أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الأسبق لـ «الشرق الأوسط»: ما يحدث في المدينة إبادة جماعية بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)
TT

أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)

سكان الفلوجة ما بين محتضر ومنتحر بعد أن ضاقت الدنيا عليهم من حصار دام سنتين ما بين المنظمات الإرهابية، مثل «داعش» والقوات العراقية، ليجد السكان أنفسهم ما بين فكي كماشة لا ترحم ولا تذر.
كان أهالي مدينة الفلوجة يضرب بهم المثل لكرمهم وإيوائهم النازحين من المحافظات التي كانت تتعرض للقصف المدفعي خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، كون سكانها من أبناء العشائر العربية فإنهم لم يردوا أي طالب للمساعدة يومًا، إلا أنهم منذ عامين لتضيق بهم الحياة ليجدوا أنفسهم محرومين من الغذاء والدواء ولم يجدوا أمامهم سوى الأعشاب البرية، والأدهى من ذلك وضع البعض منهم حدًا للحياة بالانتحار.
ويصف الحاكم الإداري لقضاء الفلوجة المحاصرة ما يحدث لأهالي المدينة بـ«الكارثة» ووصمة عار في جبين الحكومة العراقية، في حين قال السياسي طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية الأسبق إن «جميع المؤشرات التي جمعت بناء على تقارير وبيانات رصينة صدرت عن جهات موثوقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العوائل المحاصرة في الفلوجة تتعرض لإبادة جماعية».
وقال سعدون عبيد الشعلان، قائمقام قضاء الفلوجة لـ«الشرق الأوسط» إن «الفلوجة محاصرة بسورين، خارجي يتمثل بقوات الجيش العراقي، وسور داخلي مفروض من قبل مقاتلي تنظيم داعش»، مشيرًا إلى أن «الدواعش لا يسمحون بخروج أي مواطن من أهالي المدينة لاستخدامهم دروعًا بشرية، كما لا يسمحون بدخول الغذاء والدواء عقوبة للأهالي الذين لم ينظموا للتنظيم الإرهابي».
وبين الشعلان أن «القوات الأمنية المتمثلة بالفرقة الذهبية التابعة للجيش العراقي والشرطة الاتحادية فتحوا منافذ لتمكن الناس من الهروب، ومن يخرج يرفع راية بيضاء، ثم يتم التأكد من هويته للتحقق من أنه ليس من تنظيم داعش، لكن (داعش) يراقب هذه المنافذ بدقة وتحاصرها».
وأشار الحاكم المدني لمدينة الفلوجة إلى أن «عدد المحاصرين من أهالي المدينة يزيد عن 100 ألف شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ من أصل 620 ألفًا هم عدد سكان قضاء الفلوجة وضواحيها، وأن الحصار مركز من قبل تنظيم داعش على مركز المدينة»، مؤكدا أن الآلاف من المحاصرين يعانون من الجوع والأمراض ويقتاتون على التمور اليابسة غير الصالحة للطعام وعلى الأعشاب البرية، وخصوصًا (الخباز) الذي انتهى موسمه، ويتعرض للجفاف، بينما يسيطر مقاتلو (داعش) وعوائلهم على مخازن الأغذية والدواء».
وذكر الشعلان بعض القصص المآساوية لما يعانيه الأهالي ليس بسبب الجوع فحسب بل بسبب القصف الجوي للمدينة، وقال إن «العشرات من الأطفال قضوا بسبب القصف الجوي والمدفعي العشوائي من قبل القوات العراقية»، مضيفًا بقوله: «بسبب الجوع قام رب أسرة تتكون من 8 أشخاص بوضع السم لهم في الماء، لعدم وجود الغذاء لكن الأطباء في مستشفى الفلوجة العام قاموا بإسعافهم وإنقاذهم، بينما لم يستطيعوا إنقاذ الأم التي ألقت بنفسها مع ثلاثة من أطفالها في النهر بسبب الجوع، بل أنقذوا أحد الأطفال فقط لتموت الأم مع اثنين من أطفالها».
