10 سنوات على حكم حماس (4 - 4): وجه مشرق للحياة في غزة لكنه قابل للاختفاء في «رمشة عين»

سكانها يتابعون كرة القدم.. ويقضون أوقاتًا ممتعة في المطاعم والفنادق وعلى شاطئ البحر

سلسلة من الفنادق والمنتجعات الفاخرة على شاطئ غزة الجميل
سلسلة من الفنادق والمنتجعات الفاخرة على شاطئ غزة الجميل
TT

10 سنوات على حكم حماس (4 - 4): وجه مشرق للحياة في غزة لكنه قابل للاختفاء في «رمشة عين»

سلسلة من الفنادق والمنتجعات الفاخرة على شاطئ غزة الجميل
سلسلة من الفنادق والمنتجعات الفاخرة على شاطئ غزة الجميل

مثل كل المدن الساحلية والسياحية الأخرى، يوجد في قطاع غزة ما يستحق الحياة، بالنسبة لكثيرين: عشاق على بحر الشاطئ، وعائلات تقضي أجمل الأوقات في مطاعم وفنادق فاخرة للغاية، وآخرون يحيون الحفلات الغنائية والراقصة، أو يلعبون كرة القدم، أو يمارسون رياضة أخرى.
صحيح أن الصورة النمطية عن غزة هي أنها بلد محاصر مليء بركام الحروب ومخلفاتها، مع عائلات ثكلى كثيرة، لكن جولة ليلية في القطاع بإمكانها أن تساعد على تغيير هذه الصورة.
إذ تفيض غزة بشواطئها الجميلة، والمطاعم والمقاهي والمنتجعات المنتشرة على تخومها، وملاعب كرة القدم والمحلات التي تعرض أفضل البضائع على الإطلاق أيضا، التي تبدو بمجموعها متنفسا كبيرا للغزيين الذين لا يستطيعون مغادرة القطاع.
يقول محمد نصر الدين (25 عامًا)، لـ«الشرق الأوسط»: «أقضي معظم وقتي في الليل في أفخم المطاعم والفنادق في غزة».
يصل محمد بسيارته الفارهة إلى فندق «الروتس» أو «البلوبيتش»، على ساحل بحر غزة، كي يدخن النرجيلة (الشيشة)، مع رفاقه. يدخل ويختار جلسة مطلة على البحر، ويطلب طعامه وقهوته والنرجيلة مثل أصدقائه، ويدفع ما مقداره مائة دولار ويغادر.
ويبدو هذه الرقم مهولا بالنسبة لكثير من الغزيين، لكنه يقول، إن ذلك هو متنفسه الوحيد في ظل إغلاق المعابر وعدم قدرته على السفر بحرية متى أراد. ويعقب على انتقادات يتعرض لها «أنا أنظر إلى حياتي بأنها طبيعية، ولا أهتم بالنظرة الطبقية في المجتمع».
صحيح أن كثيرين لا يستطيعون مجاراة محمد، لكن غالبية الشبان تقريبا يعيشون حياته مع فارق مهم يتعلق باختيار مكان أقل تكلفة.
ويقضي آلاف الشبان ليلهم في مقاهي قطاع غزة، يلعبون الورق (الشدة، الكوتشينة) ويدخنون النرجيلة، كما تتجمع الفتيات لقضاء سهرة ممتعه في أماكن مخصصة أو مقبولة. وتأخذ مباريات كرة القدم نصيب الأسد من اهتمام الشبان في القطاع عموما.
وتكتظ المقاهي والكافيهات عادة بالشبان الذين يتابعون مباريات كرة القدم وسط شغف كبير. وقال حسام مطر، أحد أصحاب المقاهي المنتشرة على شاطئ البحر، إن العشرات من الشبان يتابعون المباريات خصوصا الدوري الإسباني. ويشير مطر إلى أن المئات من الشبان يحضرون مباراة الكلاسيكو بين برشلونة وريال مدريد، أو مباريات دوري أبطال أوروبا، لما تمثله مبارياته من أهمية كبرى بالنسبة إليهم. ويضيف: «إنهم يأتون للترفيه عن أنفسهم، وفي الوقت ذاته يستمتعون بقضاء وقت جميل هنا».
وذكر مطر أن تكلفة مشاهدة المباراة تصل من اثنين إلى خمسة شيقلات فقط للفرد الواحد، أي ما يعادل أقل من (دولار ونصف الدولار فقط). مشيرا إلى أن التذكرة للفرد من دون تناول أي مشروب ساخن، فقط شيقلان، فيما تصل إلى خمسة في حال تناول أي مشروب.
وتضيف المباريات أجواء جميلة على السهرات الليلية للشبان على ساحل البحر أو داخل المدينة. ومن أجل ذلك، تتنافس المقاهي على تقديم شاشات أكبر وصورة أوضح وخدمة جيدة أثناء البث.
وقال شبان التقتهم «الشرق الأوسط»، إنهم يقضون اليوم كله قبل وبعد المباراة في جو مشحون وفيه كثير من المنافسة والتحدي والفرح بالفوز أو خيبة الأمل بالخسارة وسط مناكفات لا تتوقف. أما الذين يحبون الأجواء الهادئة ولا يملكون المال الكافي فيبحثون دائما عن البحر.
