طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (5 من 7): شخصيتان لزعيم داعش «المدهوني» تربك الاستخبارات

«الشرق الأوسط» تكشف هويتهما.. الأول تربطه علاقة مع إيران.. والثاني مهندس إنشاءات عسكرية

أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
TT

طرابلس.. مدينة السلاح والميليشيات (5 من 7): شخصيتان لزعيم داعش «المدهوني» تربك الاستخبارات

أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)
أحد عناصر «داعش» يترصد قوات الجيش الوطني الليبي في كمين قرب منطقة الفتايح («الشرق الأوسط»)

في بداية إعلان تنظيم داعش عن نفسه في ليبيا، بمدينة درنة أولاً، عام 2014، ثم انتقاله إلى سرت في صيف العام الماضي، ظهر اسم رجل غامض في ملفات المراقبين الأمنيين الذين يتابعون التحولات الجارية في هذا البلد الذي يموج بالفوضى. ظهر من رصد المراكب التي تنقل المتطرفين والأسلحة عبر البحر المتوسط، تردد اسم الرجل ولقبه، لكن الأوصاف التي تأتي من المصادر السرية كانت دائما تعطي انطباعا بأنهما اثنان وليس شخصا واحدا.
اللقب هو «المدهوني»، وحين انتقل التنظيم للعمل من خلال العاصمة طرابلس، تبين أن هناك شخصية داعشية أخرى بالفعل تحمل اللقب نفسه، وأنه ربما كان هو الزعيم الحقيقي، أو أنه هو الرجل ذاته، لكنه يناور للهروب من الرقابة، وتطلب الأمر مزيدا من العمل لمعرفة الملابسات حول هذه القضية. حدث ذلك بالتزامن مع اتجاه أنظار العالم إلى ليبيا بصفتها بؤرة جديدة لـ«داعش»، بعد الضربات التي تلقاها التنظيم في العراق وسوريا.
يقول ضابط استخبارات غربي متقاعد يعمل انطلاقا من طرابلس، لـ«الشرق الأوسط»: «بالنسبة لنا في الشركة (شركة أمنية)، لاحظنا منذ البداية أنهما اثنان.. أحدهما هو القائد الفعلي للتنظيم».
بينما يشير مصدر أمني آخر يعمل في شركة «ستراتفور» المتخصصة في عمليات الاستخبارات الجيوسياسية وتوفر التحليل الاستراتيجي والتنبؤ، للأفراد والمنظمات في جميع أنحاء العالم، إلى أنه أمكن الحصول على صورة لواحد من الرجلين.. «لقد اعتقل أخيرا وهو على مركب يحمل أسلحة في البحر المتوسط».
كانت أوروبا تشعر بالقلق من تنامي «داعش» على سواحلها الجنوبية، خصوصًا عقب تفجيرات باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وما تبعها من تهديدات التنظيم بـ«غزو أوروبا» و«فتح روما»، انطلاقا من ليبيا. جرى رصد انتقال مئات المقاتلين من مواجهات العراق وسوريا إلى شمال أفريقيا، والتمركز في ليبيا.
على هذا بدأت طلائع الفرق الأمنية الغربية تصل إلى كل من طبرق وبنغازي وطرابلس، لمراقبة الوضع، واختبار الخيارات المطلوبة للجم قوى التطرف. وحصلت «الشرق الأوسط» من مصادر في «ستراتفور» على تفاصيل عن معسكرات لضباط أمن غربيين حطوا في مواقع محمية من جانب قوات محلية في ليبيا.
لقد أربك تشابه لقب «المدهوني» مسار التحقيقات لعدة أسابيع. يرجع السبب في الأساس إلى حالة الغموض والبعد عن الأضواء، وهي من التعليمات الصارمة التي ينفذها قادة «داعش» المنتشرون في عدة مدن في شرق ليبيا وغربها، وفي بعض مناطق الجنوب أيضا، وفقا للمصادر الأمنية.
