«التبراع».. شعر مغربي من توقيع نساء

يتغزل في الرجال بجرأة وسرية

الباحثة العالية ماء العينين (يمين) والشاعرة الحسانية خديجة لعبيدي في ندوة «الشعر الحساني والتبراع» («الشرق الأوسط»)
الباحثة العالية ماء العينين (يمين) والشاعرة الحسانية خديجة لعبيدي في ندوة «الشعر الحساني والتبراع» («الشرق الأوسط»)
TT

«التبراع».. شعر مغربي من توقيع نساء

الباحثة العالية ماء العينين (يمين) والشاعرة الحسانية خديجة لعبيدي في ندوة «الشعر الحساني والتبراع» («الشرق الأوسط»)
الباحثة العالية ماء العينين (يمين) والشاعرة الحسانية خديجة لعبيدي في ندوة «الشعر الحساني والتبراع» («الشرق الأوسط»)

يبرز شعر «التَبْرَاعْ» في ثقافة البيظان، التي هي ثقافة المتحدثين باللغة الحسانية، وهم سكان أقاليم جنوب المملكة المغربية وكذا سكان موريتانيا، بوصفه شعرا نسائيا خالصا على مستوى الإبداع، موضوعه الغزل والمخاطب به هو الرجل. وهو إبداع شفوي نسائي محض، بيد أن خاصية نظمه وإبداعه مقصورة على النساء الصحراويات فقط. وهو شعر يتميز بنوع من الوضوح والمباشرة في التعبير عن العاطفة، وقد تتصف بعض قصائده بجرأة كبيرة، من هنا لا ينسب كثير من هذا الشعر، إن لم يكن كله، إلى شاعرات معروفات، بقدر ما يبقى مجهول النسب.
وكشفت العالية ماء العينين، أديبة وباحثة جامعية مغربية، أثناء حديثها أخيرا في ندوة «الشعر الحساني والتبراع» التي نظمت على هامش فعاليات الدورة الـ22 للمعرض الدولي للنشر والكتاب، في الدار البيضاء، الذي اختتم فعالياته الأحد، أن «التبراع» شعر نسائي خاص بالمرأة الحسانية، مشيرة إلى أنه في الحسانية يقال إن شعر «التبراع» فيه «تافلويتين»؛ يعني نصف «قاف»، أي نصف بيت، و«القاف» فيه أربع «تافلويتين»، و«التبريعة» فيها «تافلويتين» اثنين، وبالعربية الفصحى هو بيت واحد من الشعر.
وأوردت ماء العينين تعريف الباحث أحمد بابا المصقلي، وهو أول من كتب عن «التبراع» في عقد السبعينات من القرن الماضي، بأن «التبراع» هو قصيدة صغيرة تقولها الفتيات العاشقات في أماكن بعيدة خوفا من عيون الناس، مشيرة إلى أن مجلس «التبراع» له طقوسه الخاصة التي تؤثثها مجموعة من الفتيات المجتمعات للسمر؛ فتبدأ الواحدة منهن بالإنشاد في موضوع أو مغزى معين داخل إطار الغزل، فتطفق الواحدة تلو الأخرى في «التَّبَرُّعْ»، ويستمر الأمر على شكل مساجلة أو محاورة «تبراعية». وحول مصدر كلمة «التبراع»، ذكرت ماء العينين أنه مشتق من «البراعة» و«التَّبَرُّع»، مضيفة أنه نوع من الشعر الجريء، وهو ما يجعله يحظى بالمكانة الأدبية التي يستحقها.
وأوضحت ماء العينين في فكرتها العامة حول الغزل داخل الشعر الحساني، أن حضور الجسد في شعر «التبراع» هو حضور بصورة مخالفة وبشكل آخر، عادّةً أن جسدا آخر يتحدث، وهو ما يسمى «الشيطان» أو «إبليس»، وأظهرت أنه في الثقافة الحسانية هناك مقاييس جمال للمرأة الصحراوية هي الأصعب، نافية تصور كثيرين عن أن الجمال هو المرأة السمينة، وإنما هو امتلاء الجسد بمقاييس صعبة جدا، مضيفة أنها ليست هي المطلوبة أو المهمة، حسب ما يظهر في الشعر، وقالت: «ممكن أن تكون كل مقاييس الجمال موجودة، ولكن هذه الأشياء لا تثير الشاعر، بيد أن ما يجعل الشاعر يبدع هو الشيء الآخر الموجود الذي هو (الشيطان) أو (إبليس)»، مؤكدة أن هذه السمة حاضرة جدا في النسق الشعري الصحراوي.
من جهتها، ذكرت الشاعرة خديجة لعبيدي، أن الأصل في «التبراع» أنه كان شفهيا وسريا لا يتم الإفصاح عنه أو كتابته، ويلقى بين النساء فقط بكل جرأة، وأنه خرج للعلن في إطار التعريف به بوصفه جنسا شعريا، والكشف عن إبداعات النساء الصحراويات. وقالت لعبيدي: «جاء ذلك في سياق إعطاء المرأة حقوقها وحريتها في التعبير بعد أن كان مرفوضا في المجتمع الصحراوي»، مقدمة قراءات شعرية من «التبراع». وبشأن تجربة لعبيدي الشعرية في «التبراع»، قالت إنها أضافت غرض «المدح» في «التبراع»، ولم يعد منحصرا فقط في الغزل، داعية إلى منح المرأة فرصتها في الإبداع الشعري، وإلى أن يعالج «التبراع» أغراضا أخرى.
يذكر أن لعبيدي هي مؤسِسة الجمعية الوحيدة في المغرب التي تهتم بهذا النوع الشعري، وتحمل اسم «جمعية الساقية الحمراء الوطنية النسائية للتبراع وتنمية الإبداع»، إضافة إلى أنها باحثة في هذا النوع، وعضو برابطة كاتبات المغرب.
يذكر أن الثقافة الحسانية كان لها حضور لافت ضمن فعاليات الدورة الـ22 من المعرض الدولي للنشر والكتاب، حيث شهدت مشاركة كثير من الباحثين والأساتذة الصحراويين لتنشيط اللقاءات والندوات، وجرى تقديم كتاب «خمسة أشهر لدى البيضان» وهو من ترجمة حسن الطالب، وكتاب «تقنيات التعبير في الشعر الحساني» للسالك بوغريون، وتوقيع رواية جديدة للكاتبة الصحراوية البتول لمديميغ بعنوان «أماكن ملغومة»، وثلاث ندوات بعنوان «الأدب الحساني.. نظريات وقضايا»، و«الإبداع الأدبي الحساني.. رهانات النشر والتداول».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