السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

تسبقه خطة سريعة لترويض المسلحين

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر
TT

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

السرَّاج.. رجل طرابلس المُنتَظر

في صمت.. وبهدوء.. وبعيدا عن الأضواء، أعطى فايز السراج، رئيس المجلس الرئاسي الليبي وحكومته التوافقية، الضوء الأخضر للجنة أمنية عليا في طرابلس، من أجل العمل على حل مشكلة الميليشيات المسلحة التي يرفض بعضها السماح له بمباشرة أعماله وأعمال حكومته من العاصمة. إن الرجل يهيئ الأرض بعيدا عن الأضواء. هذا ملمح مهم في شخصيته.
في حديثه لمجموعة مقربة منه، لا يفضل السراج إطلاق استخدام اسم الميليشيات أو الكتائب، كما هو معتاد في بعض وسائل الإعلام. هو يحبذ وصفها باسم «المجموعات المسلحة»، حتى لا يغضب أحدا. لكي تحل المشاكل الكثيرة عليك أن تضع اعتبارات و«تكتيكات». بعد ساعات من إعلان نيته التوجه للعمل من داخل العاصمة، استقبل السراج في مقر إقامته في تونس، مندوبين من عدة جهات ليبية لبحث ترتيبات الوضع في البلاد التي تعاني من الفوضى والاقتتال منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011.