وأضاف قائمقام قضاء الفلوجة: «لقد طلبنا من الحكومة العراقية إنقاذ الأهالي في الفلوجة عن طريق قوات التحالف الدولي لإلقاء الأغذية والأدوية في المدينة عن طريق الجو، لكن الحكومة رفضت بحجة أن تنظيم داعش سيسيطر على تلك الأغذية والأدوية»، منتظرين أن ثور أهالي مدينة الفلوجة على «داعش» للحصول على ما ترميه الطائرات من مؤن.
وأكد الشعلان عدم تمكن أي جهة من إيصال المساعدات الغذائية برًا للمدنيين، مطالبًا بتدخل الأمم المتحدة بشكل فوري لإنقاذ الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، الذين يموتون جوعًا بسبب النقص الحاد في حليب الأطفال والغذاء والأدوية.
وأوضح الشعلان أن مقاتلي «داعش» الذين يتمركزون في الفلوجة من الأجانب مع عوائلهم، وأن هناك بعض الإيزيديات اللاتي تم اختطافهن من قبل المتطرفين الأجانب، مشيرًا إلى أن «كل من يعترض على ممارسات تنظيم داعش يتعرض للإعدام عن طريق رميه من سطح بناية عالية، وهو ما حدث أخيرا بإعدام ستة أشخاص بهذه الطريقة».
قصص الموت جوعًا ومحاولات الهروب الصعبة تروى ممن تمكن من الأهالي من الهروب من هذا الحصار القاسي للغاية، إذ التقت «الشرق الأوسط» أحد أهالي الفلوجة الذين هربوا من هذا الجحيم، ويقال له محمد فاهم فرحان (42 عامًا)، تمكن من الفرار من الحصار أخيرًا، قال إن عملية الخروج من مدينة الفلوجة تبدو شبه مستحيلة بسبب محاصرة مقاتلي «داعش» للأهالي، مشيرًا إلى أنه «لم يعد هناك سوى منفذ واحد وهو عبور النهر بواسطة الزوارق، وهو يقع تحت سيطرة تنظيم داعش بينما بقية المنافذ تم تفخيخها بالمتفجرات ووضعت هناك نقاط سيطرة على أي منفذ محتمل».
وروى فرحان قصة هروبه مع عائلته من الفلوجة، قائلاً: «قمنا بدفع مبلغ 1500 دولار للحصول على وثيقة مزورة تؤكد أننا زوار للفلوجة، ولسنا من أهلها، وهذا المبلغ يدفع لأحد مقاتلي (داعش)، والوثيقة كفلت خروجنا بواسطة المنفذ النهري مع أن هناك مخاطر قد نتعرض لها كون من يسيطر على المنفذ يتحقق بواسطة الكومبيوتر من صحة الوثائق حيث سيطر التنظيم الإرهابي على وثائق دائرة تسجيل النفوس في القضاء لدى دخولهم للفلوجة».
وأضاف فرحان قائلا: «هناك 7 نقاط تفتيش تابعة لتنظيم داعش ويدققون بهويات المارة ويراقبون تحركاتهم حتى إن الفلوجة التي هي من المدن المزدحمة تحولت اليوم إلى مدينة أشباح، وشوارعها خالية»، مشيرًا إلى أن «من حاول التسلل من بعض المنافذ تم إلقاء القبض عليه، واختفى تمامًا فمن يغيب لأكثر من أسبوعين نتأكد أنه تعرض للإعدام»، واصفًا أوضاع الأهالي بالداخل بأنها «كارثية والجميع معرضون للإبادة الجماعية بسبب فقدان الطعام والأدوية»، وأضاف: «شاهدتُ امرأة في السبعين من عمرها تتوسل أحد الدواعش للسماح لها بالخروج مع ابنتها التي تحتضر من أجل إنقاذها، لكن مقاتل (داعش) ركلها بقدمه»، واصفًا إياها بـ«الكاذبة»، أما موضوع الجوع فهناك قصص قاسية عن موت الأطفال بأحضان أمهاتهم لعدم توفر الحليب والطعام، وكم قابلت شيخًا أو امرأة تتوسل للحصول على لقمة خبز تنقذهم من الموت.
وقال إن «أهالي الفلوجة يتحدثون اليوم بحزن عن قصص موت الأطفال، إما بسبب القصف الجوي أو الجوع، فهناك مجزرة زوبع جنوب الفلوجة، التي أودت بحياة أربعة أطفال من عائلة واحدة بسبب القصف الجوي، وهي عائلة عبد القادر حامد حسين علي العبيد الزوبعي، وهم: عبد القادر وعلي وسارة وتسليم حامد، بالإضافة إلى موت الطفلة رحمة صدام حسين علي الجميلي، وهي أحد ضحايا الحصار على مدينة الفلوجة، وبسبب نقص مادة الحليب والدواء، فهناك أطفال يموتون بالعشرات هم ضحايا إما للقصف الممنهج أو الحصار من الموت».