ويضيف ضابط المخابرات السابق أنه «في البداية جرى تتبع المعلومات الموجودة سلفا، التي وافتنا بها مصادر ليبية سرية في مدينة درنة.. وتتحدث عن أن لقب الزعيم الخفي للدواعش في المدينة هو (محمد المدهوني)، وأن أوصافه كذا وكذا، لكن بعد أن ظهر (داعش) في طرابلس، بدأت ترد معلومات تتضمن أوصافا مختلفة عن رجل يحمل اللقب نفسه».
يقول المثل الشائع في أوساط الضباط المتقاعدين في الشركات الأمنية الغربية: «نفِّذ الأمور بسرعة.. لكن ببطء». هذا يعني أنه عليك أن تنجز المطلوب منك في أقل وقت ممكن، لكن بشرط أن يأتي الناتج على أكمل وجه.. «حين أصبح لقب (المدهوني) يتردد بوصفه زعيما لـ(داعش) في ليبيا»، كما يقول الضابط نفسه، «وجدنا أنه شاب عمره 34 عاما، ينشط في تحريك شحنات الأسلحة بين المجاميع المتطرفة في ليبيا وعبر الحدود، لكن المعلومات المسبقة التي كانت لدينا تقول إن سنَّه أكبر من ذلك بكثير، وإنه ذو خبرة ليست هينة. كان الأمر محيرا بطبيعة الحال».
يحمل كثيرٌ من الليبيين والعرب أسماء مماثلة للقب «محمد المدهوني»، لكن كان الأمر مختلفا في مناطق نفوذ الدواعش في درنة وسرت وطرابلس، لارتباط الاثنين اللذين يحملان اللقب نفسه بتحركات التنظيم المتطرف، سواء عبر الموانئ البحرية على شواطئ ليبيا، أو على الأراضي الممتدة بين جانبي البلاد.
المصادر الأمنية كشفت عن أن الأول، الذي يعد أكبر قيادي في «داعش ليبيا»، في الوقت الراهن، ليبي من العائدين من سوريا، ويحمل جواز سفر عراقيًا، والاسم المدون في جواز سفره هو «محمد المدهوني»، (الاسم مكتوب ثلاثيا)، ويقيم في الوقت الحالي في منطقة عين زارة في طرابلس، ورتبته في سجلات دولة الخلافة المزعومة في العراق هي: «أمير ديوان الفقه والإرشاد والتجنيد في دولة الخلافة الإسلامية في ليبيا».
أما الثاني، الذي تفيد المصادر بأنه أصغر سنا، وأنه معتقل حاليا في إحدى دول البحر المتوسط، فاسمه في جواز السفر هو «محمد المدهون» (الاسم مكتوب رباعيا، واللقب الأخير من دون حرف الياء في نهايته). أما مهنته الأساسية، فمهندس إنشاءات عسكرية منذ عهد القذافي.
تقول التفاصيل التي تخص «المدهوني» الكبير، والتي اطلعت عليها «الشرق الأوسط» من تحقيقات مصادر استخباراتية غربية في العاصمة، إنه من مواليد مدينة طرابلس الغرب، سنة 1953، وأن مقر إقامته القديم (قبل أن يغادر ليبيا في ثمانينات القرن الماضي، للقتال في أفغانستان)، هو منطقة «عين زارة» بوسط العاصمة، وأنه بعد أن دخل إلى ليبيا مجددا.. «ظهر، أول الأمر، في درنة، ثم انتقل في 2015 إلى الموقع السابق نفسه، أي في عين زارة».
تعود بداية الصدام بين المدهوني الكبير والسلطات الليبية إلى عام 1988، وذلك حين فتح جهاز الأمن الداخلي في عهد القذافي تحقيقا بشأن علاقة هذا الرجل بعملية هدم المقابر التي كانت تقوم بها بعض الجماعات الناشئة في ليبيا في ذلك الوقت. وورد اسم «المدهوني»، للمرة الأولى، في واقعة هدم مقبرة «سيدي المنيذر» في وسط طرابلس.