دخل السراج من تونس في حوار عبر وسائل التواصل الإنترنتي، مع مؤيدين للحكومة في طرابلس، من بينهم مجموعة «من أجلك ليبيا»، التي اشتركت في جولات المفاوضات منذ بدايتها.. مفاوضات جرت وتعثرت ونهضت لمدة نحو 18 شهرا برعاية الأمم المتحدة. مها سليم، وهي من أعضاء مجموعة «من أجلك ليبيا» التي يقع مقرها في شارع بن عاشور في العاصمة، تقول لـ«الشرق الأوسط»: «نحن مجموعة منظمات مجتمع مدني نرى الوضع الصعب الذي يمر به الشعب الليبي. نؤيد حكومة التوافق. ونأمل أن نطوي صفحة الماضي، ونبدأ من جديد، من أجل بناء مستقبل أفضل للجميع».
السيدة مها سليم تمثل، في هذه المجموعة، منظمتها التي يقع مقرها في شارع ميزران بالمدينة، وهي منظمة معنية بحقوق الإنسان اسمها «المواثيق». وعلى كل حال، كما يرى كثيرون هنا، سيكون على السراج تخطي الكثير من العقبات والعراقيل، على رأسها مشكلة عدم عقد جلسة برلمانية لمنح الثقة لحكومته.. منح الثقة خطوة معتادة وأساسية في كثير من نظم الحكم. كما أن منح الثقة أمر منصوص عليه في النصوص الدستورية التي تعمل بها سلطة مجلس النواب المنتخب من الشعب في صيف عام 2014. يعلم السراج أيضا أن هناك مشاكل أخرى يتطلب إيجاد حلول لها مسألة وقت. منها رفض بعض المسلحين في العاصمة السماح لفريقه بالعمل انطلاقا من طرابلس.
يحظى السراج بتعاطف من قطاعات في الشارع الليبي خاصة مع اشتداد الأزمة الاقتصادية. ومن لجان شبابية وحقوقية أخرى تؤيد الحكومة، يقول حسين المحمودي أحد النشطاء الحقوقيين ممن وقفوا مع الحوار: أعتقد أن فكرة «التوافق» هي التي تتغلب على السيد السراج.. سيكون هذا منهاج عمله وهذا ما نأمله. السراج لديه القدرة، ونحن نثق في ذلك. يسود الاعتقاد في أن السراج، بفريقه الرئاسي والحكومي، يمكنه جمع الفرقاء الليبيين في طرابلس وفي طبرق وبنغازي، حول تفاهمات بشأن تقسيم الأدوار لخدمة الدولة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى تخص شخصيات عسكرية وأمراء حرب.
ووفقا لمصادر في العاصمة، فإن المفاوضات الجارية تشمل أطرافا مختلفة من الشرق والغرب، وهذا يمكن أن يؤدي إلى تفاهم سريع حول مستقبل المؤسسة العسكرية في الشرق والمسلحين في الغرب. وبالتالي فتح باب الأمل للحكومة الجديدة. الاتصالات الجارية حول تأمين الحكومة تشمل أيضا مشاورات مع أطراف إقليمية ودولية، من أصدقاء ليبيا.. يمكن أن يسفر ذلك عن استقبال السراج وفريقه الرئاسي والحكومي في منطقة محمية، أو ما يطلق عليه البعض «المنطقة الخضراء». هذا اقتراح موجود بالفعل ويمكن أن يكون موقع «المنطقة الخضراء» قرية سياحية محصنة في ضاحية جنزور بالعاصمة.
ولد السراج عام 1960 في طرابلس. وينتمي لعائلة عريقة ومحافظة أثَّرت على نشأته الهادئة ومسيرته السلسة، إضافة إلى طبيعته الصبورة والمثابرة.. تقول السيدة سليم إنها تدعم الحكومة بشكل متكامل، وليس لشخص السراج وحده.. تضيف أنها حضرت لقاءات معه منذ بداية جولات الحوار في عدة بلدان كان من بينها الصخيرات المغربية. خلافا للاعتقاد الذي يردده البعض بأنه كان منعزلا عن أعضاء البرلمان، حيث إنه عضو فيه، تقول السيدة سليم: يمكنني القول إن السراج «رجل متزن ويفتح الفرصة للتفاهم مع الجميع وبين الجميع. كما أنه ليس منغلقا على نفسه».
رئيس حكومة التوافق ليس غريبا عن عالم السياسة والحكم، كما يقول الناشط المحمودي. فوالد السراج عاش في شبابه الزخم القومي الذي كانت تمر به المنطقة، خاصة بعد صعود جمال عبد الناصر على رأس السلطة في مصر، وانشغال الليبيين بتأسيس دولة الاستقلال ووضع الدستور الجديد للبلاد في بداية الخمسينات. ينظر كثير من السياسيين والنشطاء الليبيين للسراج على اعتبار أنه تأثر بوالده الذي يعد من المؤسسين لدولة ما بعد الاحتلال الأجنبي. فقد شغل والده في ذلك الوقت عضوية مجلس النواب الليبي ومواقع وزارية خلال العهد الملكي.
جرى اقتراح اسم السراج للمنصب الجديد، بعد نحو 18 شهرا من المفاوضات المكوكية لحل الأزمة برعاية الأمم المتحدة. لم تكن محاولة سهلة، في بلد غير متمرس على الاختلاف السياسي ويعج بالسلاح والمسلحين. السراج نسيب عائلة تاريخية معتبرة من بلدة مصراتة التي لها كلمة على قسم من ميليشيات طرابلس، ولهذا، كما يفيد مصدر مقرب من المجلس الرئاسي: «نجت اللجنة الأمنية في إيجاد أرضية مبشرة للتفاهم في طرابلس».
عمليا، يواجه السراج تمسك الحكومتين اللتين تعملان في البلاد، بموقعيهما، حيث إنهما ترفضان التخلي عن العمل وتقفان ضده. الحكومة الأولى هي المنبثقة عن البرلمان الذي يعقد جلساته في طبرق، وهي برئاسة عبد الله الثني، ويطلق عليها اسم «الحكومة المؤقتة». والثانية منبثقة عن المؤتمر الوطني المنهية ولايته (البرلمان السابق)، وهي برئاسة خليفة الغويل، ويطلق عليها «حكومة الإنقاذ». يأتي هذا بينما توجد في يد السراج ورقة ضغط مهمة مستمدة أساسا من أوروبا والأمم المتحدة، وهذه الورقة تتلخص في تلويح المجتمع الدولي بفرض عقوبات رادعة ضد معرقلي عمل حكومة التوافق.