وعلى ما يبدو فإن الخارج من حصار الموت جوعًا من الفلوجة ليس بأفضل حالاً، بل سيكون مصيره اللجوء إلى الخيام وهياكل الأبنية المهجورة القريبة من المدينة، وهذا ما تعرضت له صبيحة فتحي جابر (67 سنة) مع أبنائها وزوجاتهم وأحفادها حيث يبلغ عدد أفراد العائلة 28 شخصًا يقيمون في هيكل بناء مهجور بمنطقة الحبانية السياحية.
صبيحة قالت: «تمكنت مع أولادي وزوجاتهم وأبنائهم وابنتي من التسلل من الفلوجة قبيل تشديد (داعش) للحصار، ولجأنا إلى غرفة في هيكل بناء فارغ لا تزيد مساحته عن ستة أمتار ليؤوينا من البرد وحرارة الصيف على أمل أن تهتم الحكومة بنا، لكن للأسف لم نلقَ أي مساعدة من الحكومة أو من شيوخ العشائر أو من السياسيين الذين تاجروا وما زالوا يتاجرون بنا وبقضيتنا».
وأضافت: «أعاني من أمراض كثيرة وأبنائي لا عمل لهم ونحن بحاجة للطعام والرعاية الصحية، وقد طرقنا أبواب الحكومة والمنظمات الإنسانية والأحزاب لكن لم يهتم بنا أحد، وكان مصيرنا هو ذاته لو بقينا في الفلوجة أسوة بالآخرين الذين يموتون جوعًا».
وحال نسرين حاتم (أم لثلاثة أطفال) لا يقل مأساوية عن خالتها صبيحة التي هربت «تحت القصف الجوي»، حسبما قالت لـ«الشرق الأوسط»، مشيرة إلى أن «قصف القوات الجوية العراقية للمدينة بالبراميل المتفجرة أدى إلى مقتل عوائل بكاملها في الحي الذي كانت تقيم فيه بالفلوجة إضافة إلى النقص في الغذاء والدواء، لهذا قررت الهروب عن طريق عبور النهر مخاطرة بحياتها ومن معها».
وعبرت نسرين عن خيبة أملها بعد تحررهم من «داعش»، حيث وقعوا أسرى التهجير وعدم دعم الحكومة لهم، إذ لم تقدم لهم أي مساعدات مادية أو علاج أو طعام.
من جهته، وصف طارق الهاشمي ما يحدث بمدينة الفلوجة بأنه «إبادة جماعية بسبب الحصار المفروض عليها، وحرمانها قصدًا من الخروج من المدينة المحاصرة إلى ملاذات آمنة، بينما ما زالت تتعرض ومنذ أشهر إلى قصف متواصل طال كل شيء حتى الأماكن المحرم قصفها في زمن الحروب ونقصد المستشفيات والمساجد والمدارس ودور السكن وكل شيء يتعلق بحياة المدنيين».
وقال الهاشمي في رسالة بعث بها إلى «الشرق الأوسط» أمس «إن محنة السكان باتت مضاعفة بعد أن باتوا بين مطرقة القصف الحكومي والتحالف الدولي من جهة وسندان تنظيم داعش من جهة أخرى، الذي يرهب المدنيين ويمنعهم من الخروج ويستخدمهم دروعًا بشرية، ومهما قيل عن أغراض القصف البري والجوي بأنه يستهدف حصرا كل ما له علاقة بتنظيم داعش، فإن الحقائق على الأرض تؤكد خلاف ذلك، حيث لم يتوقف استهداف المدنيين حتى اللحظة».
وأضاف: «أما التطور المأساوي الجديد الذي فاقم الأوضاع، إضافة للقصف اليومي لهذه المدينة الصابرة، فقد حصل بفعل الحصار المضروب عليها منذ أشهر وحرمان العوائل المحاصرة من الغذاء والدواء حيث باتت بسبب ذلك على شفا الموت مرضًا، أو جوعًا، وعطشًا».
وأضاف الهاشمي قائلاً: «إن المدنيين المحاصرين في الفلوجة يتعرضون لجريمة القتل العمد، سواء بالقصف أو بالجوع أو بالمرض، وقد مات كثير من الأطفال والنساء بسبب ذلك، وهذا من شأنه أن يعقد مهمة التحالف الدولي في القضاء على تنظيم داعش، إذ إنه سيدفع المزيد من اليائسين والغاضبين للتطرف، بل وحتى الانضمام للتنظيمات الإرهابية، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك ذلك ويعيد النظر بحساباته ولا يتأخر بالضغط على الحكومة العراقية لإيقاف القصف العشوائي فورا، وإغاثة العوائل المحاصرة جوا، وتوفير ممرات آمنة لخروجها بأسرع وقت ممكن».



الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
TT

الغزّيون ملّوا الحروب ويحلمون بحياة تشبه الحياة

سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)
سيدة فلسطينية تبحث عن ابنها المفقود عبر صورته على هاتفها في مخيم جباليا (رويترز)

بخلاف الناس في البلدان الأخرى وحتى تلك التي تشهد حروباً، لا يملك أهالي قطاع غزة بعد عام على الحرب الإسرائيلية المجنونة عليهم، ترف الحزن على أحبائهم وبيوتهم وذكرياتهم. لقد فقدوا البلد، كل البلد بكل ما فيها: البيوت، والحارات، والشوارع، والناس، والمساجد، والكنائس، والمحال، والمستشفيات، والمدارس والجامعات... كل شيء أصبح كأنه مجرد ذكرى من حياة سابقة، وهم نفدت طاقتهم على الحزن.

لا يعرف الغزيون اليوم ماذا ينتظرهم، لكن بخبرة العارفين بالحروب، يدركون جيداً أن بؤس الحرب لا ينتهي مع وقف إطلاق النار. إنه بؤس ممتد، تغلّفه أسئلة كثيرة: مَن يعيد الأحبَّة والبلاد؟ مَن يبني البيوت؟ كم سنعيش في الخيام؟ من أين وإلى متى وكيف سنؤمّن قوت من بقي حيّاً من أبنائنا؟ والحال أن كثيرين لا تشغلهم هذه الأسئلة لأنهم مرهقون بأسئلة أصعب، أين يجدون جثامين أحبائهم؟ ومتى قد يلتقون أحباء مفقودين؟ وكم سيصمدون على قيد الحياة أصلاً؟

إنها أسئلة الحرب المدمّرة التي تدخل عامها الثاني، وهي حرب غيَّرت إلى حد كبير تفكير الغزيين حول كل شيء.

«الشرق الأوسط» جالت على مَن بقي ورصدت ماذا غيَّرت الحرب في فكر سكان القطاع وعقولهم وقلوبهم.

ليس الكثير فيما يتعلق بحب البلد والعداء لإسرائيل، لكن الكثير والكثير فيما يتعلق بمستقبلهم، ومَن يحكمهم، وإذا كانت الهجرة أفضل أم البقاء.

أطفال فلسطينيون هاربون من قصف إسرائيلي استهدف مكان نزوحهم في رفح (أ.ف.ب)

حلم الهجرة والأمان

يلخص تفكير أيسر عقيلان، وهو خريج كلية التجارة من الجامعة الإسلامية في غزة، ونازح من مخيم الشاطئ غرب المدينة إلى خان يونس جنوب القطاع، ما يجول في عقل كثيرين من الشبان مثله.