يعتقد أن «المنيذر» المعروف في كتب التاريخ باسم «الأفريقي»، من المسلمين الأوائل الذين شاركوا في فتح شمال أفريقيا، ودخل الأندلس مع جيش موسى بن نصير. وتعرضت مقبرته للنبش مجددا بعد سقوط نظام القذافي من جماعات غير معروفة.
مسؤول أمني معني بمتابعة خط سير المدهوني الكبير، يقول إنه يبدو أن الرجل فرَّ بعد تحقيقات الثمانينات حول الجماعات التي تهدم القبور، من ليبيا إلى أفغانستان، حيث ظهر اسمه أولا في قوائم «المجاهدين العرب» وهم يحاربون القوات الروسية هناك، ثم جاء اسمه، بعد ذلك، بوصفه أحد «الأفغان العرب» الذين يحاولون العودة إلى بلادهم في تسعينات القرن الماضي.
المعلومات تشير إلى أن المدهوني حاول دخول ليبيا في أواخر التسعينات، عن طريق السودان، إلا أن المواجهات التي اندلعت في ذلك الوقت في منطقة الجبل الأخضر شرق ليبيا، بين المتشددين ونظام القذافي، أجبرته على العودة مرة أخرى إلى أفغانستان، حيث ظل هناك إلى أن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، في الولايات المتحدة الأميركية.
وقتها تمكن الرجل من الدخول من «أبواب اللجوء» التي فتحتها إيران للعشرات من قيادات تنظيم القاعدة العرب الفارين من «الغزو الأميركي والدولي» لأفغانستان. وأقام لمدة في شرق طهران «حيث كان يتلقى إعانة ورعاية». وفي عام 2012، وفقا للتحقيقات، تبيَّن أن المدهوني حصل على جواز سفر عراقي، منسوب صدوره لمدينة بغداد، وبدأ في التواصل مع بعض قيادات الحكم الجديدة التي جاءت بعد مقتل القذافي.. «أي قيادات من بين أولئك الذين كانوا يرفعون شعار تطبيق الشريعة الإسلامية في ليبيا».
يقول أحد الضباط المتقاعدين ويعمل في شركة أمنية غربية في طرابلس: «هذا الرجل (المدهوني) بدأ بالفعل في الاتصال بقيادي كبير في المجلس الانتقالي الليبي. وفي عام 2013 توطدت علاقته، مثل متشددين ليبيين آخرين، بقيادي المجلس الانتقالي المشار إليه».
يبدو من أوراق التحقيقات أن أطرافا أخرى معنية بليبيا شعرت بغرابة التواصل بين المتطرفين العائدين من «الجهاد» في آسيا، والقيادي الليبي الذي كان قد ترك المسؤولية في المجلس الانتقالي بعد تسليم السلطات إلى البرلمان المنتخب منذ عام 2012. حين سُئل عن طبيعة هذه الاتصالات، وأن هناك شخصيات خطرة من بين المتشددين يمكن أن يثيروا القلاقل مستقبلا في هذا البلد، قال هذا المسؤول إنه يعتقد أن المدهوني «ذو نهج وسطي»، وأنه «غير متشدد ولا متطرف».
الوثائق التي اطلعت «الشرق الأوسط» على جانب منها تضيف أن المدهوني ظهر في ليبيا بالفعل عام 2013 بجواز السفر العراقي، لكنه اختفى مجددا لعدة أشهر، قبل أن يتم رصده ضمن ما كان يعرف بـ«لواء الأمة» في سوريا، وهي خلية كانت تضم متطرفين عربًا التحق كثير من عناصرها، فيما بعد، بتنظيم داعش، وأسسها ليبي من أصل آيرلندي، يعيش حاليا في طرابلس ويشغل فيها منصبا في الحكم المحلي للعاصمة التي تسيطر عليها الميليشيات.
