسها عقيدة قتالية تستند على الفعل أولا، ثم مرحلة التبرير والتفسير ثانيًا.
وعلى ذلك، لم يكن وليد الصدفة، نشر «داعش» صور الرهائن قبل تنفيذ حكم الإعدام فيهم، وتبرير إعدامه العناصر التي تمردت، خاصة الأجانب في الفترة الأخيرة. فهذا التصرف مستوحى من دستور الحركات المتطرفة الذي هو كتاب «إدارة التوحش». وبينما يرى خبراء مصريون أن خطاب هذا الكتاب يُعد أداة قتال رئيسية يعتمد عليها «داعش» بشكل كبير وليس مجرد آلية للدعاية والتسويق العالمي من أجل مُخاطبة مُقاتليه»، يقول مراقبون إن «الكتاب دليل خطير على تكتيكات عنيفة جدا احتضنها (داعش) الإرهابي وخليفته المزعوم أبو بكر البغدادي ليُطبقها كما جاءت بكل دقة».
لقد خرج على العالم كتاب خطير يكشف مضمونه من اسمه هو «إدارة التوحش». ويقوم هذا الكتاب، الذي سبق لـ«الشرق الأوسط» أن ناقشت بعض ما فيه، على نظرية تدعو لمزيد من التخريب من أجل استدراج «العدو أميركا» - حسب وصفهم - لأرض المعركة التي يختارها «المجاهدون» وهي، للأسف، أرضهم.
ومن ثم، لعب هذا الكتاب دورًا محوريًا في تشكيل وعي الجماعات المتشددة طيلة الفترة الماضية وفي مقدمتهم «الدواعش»، الذين انتهجوا الإرهاب والتطرف المفرط. وكان ظهوره الأولي عبارة عن مجموعة مقالات نشرت على مواقع الإنترنت، ولم يلتفت كثير في حينه إلى هذا الذي يمكنه أن يبث فكرًا تفجيريًا لا يقل خطورة عن أسلحة الدمار المستخدمة ضد الآمنين.
ولكن اليوم يعتبر كثيرون من الخبراء كتاب «إدارة التوحش»، الذي عُثر عليه في عام 2008 ضمن وثائق ورسائل موجهة من وإلى زعيم تنظيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن، مشروع المتطرفين الذين يسمون أنفسهم «أهل التوحيد والجهاد» أو «مشروع العمل الإسلامي» أو دستور الحركات المتطرفة التي تمارس الإرهاب باسم الإسلام. وجميع الجماعات الإرهابية تتداول هذا الكتاب فيما بينها بكثير من الاحترام والقدسية، وهو مُؤلف صغير الحجم (113 صفحة) لمؤلف مجهول يحمل اسم «أبو بكر ناجي».
وتأتي استراتيجية خطاب الجماعات المتطرفة في الكتاب من العناصر الرئيسة التي تحدث عنها الكتاب، فيقول الكتاب إنها تستهدف وتركز على فئتين: الأولى، فئة الشعوب لدفع أكبر عدد منهم إلى الانضمام لـ«الجهاد» باسم الدين، وكسب التعاطف السلبي لمن لا يلتحق بصف الجماعات. والثانية، أصحاب الرواتب الدنيا (المُعدمين) لدفعهم نحو الانضمام لـ«المجاهدين».
ويتابع الكتاب - بحسب مؤلفه المزعوم - أن الجماعات الدينية تهدف لإعداد خطة تستهدف في كل مراحلها تبريرًا عقليًا وشرعيًا للعمليات (أي القتال) خاصة لفئة الشعوب. ويقول الكتاب إن الشعوب هي الرقم الصعب الذي سيكون ظهر ومدد «الجماعات» في المستقبل.. على أن يكون في هذه الخطة من الشفافية؛ بل الاعتراف بالخطأ أحيانا لترسيخ انطباع الصدق عن «الجماعات» عند الشعوب. ويؤكد الكتاب أن قادة الجماعات المتشددة يرون ضرورة إظهار مشاهد الأشلاء والدماء والجماجم في وسائل الإعلام المختلفة لبث الرعب والخوف في نفوس العالم أجمع.
بدوره علق الدكتور عبد الصبور فاضل، الأستاذ في جامعة الأزهر بالعاصمة المصرية القاهرة، إن ما أخذه «داعش» من هذا الكتاب هو «بث الرعب في الطرف الآخر وإحداث نوع من الحرب النفسية ببث بعض الأخبار الكاذبة عن – دولة الخلافة المزعومة - ومشاهد القتل والدمار والعنف، فضلا عن المقاطع المُصورة المُفبركة في بعض الأحيان لتصوير أنه تنظيم لا يُقهر أصلا لتوجيه رسالة للعالم خاصة الغربي». ولفت إلى أن «داعش» ليس لديه أخلاقيات ويعتمد بشكل كبير على الدعاية السوداء والكذب، التي تستعين بها جميع التنظيمات المتطرفة.