طوال الخطوات الصعبة التي قطعها الحوار في ليبيا، وحتى نهايته، وقفت دول منها تركيا وقطر والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا ومصر وغيرها، مع هذه الجهود أملا في إيجاد حكومة تنهي الفوضى وتتفاهم مع المجتمع الدولي بشأن مواجهة تنظيم داعش. رحبت كل تلك الدول بـ«اتفاق الصخيرات» في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ودعت الليبيين إلى الموافقة عليه.
مثل الكثير من القيادات الاجتماعية النسائية والشبابية التي تقف مع الاتفاق الليبي ومخرجاته، تقول مها سليم: نحن لم نؤيد الحوار فقط، بل أخذنا الموضوع بشكل جدي، وبدأنا من داخل الحوار منذ انطلاقه. عكفنا على الكثير من الملفات، واليوم نسعى لرؤية النتيجة، ولهذا أتمنى من الله أن يكتب النجاح للاتفاق السياسي الليبي والمؤسسات المنبثقة عنه، لكي تضع نهاية لمعاناة المواطنين الليبيين.. «توجد مشكلة في السيولة المالية، والناس بشكل عام أصابها اليأس، ونحتاج لأفق جديد».
تخرج السراج في كلية الهندسة (قسم العمارة) في طرابلس عام 1982. ثم استكمل دراسة الماجستير (في إدارة الأعمال) عام 1999 في وقت كان فيه نظام القذافي يخضع لعقوبات دولية، ويقف بصرامة ضد معارضيه، لكن السراج تمكن من تجنب إثارة غضب النظام ولم يعرف له نشاط سياسي يذكر، على عكس كثير من حكام الدولة الجدد ممن لجأوا إلى أوروبا أو قاسوا الأمرين في سجون النظام السابق.
عمل السراج في عهد القذافي في صندوق الضمان الاجتماعي في طرابلس، ولذلك من السهل أن ينتقده من يرفضون تكليفه بحكومة التوافق على أساس أنه «ليس سياسيا مخضرما في ظروف تحتاج لسياسي محنك».
هل سيكون السراج قادرا على قيادة السفينة؟ يقول المحمودي والذي يروج مع مجموعات شبابية أخرى في العاصمة للحكومة التوافقية، ويتواصل مع أعضاء في مجلسها الرئاسي: المواطن الليبي لم يعد لديه اليوم رفاهية الانتظار. لقد مل من طول الجدل بين طرابلس وطبرق وبين المؤتمر الوطني والبرلمان وبين المجموعات المسلحة والجيش. الاتجاه العام اليوم مع الاستقرار.. أي مع توفير الخبز والكهرباء والبنزين. أعتقد أن السراج لديه القدرة على استقطاب الجماعات التي سارعت برفض وجوده في طرابلس أو تلك التي لا تريد لبرلمان طبرق أن ينعقد لمنحه الثقة. هو يعمل على تسوية هذه الملفات دون صخب.
منذ البداية، وفي أول كلمة له موجهة لليبيين، قال السراج: لن تكون بعد اليوم حرب. انتهى زمن الحروب والاستقطاب بين الإخوة. لن أسعى لاستخدام القوة أو التلويح بها. شعاري تعالوا نعمل فسيرى الله عملنا والمؤمنون. لن أهدد ولن أقصي. أمامي لاجئون في الداخل والخارج. أمامي اقتصاد منهار، وارتفاع في الأسعار. أمامي أمن وأمان مفقود. أمامي شعب سيحاسبني الله عليه يوم القيامة إذا أغفلت عن خدمتهم يومًا ما. أمامي مصالحة وحوار وحروب وفتن يجب أن تخمد فورًا. أمامي إرهاب وخطر التطرف ولن أقف صامتًا عنه.
لم يكن السراج وحده في حوار الصخيرات. كان معه قيادات من الغرب والشرق، ظهروا في وسائل الإعلام، لكن يبدو أن رئيس الحكومة الجديد سيجد دعما غير محدود من جانب منظمات المجتمع المدني. يوم أول من أمس التقى السراج في تونس مجددا باثنين من مجموعة «من أجلك ليبيا» كما التقى هؤلاء بباقي أعضاء المجلس الرئاسي.
تقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان، إنها والشخصيات الاجتماعية الأخرى التي تسعى لإنهاء الأزمة الليبية، تقدموا خلال مشوار الحوار بمقترحات في المسودة الأولى والمسودة الثانية للاتفاق. لكنها تضيف أن «حكومة الوفاق الوطني تواجه تحديات صعبة، لا يمكن حلحلتها لوحدها من دون الدعم والمساهمة من جميع القوى الحية في المجتمع المدني».
وعن قضية عدم وقوف السراج وحكومته أمام البرلمان لكسب ثقته أولا، بأغلبية الثلثين زائد واحد، يرى الكثير من النشطاء الليبيين أن هذه ليست مشكلة بعد أن وقع أكثر من هذه النسبة من نواب البرلمان على تأييد الحكومة. وتقول مسؤولة جمعية الميثاق لحقوق الإنسان: لن تكون هناك مشكلة.. أنا مع المائة نائب الذين أعطوا الموافقة للحكومة، لكن لا يخفى على أحد أن هناك من يسعى لعرقلة دعم الحكومة. وتضيف قائلة إن النقطة الأهم أننا «مجموعة تعمل على مساعدة ومساندة من يحترم ويقدر معاناة المواطن وتضحيات هذا الشعب ومطالبه المتواضعة والإنسانية في تأسيس دولة المؤسسات».
ووفقا لمصادر عسكرية تعمل في «المجموعات المسلحة» في طرابلس، فإن مفاوضات اللجنة الأمنية برعاية السراج، تشمل الكتائب والميليشيات، سواء القيادات التي لديها «شرعية تابعة للدولة» أو ليس لديها هذه الشرعية.. «السراج كان حريصا على أن تضم اللجة الأمنية ضباطا من الجيش والشرطة في العاصمة. هم يقومون حاليا بنوع من الحوار مع المجموعات المسلحة. من المستحيل أن تدخل الحكومة إلى طرابلس دون الوصول لحل مع هذه المجموعات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.