أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

الهاشمي نائب رئيس الجمهورية الأسبق لـ «الشرق الأوسط»: ما يحدث في المدينة إبادة جماعية بقصف المدنيين بالبراميل المتفجرة

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)
TT

أهالي الفلوجة يحتضرون أمام أعين الحكومة العراقية وتخاذل المنظمات الدولية

طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية  («الشرق الأوسط»)
طفلتان في الفلوجة تجمعان الحطب لإشعال موقد في ظل غياب أي تحرك دولي للكارثة الإنسانية («الشرق الأوسط»)

سكان الفلوجة ما بين محتضر ومنتحر بعد أن ضاقت الدنيا عليهم من حصار دام سنتين ما بين المنظمات الإرهابية، مثل «داعش» والقوات العراقية، ليجد السكان أنفسهم ما بين فكي كماشة لا ترحم ولا تذر.
كان أهالي مدينة الفلوجة يضرب بهم المثل لكرمهم وإيوائهم النازحين من المحافظات التي كانت تتعرض للقصف المدفعي خلال سنوات الحرب العراقية الإيرانية، كون سكانها من أبناء العشائر العربية فإنهم لم يردوا أي طالب للمساعدة يومًا، إلا أنهم منذ عامين لتضيق بهم الحياة ليجدوا أنفسهم محرومين من الغذاء والدواء ولم يجدوا أمامهم سوى الأعشاب البرية، والأدهى من ذلك وضع البعض منهم حدًا للحياة بالانتحار.
ويصف الحاكم الإداري لقضاء الفلوجة المحاصرة ما يحدث لأهالي المدينة بـ«الكارثة» ووصمة عار في جبين الحكومة العراقية، في حين قال السياسي طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية الأسبق إن «جميع المؤشرات التي جمعت بناء على تقارير وبيانات رصينة صدرت عن جهات موثوقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن العوائل المحاصرة في الفلوجة تتعرض لإبادة جماعية».
وقال سعدون عبيد الشعلان، قائمقام قضاء الفلوجة لـ«الشرق الأوسط» إن «الفلوجة محاصرة بسورين، خارجي يتمثل بقوات الجيش العراقي، وسور داخلي مفروض من قبل مقاتلي تنظيم داعش»، مشيرًا إلى أن «الدواعش لا يسمحون بخروج أي مواطن من أهالي المدينة لاستخدامهم دروعًا بشرية، كما لا يسمحون بدخول الغذاء والدواء عقوبة للأهالي الذين لم ينظموا للتنظيم الإرهابي».
وبين الشعلان أن «القوات الأمنية المتمثلة بالفرقة الذهبية التابعة للجيش العراقي والشرطة الاتحادية فتحوا منافذ لتمكن الناس من الهروب، ومن يخرج يرفع راية بيضاء، ثم يتم التأكد من هويته للتحقق من أنه ليس من تنظيم داعش، لكن (داعش) يراقب هذه المنافذ بدقة وتحاصرها».
وأشار الحاكم المدني لمدينة الفلوجة إلى أن «عدد المحاصرين من أهالي المدينة يزيد عن 100 ألف شخص غالبيتهم من الأطفال والنساء والشيوخ من أصل 620 ألفًا هم عدد سكان قضاء الفلوجة وضواحيها، وأن الحصار مركز من قبل تنظيم داعش على مركز المدينة»، مؤكدا أن الآلاف من المحاصرين يعانون من الجوع والأمراض ويقتاتون على التمور اليابسة غير الصالحة للطعام وعلى الأعشاب البرية، وخصوصًا (الخباز) الذي انتهى موسمه، ويتعرض للجفاف، بينما يسيطر مقاتلو (داعش) وعوائلهم على مخازن الأغذية والدواء».
وذكر الشعلان بعض القصص المآساوية لما يعانيه الأهالي ليس بسبب الجوع فحسب بل بسبب القصف الجوي للمدينة، وقال إن «العشرات من الأطفال قضوا بسبب القصف الجوي والمدفعي العشوائي من قبل القوات العراقية»، مضيفًا بقوله: «بسبب الجوع قام رب أسرة تتكون من 8 أشخاص بوضع السم لهم في الماء، لعدم وجود الغذاء لكن الأطباء في مستشفى الفلوجة العام قاموا بإسعافهم وإنقاذهم، بينما لم يستطيعوا إنقاذ الأم التي ألقت بنفسها مع ثلاثة من أطفالها في النهر بسبب الجوع، بل أنقذوا أحد الأطفال فقط لتموت الأم مع اثنين من أطفالها».