في طرابلس يقول أحد المقربين من مؤسس «لواء الأمة» الذي أصبح من المسؤولين في العاصمة، إن المدهوني ومعه قيادي آخر يدعى «أبو حفص الليبي» كانا من بين قيادات «اللواء» الليبيين، ممن بدأوا يتجهون، في سوريا، للانخراط في تنظيم داعش، بدلا من التركيز على مشاركة قوى المعارضة السورية في حربها ضد نظام بشار الأسد. وبسبب إصرار كثير من السوريين، خصوصا «الجيش الحر»، على الابتعاد عن خطط «داعش» والتركيز على محاربة جيش النظام السوري، توجه المدهوني إلى العراق.
الظهور الجديد للمدهوني داخل ليبيا كان مع إعلان تنظيم داعش عن وجوده في البلاد في أواخر عام 2014. استقر به المقام، أول الأمر، في مدينة درنة الساحلية. تضيف المصادر أنه أقام لدى رجلين معروفين بأنهما من قيادات تنظيم القاعدة، الأول يلقب بـ«بن قمو»، والثاني بـ«عزوز». تشير التحقيقات إلى أن المدهوني قاد كثيرا من المعارك في درنة لتمكين «داعش» من المدينة، وضم جماعات أخرى له، من تنظيم «أنصار الشريعة»، سواء الليبي أو التونسي أو المصري.
حصار الجيش الليبي لمدينة درنة وحربه في مدينة بنغازي، جعل تنظيم داعش ينتقل، في صيف العام الماضي، سريعا إلى سرت مسقط رأس القذافي، وتقع على مشارف الهلال النفطي، وهي منطقة تضم أكثر من 60 في المائة من مخزون النفط الليبي. يقول ضابط أمن ليبي يعمل في جهاز المخابرات في طرابلس: «اسم الشخص الذي نقل تنظيم داعش إلى سرت هو (أبو معاذ)». لكن الضابط الأميركي المتقاعد يقول وهو يجلس في فيلته على شاطئ طرابلس: «تبين فيما بعد أن (أبو معاذ) هو (المدهوني الكبير) نفسه».
يعتقد المحققون أن المدهوني متزوج من اثنتين؛ واحدة ليبية، والأخرى سورية. وتوجد نحو خمس ورقات، أمكن الاطلاع على الأسماء الواردة فيها، ويظهر منها أن المدهوني لديه علاقات واسعة بأطراف في الداخل الليبي، وشخصيات أخرى كان على علاقة بها في أفغانستان وباكستان وتضم، بالإضافة إلى الشخصيات «الجهادية» الآسيوية، جزائريين ومصريين وموريتانيين ويمنيين وآخرين من الخليج. أما في داخل البلاد، وبالإضافة إلى اتصالاته القديمة مع أعضاء في المجلس الانتقالي، فقد رصد المحققون اتصالات به تجريها قيادات ليبية «تتحرك في ثوب سياسي»، وأخرى من عدة ميليشيات متطرفة في كثير من المدن الليبية.
لقد تطورت طريقة عمل المدهوني بعد انتقاله من سرت إلى طرابلس في مطلع العام الماضي. أوراق التحقيقات تشير إلى أنه تمكن من اتباع طرق توصف بالمتقدمة في العمل، والانتشار في العاصمة.. هو على اتصال مستمر برجل يدعى الشيخ ياسين في مكتب «الخليفة» المزعوم أبو بكر البغدادي. كما استقبل قيادات متطرفة من بلاد مختلفة طوال الشهور الماضية، بعضهم تسلل إلى طرابلس عبر الأراضي السودانية، والبعض الآخر من الأراضي الجزائرية، إلى جانب التونسيين الأقرب إلى مقره في «عين زارة» في طرابلس.
وللرجل معسكرات ومقرات في العاصمة وما حولها، من بينها معسكر مجاور لمطار «امعيتيقة» الذي يقع تحت سيطرة الميليشيات في طرابلس، وهو المطار نفسه الذي وصلت عن طريقه ثلاث فرق أمنية أميركية على الأقل، بمعداتها، خلال الشهرين الأخيرين. كما يقيم في بعض الأحيان في منتجع على البحر بجوار شاطئ القربولي، في العاصمة، يسميه «دار الحسبة»، ولديه مقر صغير آخر اسمه «المشتل» غير بعيد عن مقر منظمة الصحة العالمية في طرابلس.
