خادم الحرمين يكرّم معلمًا سعوديًا أنقذ مدرسات حاصرتهن النيران داخل سيارة

الحربي قدم شكره للملك سلمان على التكريم.. ووعد ببناء منزل لوالدته

صورة من الحادث المروري الذي تعرضت له معلمات سعوديات في ديسمبر الماضي وتمكن المعلم الحربي من إنقاذهن
صورة من الحادث المروري الذي تعرضت له معلمات سعوديات في ديسمبر الماضي وتمكن المعلم الحربي من إنقاذهن
TT

خادم الحرمين يكرّم معلمًا سعوديًا أنقذ مدرسات حاصرتهن النيران داخل سيارة

صورة من الحادث المروري الذي تعرضت له معلمات سعوديات في ديسمبر الماضي وتمكن المعلم الحربي من إنقاذهن
صورة من الحادث المروري الذي تعرضت له معلمات سعوديات في ديسمبر الماضي وتمكن المعلم الحربي من إنقاذهن

أعلن أمس، عن موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز على منح المعلم عبد العزيز بن سالم بن فايز الحربي وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى، وصرف مليون ريال مكافأة له نظير إنقاذه عددا من المعلمات بعد احتجازهن داخل سيارة والنيران تشتعل بها.
وبعد نحو ساعتين من قرار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز القاضي بمنح المعلم السعودي عبد العزيز الحربي وسام الملك عبد العزيز مع جائزة مليون ريال بفعل موقفه الشجاع في إنقاذ معلمات سعوديات من الموت في حادثة شهيرة خلال ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وجدت «الشرق الأوسط» صاحب الشأن يتوسط إخوته مساء أمس أثناء رحلة برية في منطقة صحراوية تدعى (جبل طمية) جنوب غربي مسقط رأسه في مدينة عقلة الصقور، والأخيرة هي أكبر محافظة غرب منطقة القصيم.
وجاء السؤال بديهيا عن سبب التزامه المكوث في ذلك المكان الخلوي بعد سماعه النبأ الذي يرجح أن يكون الأسعد بالنسبة له طوال سنوات حياته الـ25 السابقة، لكن صمته في بادئ الأمر كان يوحي بثقته في تلقائيته، قبل أن يجيب ببساطة شديدة: «هذه الأخبار لا يكون فيها مجال للهزل، لذلك كنت واثقا من جديتها. ووالله وددت لو كانت ردة فعلي من ذلك الخبر بيني وبين خالقي، لكني بالطبع سجدت لله شكرًا. وحولي 6 من إخوتي باركوا لي تلك الجائزة، وكانوا سعداء من أجلي. والحمد لله حتى يبلغ الحمد منتهاه. وأشكر ولاة الأمر على هذه الالتفاتة الكريمة من قبل الملك سلمان وولي العهد وولي ولي العهد، وهذا يدل على ترسيخ الدولة لعمل الخير».
وكان من اللافت أن يستعين آخر الذين كرموا بوسام الملك عبد العزيز بهاتفه الجوال ليتيقن من هوية أول الذين أخبروه بتلك الجائزة، قبل أن يجيب متحققا أنها من ابن خالته عبيد الحربي، لكنه استدرك: «الحقيقة أن التهنئة وردتني من أصدقاء وأقارب كثر في وقت متقارب ومتزامن».
ورغم تلك اللحظة السعيدة، لم يحدث الرجل الفائز بآخر مكافأة مادية من الدولة أي تغيير في مخططه ليوم أمس، ومضى يعد الطعام بنفسه بحسب اتفاقه المسبق مع إخوته، وكان شراء عبوة ملح للطعام «وقيمتها ريالان» أول قرار مالي اتخذه، وقال حول ذلك: «لدي مشكلة مع الملح، فأنا أنساه على الأغلب في الرحلات البرية. واضطررت لقطع مسافات من أجل ابتياعه».
لكن قرارات عبد العزيز الحربي المستقبلية تتجه نحو تحقيق نية شراء منزل لوالدته، ويتمسك أولا بالوفاء في الالتزامات المادية عليه.. ويجيب الحربي عن التساؤل بسر وضعه المدين رغم حقيقة عمله موظفا حكوميا منذ 3 سنوات في مدرسة الفوارة «لدي التزامات مالية، لأني شاركت في حمل المسؤولية منذ كنت في سن الـ12. وحاليا لا أفكر سوى بالوفاء بما علي وإسعاد والدتي بمسكن جديد».
ويزعم منقذ المعلمات أن لرئيس لجنة التنمية في عقلة الصقور ومساعد مدير مكتب التعليم سالم الوهبي دور في الجائزة. أما خلفيته العامة عن وسام الملك عبد العزيز فتقتصر على كونها مخصصات مالية من الدولة متباينة الدرجات، لكن الحربي يجهل مستوى درجة الجائزة التي ظفر بها أمس. وزاد: «أعرف أيضا أن الفائز بها آخر مرة نالها عن دوره في إنقاذ عائلة من السيول».
وكانت الفرصة مواتية لسؤال المعلم عبد العزيز عن العبارة التي رصدتها «الشرق الأوسط» من تدوينته عبر برنامج (واتساب) الخاص به يوم الحادثة التي أكسبته الشهرة قبل 3 أشهر، وكانت مكتوبة قبل أكثر من 50 يوما تسبق التاريخ الذي أجلى خلاله 4 سيدات من سيارة تقلهن وقت اشتعالها بالنيران، وجاء في مطلعها «عندما نعيش لأنفسنا تبدو الحياة قصيرة..».
وعن تلك التدوينة يقول الحربي: «بالنسبة لي ذلك مبدأ في الحياة» لكنه يكشف أن أساه من أحد أصدقائه، الذي يظهر له الود ويبطن غير ذلك، تسبب في التغيير إلى تدوينته الحالية في البرنامج ذاته (‏الأزمات والمحن.. ‏تكشف لك حقيقة من حولك) التي كتبها منذ 13 يوما قبل إعلانه متوجا أمس بالجائزة.
وأضاف: «أنا من أنصار المكاشفة والمصارحة بين الأصدقاء، والله عز وجل إذا تاب على مشرك غفر له»
تبقت الإشارة إلى حجم الفخر الهائل من عبد العزيز بوالده الراحل سالم: «أتمنى أن أكون رجلا صالحا مثله، فقد توفي وأنا في العاشرة من عمري، لكني تعلمت منه الكثير بفضل مرافقتي له في سن مبكرة وأنا ابن الرابعة. وأكون فخورا إذا سمعت إشادة كبار السن بوالدي».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)