وأضاف قائمقام قضاء الفلوجة: «لقد طلبنا من الحكومة العراقية إنقاذ الأهالي في الفلوجة عن طريق قوات التحالف الدولي لإلقاء الأغذية والأدوية في المدينة عن طريق الجو، لكن الحكومة رفضت بحجة أن تنظيم داعش سيسيطر على تلك الأغذية والأدوية»، منتظرين أن ثور أهالي مدينة الفلوجة على «داعش» للحصول على ما ترميه الطائرات من مؤن.
وأكد الشعلان عدم تمكن أي جهة من إيصال المساعدات الغذائية برًا للمدنيين، مطالبًا بتدخل الأمم المتحدة بشكل فوري لإنقاذ الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء، الذين يموتون جوعًا بسبب النقص الحاد في حليب الأطفال والغذاء والأدوية.
وأوضح الشعلان أن مقاتلي «داعش» الذين يتمركزون في الفلوجة من الأجانب مع عوائلهم، وأن هناك بعض الإيزيديات اللاتي تم اختطافهن من قبل المتطرفين الأجانب، مشيرًا إلى أن «كل من يعترض على ممارسات تنظيم داعش يتعرض للإعدام عن طريق رميه من سطح بناية عالية، وهو ما حدث أخيرا بإعدام ستة أشخاص بهذه الطريقة».
قصص الموت جوعًا ومحاولات الهروب الصعبة تروى ممن تمكن من الأهالي من الهروب من هذا الحصار القاسي للغاية، إذ التقت «الشرق الأوسط» أحد أهالي الفلوجة الذين هربوا من هذا الجحيم، ويقال له محمد فاهم فرحان (42 عامًا)، تمكن من الفرار من الحصار أخيرًا، قال إن عملية الخروج من مدينة الفلوجة تبدو شبه مستحيلة بسبب محاصرة مقاتلي «داعش» للأهالي، مشيرًا إلى أنه «لم يعد هناك سوى منفذ واحد وهو عبور النهر بواسطة الزوارق، وهو يقع تحت سيطرة تنظيم داعش بينما بقية المنافذ تم تفخيخها بالمتفجرات ووضعت هناك نقاط سيطرة على أي منفذ محتمل».
وروى فرحان قصة هروبه مع عائلته من الفلوجة، قائلاً: «قمنا بدفع مبلغ 1500 دولار للحصول على وثيقة مزورة تؤكد أننا زوار للفلوجة، ولسنا من أهلها، وهذا المبلغ يدفع لأحد مقاتلي (داعش)، والوثيقة كفلت خروجنا بواسطة المنفذ النهري مع أن هناك مخاطر قد نتعرض لها كون من يسيطر على المنفذ يتحقق بواسطة الكومبيوتر من صحة الوثائق حيث سيطر التنظيم الإرهابي على وثائق دائرة تسجيل النفوس في القضاء لدى دخولهم للفلوجة».
وأضاف فرحان قائلا: «هناك 7 نقاط تفتيش تابعة لتنظيم داعش ويدققون بهويات المارة ويراقبون تحركاتهم حتى إن الفلوجة التي هي من المدن المزدحمة تحولت اليوم إلى مدينة أشباح، وشوارعها خالية»، مشيرًا إلى أن «من حاول التسلل من بعض المنافذ تم إلقاء القبض عليه، واختفى تمامًا فمن يغيب لأكثر من أسبوعين نتأكد أنه تعرض للإعدام»، واصفًا أوضاع الأهالي بالداخل بأنها «كارثية والجميع معرضون للإبادة الجماعية بسبب فقدان الطعام والأدوية»، وأضاف: «شاهدتُ امرأة في السبعين من عمرها تتوسل أحد الدواعش للسماح لها بالخروج مع ابنتها التي تحتضر من أجل إنقاذها، لكن مقاتل (داعش) ركلها بقدمه»، واصفًا إياها بـ«الكاذبة»، أما موضوع الجوع فهناك قصص قاسية عن موت الأطفال بأحضان أمهاتهم لعدم توفر الحليب والطعام، وكم قابلت شيخًا أو امرأة تتوسل للحصول على لقمة خبز تنقذهم من الموت.
وقال إن «أهالي الفلوجة يتحدثون اليوم بحزن عن قصص موت الأطفال، إما بسبب القصف الجوي أو الجوع، فهناك مجزرة زوبع جنوب الفلوجة، التي أودت بحياة أربعة أطفال من عائلة واحدة بسبب القصف الجوي، وهي عائلة عبد القادر حامد حسين علي العبيد الزوبعي، وهم: عبد القادر وعلي وسارة وتسليم حامد، بالإضافة إلى موت الطفلة رحمة صدام حسين علي الجميلي، وهي أحد ضحايا الحصار على مدينة الفلوجة، وبسبب نقص مادة الحليب والدواء، فهناك أطفال يموتون بالعشرات هم ضحايا إما للقصف الممنهج أو الحصار من الموت».