هذا، ويقترح الكتاب أن يعمل المتشددون على جرّ الولايات المتحدة إلى حرب ستتحوّل في نهاية المشوار إلى «حرب استنزاف»، الغاية منها إجبار الولايات المتحدة على الاستسلام. وتتطلب هذه الاستراتيجية استقطاب العالم الإسلامي وإقناع المسلمين المعتدلين الذين كانوا يأملون بالحماية من جانب الولايات المتحدة، بأن هذا الأمر لا يجدي نفعًا. وهنا يقول مراقبون إن «ثمة مخاوف الآن في الغرب، خاصة، بعدما طوّرت (داعش) قدراتها القتالية بشكل يتيح لها شن هجمات إرهابية كبيرة في أماكن مختلفة بعيدة عن المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا والعراق وليبيا».
وكان «داعش»، بالفعل، قد توعد في فيديو مصوّر الغربيين أخيرًا بهجمات «تنسيهم» - على حد زعمه هجمات نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وباريس نهاية العام الماضي.
وحسب الدكتور فاضل فإن «داعش» وفّر «الإمكانيات المادية لتدريب كثير من الكوادر لاختراق المواقع الإلكترونية في الدول بتكنولوجيا حديثة بدليل استعانته بالأجانب، لمساعدة التنظيم في ضم كثير من الشباب والفتيات عبر (تويتر) و(فيسبوك)».
وفي السياق نفسه، يؤكد الخبراء أن تنظيم «داعش» الإرهابي ينشر يوميًا ما يقرب من 250 ألف تغريدة على مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر» و«فيسبوك» لتوصيل رسالة بأن عدد الداعمين لأفكار التنظيم في تزايد مستمر، لافتين إلى أن «داعش» يعتمد اعتمادًا كليًا على قراصنة الكومبيوتر «الهاكرز» لاختراق حسابات رواد التواصل الاجتماعي لجذب المزيد من المتابعين والتأثير عليهم. كما أن «الهاكرز» يقومون بتصوير الحياة في ظل - مزاعم «دولة الخلافة» - بأنها حياة طبيعية، متجاهلين فيديوهات القتل والذبح والوحشية التي يرتكبها عناصر التنظيم. وهذا يعني أن «داعش» يمتلك «جيشًا إلكترونيًا» لنشر الفيديوهات عبر دول العالم لزيادة شعبيته، خاصة، في الدول الأوروبية.
وعن ضرورة إظهار مشاهد القتل والدمار التي نقلها الدواعش من فكر الكتاب، قال الدكتور فاضل لـ«الشرق الأوسط» - وهو حاليًا عميد كلية الإعلام بجامعة الأزهر إن هناك حالة من التضخيم تسببت فيه بعض وسائل الإعلام الغربية لإقناع البسطاء في العالم أن «داعش» يملك كيانا يُقارب حجم الدول. ويؤكد كتاب «إدارة التوحش» أن خطة الجماعات المُتطرفة عندما تواكب مرحلة إدارة «التوحش» بصفة خاصة هدفها - الذي يجب أن تقوم لجانها تخصيص من يخطط لها من الآن (أي عام 2008)– هو أن تطير جموع الشعوب إلى المناطق التي تديرها وتقع تحت سيطرة الجماعات، خاصة الشباب منهم.
ومن ثم حدّد الكتاب شخصية مَن يقوم بصياغة الخطاب الذي يوجه لجذب أنصار جُدد للجماعات الإسلامية، حيث يقوم بتوجيه أغلبها للرد على شبهات من يزعم أنهم «مشايخ السوء» (وهم المشايخ الرسميون في الدول)، والتركيز على تخيل صحيح لعقلية العوام وأكثر الأفكار التي تعوقهم (أي العوام) عن الالتحاق بصفوف «الجهاد» المزعوم.
من جانبه، يقول الخبير الإعلامي الدكتور مرعي مدكور لـ«الشرق الأوسط» إن خطاب «داعش» الذي استوحاه من «إدارة التوحش» يُعد «أداة قتال» رئيسة من أدوات المعركة التي يخوضها التنظيم المتطرف، وليس مجرد آلية للترويج الخارجي لمُقاتليه، لافتًا إلى أن خطابه يعتمد على التخويف والترويع كما كان يفعل التتار عندما يغزون البلدان في الماضي.
ويقول الكتاب أيضًا عندما نريد توصيل رسالة كأن نخطف رهينة ثم بعد ذلك إثارة ضجة حولها ونطلب من مراسلي المحطات والشبكات الإعلامية إعلان ما نريد إيصاله للناس كاملا مقابل تسليم الرهينة، فيمكن أن يكون ما نريد إعلانه بيانًا تحذيريًا أو تبريرًا لعمل مصيري. ولم يستبعد مدكور، وهو عميد كلية إعلام جامعة 6 أكتوبر، امتلاك «داعش» في المستقبل قنوات فضائية قد تُبث عبر الأقمار الصناعية مثل «النايل سات»، مؤكدا أن ما يروّجه «داعش» بأنه يستطيع تخطي أي خطوط أو عقبات أمامه، ينبعي أن يوضع جديًا في الاعتبار.