قال عقيلان (27 عاماً) لـ«الشرق الأوسط» إنه يخطط لمغادرة القطاع في أي لحظة. وحاول عقيلان كثيراً الحصول على مبلغ 6 آلاف دولار، لتأمين سبيل سفر عبر معبر رفح، إلى مصر ثم البحث عن حياة جديدة، لكنه لم ينجح.

وقال الشاب: «في أول فرصة سأغادر. لم أكن قادراً على العمل قبل الحرب، والآن لا أعتقد أن ذلك سيكون ممكناً أبداً. لا توجد أعمال. لا يوجد بلد أصلاً. لقد دمَّروا كل شيء». وحسب الإحصائيات التي تصدر عن جهات حكومية وأهلية مختصة، فإنه حتى قبل الحرب، كان أكثر من 64 في المائة من سكان قطاع غزة يعانون البطالة وانعدام فرص العمل، واليوم يعتقد أن هذه النسبة باتت شبه كاملة. ورغم صعوبة الحياة قبل الحرب لم يفكر عقيلان في الهجرة، لكن «وجهة نظره في الحياة» تغيرت في أثناء الحرب، كما قال.

ومن يتحدث لأهالي غزة لا يفوته أن غالبية الجيل الشاب ترغب في الهجرة، والبحث عن مستقبل جديد، غير آبهين بما سيصبح عليه الحال في القطاع. وقال باسل سالم (31 عاماً)، الذي حالفه الحظ بالخروج من غزة مع زوجته وطفلته الوحيدة: «لم يبقَ أمامي أي خيارات أخرى. كل ما فكرت فيه هو إنقاذ زوجتي وابنتي من جحيم الحرب».

كان سالم قد فقد شقته السكنية التي امتلكها قبل الحرب بقليل وهو سبب آخر دفعه للهجرة، موضحاً لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد هناك بيت يؤويني، تشردنا وتعبنا ومرضنا وشعرت أني وسط كابوس لعين». ونجح الآلاف من الغزيين خصوصاً الغزيين، ممن يحملون جنسيات مزدوجة، في السفر قبيل سيطرة إسرائيل على معبر رفح، ووصلوا إلى بلدان مختلفة، في حين استقر آخرون لا يملكون جنسيات أخرى، داخل مصر، وبعضهم في تركيا. ويعمل سالم في مجال التصميم والغرافيك؛ الأمر الذي سهَّل سفره إلى الخارج من أجل الحصول على فرصة عمل تتيح له الاستمرار بحياة أفضل. ولا يجد سالم كلمات تصف «الأمان» الذي يشعر به مع عائلته: «هذا أهم ما في الحياة».

وفي وقت تغيب الإحصاءات الدقيقة لمن هاجروا إبان الحرب وخلالها، يذهب بعض التقديرات الأهلية إلى أن العدد الإجمالي يزيد على 220 ألفاً.

ومثل سالم لا تخطط إيمان ساقلا (59 عاماً) التي كانت في رحلة علاج خارجية مع بدء الحرب على غزة، للعودة، بل نجحت في التنسيق لإنقاذ أفراد أسرتها وإحضارهم إليها في مصر لكونها تحمل الجنسية المصرية، لكن أيضاً بعد دفع مبالغ طائلة. وقالت ساقلا: «لم يعد لنا في غزة مستقبل. ربما نعود إليها بعد أعوام، لكن الآن لا يوجد سوى الموت والدمار والخراب».

وبينما يرى سالم وساقلا أنهما قد نجوا بنفسيهما وأسرتيهما من جحيم الحرب، يعيش مئات الآلاف من الغزيين، خصوصاً الشبان، في ظروف صعبة ويمنّون النفس بالمغادرة. لكن ليست هذه حال كل الغزيين بالطبع.

سمير النجار (52 عاماً) من سكان بلدة خزاعة، شرقي شرق خان يونس، والذي فقد منزله بعد تجريفه من آليات إسرائيلية، وبات مشرداً ونازحاً في خيمة أقامها غرب المدينة، قال إنه يفضل البقاء في القطاع، وينتظر انتهاء الحرب كي يستصلح أرضاً كان يزرعها.