وعلى ما يبدو فإن الخارج من حصار الموت جوعًا من الفلوجة ليس بأفضل حالاً، بل سيكون مصيره اللجوء إلى الخيام وهياكل الأبنية المهجورة القريبة من المدينة، وهذا ما تعرضت له صبيحة فتحي جابر (67 سنة) مع أبنائها وزوجاتهم وأحفادها حيث يبلغ عدد أفراد العائلة 28 شخصًا يقيمون في هيكل بناء مهجور بمنطقة الحبانية السياحية.
صبيحة قالت: «تمكنت مع أولادي وزوجاتهم وأبنائهم وابنتي من التسلل من الفلوجة قبيل تشديد (داعش) للحصار، ولجأنا إلى غرفة في هيكل بناء فارغ لا تزيد مساحته عن ستة أمتار ليؤوينا من البرد وحرارة الصيف على أمل أن تهتم الحكومة بنا، لكن للأسف لم نلقَ أي مساعدة من الحكومة أو من شيوخ العشائر أو من السياسيين الذين تاجروا وما زالوا يتاجرون بنا وبقضيتنا».
وأضافت: «أعاني من أمراض كثيرة وأبنائي لا عمل لهم ونحن بحاجة للطعام والرعاية الصحية، وقد طرقنا أبواب الحكومة والمنظمات الإنسانية والأحزاب لكن لم يهتم بنا أحد، وكان مصيرنا هو ذاته لو بقينا في الفلوجة أسوة بالآخرين الذين يموتون جوعًا».
وحال نسرين حاتم (أم لثلاثة أطفال) لا يقل مأساوية عن خالتها صبيحة التي هربت «تحت القصف الجوي»، حسبما قالت لـ«الشرق الأوسط»، مشيرة إلى أن «قصف القوات الجوية العراقية للمدينة بالبراميل المتفجرة أدى إلى مقتل عوائل بكاملها في الحي الذي كانت تقيم فيه بالفلوجة إضافة إلى النقص في الغذاء والدواء، لهذا قررت الهروب عن طريق عبور النهر مخاطرة بحياتها ومن معها».
وعبرت نسرين عن خيبة أملها بعد تحررهم من «داعش»، حيث وقعوا أسرى التهجير وعدم دعم الحكومة لهم، إذ لم تقدم لهم أي مساعدات مادية أو علاج أو طعام.
من جهته، وصف طارق الهاشمي ما يحدث بمدينة الفلوجة بأنه «إبادة جماعية بسبب الحصار المفروض عليها، وحرمانها قصدًا من الخروج من المدينة المحاصرة إلى ملاذات آمنة، بينما ما زالت تتعرض ومنذ أشهر إلى قصف متواصل طال كل شيء حتى الأماكن المحرم قصفها في زمن الحروب ونقصد المستشفيات والمساجد والمدارس ودور السكن وكل شيء يتعلق بحياة المدنيين».
وقال الهاشمي في رسالة بعث بها إلى «الشرق الأوسط» أمس «إن محنة السكان باتت مضاعفة بعد أن باتوا بين مطرقة القصف الحكومي والتحالف الدولي من جهة وسندان تنظيم داعش من جهة أخرى، الذي يرهب المدنيين ويمنعهم من الخروج ويستخدمهم دروعًا بشرية، ومهما قيل عن أغراض القصف البري والجوي بأنه يستهدف حصرا كل ما له علاقة بتنظيم داعش، فإن الحقائق على الأرض تؤكد خلاف ذلك، حيث لم يتوقف استهداف المدنيين حتى اللحظة».
وأضاف: «أما التطور المأساوي الجديد الذي فاقم الأوضاع، إضافة للقصف اليومي لهذه المدينة الصابرة، فقد حصل بفعل الحصار المضروب عليها منذ أشهر وحرمان العوائل المحاصرة من الغذاء والدواء حيث باتت بسبب ذلك على شفا الموت مرضًا، أو جوعًا، وعطشًا».
وأضاف الهاشمي قائلاً: «إن المدنيين المحاصرين في الفلوجة يتعرضون لجريمة القتل العمد، سواء بالقصف أو بالجوع أو بالمرض، وقد مات كثير من الأطفال والنساء بسبب ذلك، وهذا من شأنه أن يعقد مهمة التحالف الدولي في القضاء على تنظيم داعش، إذ إنه سيدفع المزيد من اليائسين والغاضبين للتطرف، بل وحتى الانضمام للتنظيمات الإرهابية، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك ذلك ويعيد النظر بحساباته ولا يتأخر بالضغط على الحكومة العراقية لإيقاف القصف العشوائي فورا، وإغاثة العوائل المحاصرة جوا، وتوفير ممرات آمنة لخروجها بأسرع وقت ممكن».



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.