كذلك، يؤكد خبراء أن «داعش» ينطلق في أنشطته الاتصالية من استراتيجية متكاملة يوفر لها طاقات كبيرة ويحشد لها موارد ضخمة، ويقول الدكتور حسام شاكر، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، إن «التنظيم لديه شبكة من المؤسسات التي تعمل بتكامل، وتتخصص كل واحدة منها في أداء دور مُحدد»، موضحا لـ«الشرق الأوسط» أن «مَن يحلل رسائل (داعش) يجد أنها تتمتع بدرجة عالية من الاحترافية والجودة، لا تتناسب مطلقا مع المواقف الآيديولوجية التي ينطلق منها أعضاء التنظيم، فضلا عن تمتع تلك الرسائل بموارد ضخمة وقدرات تنظيمية عالية».
ويوضح الكتاب في فصله السابع أنه «في مرحلة شوكة (النكاية والإنهاك) نحتاج لاستقطاب الأخيار من الشباب وأفضل وسيلة هي العمليات المبررة شرعًا وعقلاً.. وأعلى درجات التبرير، هو تبرير العملية نفسها بنفسها؛ لكن لوجود الإعلام المضاد - بحسب مؤلف الكتاب - يصعب إيجاد العملية التي تبرر نفسها بنفسها، وإن كان من الممكن أن يحدث ذلك عندما نصل لمرحلة عالية من الإعلام، وعندها يعجز الإعلام المضاد عن متابعتنا وتشويهنا».
ويضيف المؤلف: «لكن في المرحلة التي ينشط فيها الإعلام المضاد، فلا سبيل لتبرير العمليات إلا بإصدار بيانات من خلال الإعلام المسموع أو المرئي تمهد لكل العمليات قبل القيام بها - دون تحديد - وتبرر لها بعد القيام بها تبريرًا شرعيًا وعقليًا قويًا، يراعى فيها الفئة المُخاطبة، وينبغي أن تشمل أغلب البيانات أهدافنا العامة المقبولة عند الناس حتى دون عبارات صريحة مثل: «إننا نقاتل لإخراج أعداء الأمة ووكلائهم الذين دمروا البلاد عقائديًا...».
هذا وندّد الدكتور مدكور بطرق المواجهة الإعلامية المنتشرة في الإعلام العالمي الآن، والتي تواجه «الدواعش» بالتركيز على مدى وحشية ممارساتهم وكأنها تحاول أن تثبت للعالم أن هذا التنظيم هو الشر المطلق. إذ يرى مدكور أن القائمين على هذه الحملات لم يدركوا أن هذا يصب في مصلحة «داعش» التي نجحت في توجيه وتوظيف وسائلها ووسائل الإعلام العالمية في خدمة أهدافها المتمركزة حول نشر ثقافة الرعب والخوف.
أخيرًا، مؤلف الكتاب يرى أن فترة «إدارة التوحش» هي «الأخطر على الأمة»، وذلك بالتحوّل من مقاتلة العدو القريب المتمثل في الأنظمة السياسية والنخب العربية والإسلامية التي يصفها بـ«المرتدة»، إلى مقاتلة «العدو البعيد» المتمثل في الغرب عمومًا، والولايات المتحدة وإسرائيل خصوصًا. وحسب الخبراء فإن دول غرب أوروبا تحتل المرتبة الثالثة بين أكثر المناطق الجغرافية تصديرًا للمتطرفين المنضمين لـ«داعش» بتعداد وصل إلى 5 آلاف مقاتل نهاية عام 2015، بينما تأتي منطقة الشرق الأوسط والمغرب العربي في المرتبتين الأولى والثانية. أما على مستوى الدول فتأتي تونس في المرتبة الأولى برقم وصل إلى 6 آلاف مُقاتل، تليها روسيا بـ2400، فتركيا 2100، فالأردن بألفي مقاتل. وعلى مستوى أوروبا الغربية تأتي فرنسا في المقدمة بتعداد 1700 مُقاتل، ثم بريطانيا وألمانيا بتعداد 760 مقاتلاً لكل منهما.
ويشير حسام شاكر إلى أن «داعش» يصوغ استراتيجيته «ليخاطب ثلاثة مستويات مختلفة تمامًا: فهناك خطاب للأتباع والمتعاطفين والمؤيدين، وهناك خطاب يستهدف المتابعين الذين يقفون على الحياد أو في مفترق طرق إزاء التنظيم وأعدائه، أما الخطاب الثالث فيستهدف أعداء التنظيم».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.