بحسب إفادة من مصدر أمني في مخابرات العاصمة الليبية، فإن المدهوني لديه إمكانات مالية هائلة، وغالبا لا يظهر بنفسه في الواجهة. يقول إن الرجل تعرض للتوبيخ من «الشيخ ياسين» الموجود في مكتب البغدادي.
يضيف قائلا إن «من يديرون الأمور للمدهوني في طرابلس، مجاميع مختلفة؛ سواء تلك التي تعمل تحت اسم (داعش)، أو عناصر وقادة آخرين في عدة ميليشيات يتعاونون معه في الخفاء.. يبيعون له شحنات أسلحة، بما فيها كميات من غاز «السارين» المحرم دوليا (من مخلفات مخازن القذافي) ويقدمون له المعلومات».
وللتحقق من معلومات عن وقائع أخرى حصلت عليها «الشرق الأوسط» من مصادر في ميليشيات طرابلس، بشأن امتلاك «داعش ليبيا» القدرة على مراقبة تحركات المسؤولين والشخصيات الكبيرة في العاصمة، قال مسؤول في شركة أمن غربية: «ما لدينا من تقارير تؤشر إلى أن (داعش) في طرابلس لديه قدرات كبيرة وصلت إلى درجة إرسال مساعدات مالية إلى العناصر المنتمية للتنظيم في المنطقة.. لديه كذلك منظومات متقدمة باهظة الثمن لمراقبة الهواتف».
من جانبه، يضيف المصدر في مخابرات العاصمة أنه لوحظ أن المدهوني يصر على لف نفسه بالغموض.. «طبعه العام يتسم بالهدوء، والابتعاد عن المشكلات مع الخصوم والأنصار.. كأنه مدرب جيدا، فهو لم ينفعل رغم كثير من المواقف التي مرت عليه وعلى أتباع التنظيم، ليس في طرابلس فقط، ولكن في سرت وبنغازي ودرنة وصبراتة».
يبدو أن محققي الاستخبارات الغربية والليبية في طرابلس تيقنوا، في نهاية المطاف، من شخصية «المدهوني الكبير» الذي يبغ عمره 63 عاما، حيث إنها تختلف تماما عن «المدهون الصغير (من دون حرف الياء)» الذي يبلغ عمره 34 عاما، وفقا لما ورد في معلومات جواز سفره الليبي (حصلت «الشرق الأوسط» على نسخة منه ضمن أوراق من محاضر التحقيقات).
أما قبل سقوط نظام القذافي، فقد كان «المدهون» يعمل مهندسا إنشائيا، بعد تخرجه في معهد للهندسة البحرية، حيث إنه أشرف على الإنشاءات الخاصة بكثير من المقار العسكرية التي كانت تابعة للجيش في عموم البلاد أيام النظام السباق، ومنها «معسكر الرحبة» و«معسكر المدفعية» في طرابلس، و«معسكر رحبة الدروع» في الجفرة.
يضم ملف «المدهون»، معلومات أقل من تلك التي تخص «المدهوني»، منها على سبيل المثال أنه من مواليد منطقة تاجوراء في العاصمة، وأنه متزوج وأب لطفلة، ويتقن اللغة الإنجليزية. كما كان من عناصر «الجماعة الليبية المقاتلة» بعد مقتل القذافي، ثم انضم إلى «داعش»، وأصبح من المسؤولين العسكريين والضالعين في تمرير شحنات الأسلحة للتنظيم، ليس في ليبيا فقط، ولكن في دول بالمنطقة أيضا. يقول أحد ضباط الأمن إن المدهون الصغير «ما زال محتجزا مع مركب أسلحة في مكان ما في شرق البحر المتوسط»، معربا عن اعتقاده بأن توقيفه أزال كثيرا من الغموض عن الفرق بين الرجلين.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.