رجل فلسطيني يسقي نباتاته في جباليا (رويترز)

وقال النجار: «أفهم الذين ينوون الرحيل من هنا. لكن أنا أفضّل الموت هنا. لا أعتقد أن لديّ فرصة لتأسيس حياة جديدة خارج القطاع. كل ما أريده من الحياة هو إعادة بناء واستصلاح أرضي... ولا شيء أكثر».

والنجار واحد من مئات الآلاف الذين فقدوا منازلهم في غزة. ووفقاً لتقديرات أممية حتى شهر أغسطس (آب) الماضي، فإن نحو ثلثي المباني في قطاع غزة تضررت أو دُمرت منذ بدء الحرب، وأن القطاع يحتاج إلى أكثر من 15 عاماً حتى يتم إعادة إعماره. ويتطلع النجار لإعادة الإعمار، ويعتقد أن أي جهة قادرة على إعادة الإعمار هي التي يجب أن تحكم غزة.

وأضاف: «بعد كل هذه الحروب. نريد أن نعيش. بصراحة لم أعد أكترث بالحرب ولا السياسة ولا من يحكمني. أنا أريد العيش فقط. العيش بعيداً عن الحروب والقتل والدمار».

وتتفق نجوى الدماغ (47 عاماً) مع النجار ولا تفكر بمغادرة القطاع، لكنها تمنّي النفس بحياة أفضل.

وقالت الدماغ لـ«الشرق الأوسط» إنها تفضّل البقاء في غزة، لكنها تريد السلام والأمن. وأضافت: «تعبنا من الحروب. أعتقد ما ظل فينا نَفَس. صار وقت نعيش بسلام».

ولا تهتم الدماغ بمن يحكمها، «المهم أن نعيش مثل بقية البشر». وهذا شعور انتقل تلقائياً لابنتها إيمان (22 عاماً) التي خرجت من هذه الحرب وهي لا تثق بأي فصيل فلسطيني سياسي.

وقالت إيمان: «كلهم (الفصائل) يبحثون عن مصالحهم الشخصية ولديهم أجندات. لا أحد يفكر أو يهتم للناس». وبخلاف والدتها، تسعى إيمان للهجرة وبناء حياة جديدة في الخارج «بعيداً من تجار الحروب والدم»، كما قالت.

دمار بمقرّ المجلس التشريعي الفلسطيني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

وبينما يعيش مئات آلاف من الغزيين في مخيمات نزوح موزعة في كل قطاع غزة، تعيش الأغلبية الباقية في منازل شبه مدمَّرة أو نازحين عند أقاربهم، ويعانون مجاعة حقيقية وغلاء أسعار فاحشاً، والكثير من الفوضى التي عمقت شكل المأساة في القطاع. وقال كثير من الغزيين الذي سألتهم «الشرق الأوسط» عن مستقبلهم إنهم لا يفضلون الفصائل ويتطلعون إلى «حكومة مسؤولة»، وفق تعبيرهم.

وشرح الكاتب والمحلل السياسي مصطفى إبراهيم، ذلك بالقول إن الغزيين لم يعودوا يهتمون بما تتبناه الفصائل وحتى السلطة الفلسطينية من شعارات «ليس لها من الواقع نصيب». وأضاف: «هم يفضّلون جهة تحكمهم قادرة على وقف نزيف الدم وأن تعيد بناء منازلهم وتوفر لهم فرص عمل يستعيدون بها حياتهم». ورأى إبراهيم أن «الأفق السياسي لليوم التالي للحرب ما زال غامضاً ولا يمكن التنبؤ به؛ مما شكّل حالة من اليأس لدى السكان ودفعهم لعدم الاهتمام بمن يحكمهم بقدر اهتمامهم بمصيرهم ومستقبل حياتهم في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب».

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

ويرى إبراهيم أن السكان في غزة ملّوا من الصراع مع إسرائيل والحرب التي تتكرر كل بضعة أعوام، واليوم أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يفكرون بالهجرة في حال أُتيحت لهم فرصة حقيقية. وأضاف: «الكلام الذي لا يقوله أهل غزة على الملأ هو: لماذا نحن؟ القضية الفلسطينية والقدس والأقصى ليست قضيتنا وحدنا... فلماذا وحدنا نموت؟».