ويجد حكيم المصري (33 عاما)، وهو متزوج وأب لأربعة أطفال، أن البحر وحده المتنفس الوحيد له ولعائلته لقضاء بعض الوقت من دون اكتراث لحسابات مالية يمكن أن ينظر إليها في حال قرر الذهاب مع عائلته لتناول طعام العشاء. وقال المصري، إنه يحاول إسعاد أطفاله قدر الإمكان بتوفير وجبة عشاء جاهزة، لكنها أقل سعرا من تلك التي تباع في الفنادق والمطاعم الفاخرة، ويحضر إلى البحر لقضاء وقت جميل مع عائلته من دون أن يتكلف مبالغ باهظة.
ويشير المصري، وهو صاحب محل صغير لبيع الملابس القديمة «البالة»، إلى أن أغلب العائلات الفقيرة تفضل الأماكن المفتوحة والعامة للترفيه عن نفسها، لأسباب كثيرة، منها عدم توفر المبالغ الباهظة التي يمكن أن تدفع في المطاعم، وأخرى منها تتعلق بالاختلاط الفاضح في بعض الأماكن.
ويضيف: «كثير من الناس في العالم العربي والعالم يعتقدون أنه لا توجد حياة في غزة، وأننا منغلقون على أنفسنا ولا نرغب في الحياة ونفضل الموت. لكن الحقيقة هي أننا شعب نرغب في الحرية ونسعد كثيرا بالترفيه عن أبنائنا وبناتنا، والحياة تزداد جمالا من يوم إلى آخر في غزة، بفعل حبنا للحياة رغم كل المآسي التي نعيش فيها». والاختلاط الذي أشار إليه المصري، حاولت حركة حماس في سنوات سابقة الحد منه ولا تزال، لكن كثيرين يعتقدون أنها محاولات إعلامية أكثر منها جدية.
وأصدرت حماس في سنوات حكمها كثيرا من القرارات التي تمنع السيدات من تدخين النرجيلة (الشيشة) على شاطئ البحر، أو إقامة الحفلات الراقصة والمختلطة، إلا أن تلك القرارات لم تكن للتطبيق الفعلي، كما يقول أبو خالد، المسؤول الإداري في أحد أشهر الفنادق الفخمة على شاطئ بحر غزة.
ويروي أبو خالد، لـ«الشرق الأوسط»، أن «الفنادق والمطاعم والمقاهي في غزة تمتلئ بروادها دائما في الأيام الأولى من صرف رواتب موظفي السلطة الفلسطينية، وفي المناسبات، ويومي الخميس والجمعة اللذين يعدان من أهم الأيام وأكثرها نشاطا واستقبالا للزبائن».
ولفت أبو خالد، إلى أنه عمل على تنسيق حفلات غنائية راقصة في أجواء رومانسية لمدة 3 أيام متتالية في رأس السنة الميلادية، وحفلة واحدة ليلة «يوم الحب» (فالانتاين داي)، في الرابع عشر من شهر فبراير (شباط) الحالي. مشددا على أن الفندق الذي يعمل فيه بصعوبة بالغة، استطاع استيعاب الأعداد التي حضرت تلك الحفلات، على الرغم من الأسعار التي كانت تصل إلى ثمانين شيقلا للفرد، أي ما يعادل (21 دولارا) قابلة للزيادة، وفق ما يطلبه الزبائن من طعام ومشروب وغيره. ويعتقد أبو خالد، أن الناس في غزة مثل أي مكان آخر يحبون هذه الحياة.
ويشاركه الرأي حمادة عريف، أحد الإداريين في مطعم التايلاندي، وسط مدينة غزة، الذي يقول إن المطعم الذي يشرف على إدارته يستقبل المئات من المواطنين يوميا، مع وجود أقسام خاصة بالعائلات.
وقال عريف: «هناك إقبال كبير على قاعات المطعم في الأيام العادية وأيام المناسبات، وفي أوقات المباريات التي يحتشد الشبان لحضورها». وأضاف أنه «رغم الأوضاع الحياتية الصعبة في غزة، فإن هناك من يحرص على ممارسة حياته بشكل طبيعي».
ويعتقد عريف أن الغزيين يتطلعون فعلا إلى تغيير نمط حياتهم، ويسعون لذلك من خلال «اللمات» العائلية في المقاهي والمطاعم وعلى شاطئ البحر. وأردف: «الجميع يريد أن ينتقل من الواقع المأساوي الذي يعيشه بسبب الحصار والحروب وغيرها، إلى ما يمكن أن يحسن من حياته وعائلته». وتحافظ الصحافية صبا الجعفراوي على قضاء أوقات ممتعة مع صديقاتها وعائلتها للتخلص من ضغط العمل وتقول: «هذا الكم الكبير من المطاعم والمقاهي والفنادق والمنتجعات هو متنفس الناس».
وتجد جعفراوي أن «الإقبال له علاقة بالحصار والتضييق والخناق الذي تفرضه إسرائيل على غزة، وساعد في ذلك تدمير الأنفاق من قبل الجيش المصري على طول الحدود».
وتعتقد الجعفراوي، أن تجارة الأنفاق ساعدت على ظهور طبقة غنية جدا في غزة، إضافة إلى الأثرياء الموجودين أصلا، ويريدون أن يعيشوا بطريقة مختلفة. لكنها تحذر من أن هذا الوجه الآخر للحياة يمكن أن يتغير بسرعة في بلد محاصر، وتتغير فيه الظروف بـ«رمشة عين» بين هدنة وحرب.



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.