10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ظاهرة تتسع مع «استمرار الحصار» وتوالي «الحروب»

TT

10 سنوات على حكم حماس (3 - 4): 165 ألف طفل يعملون في الشوارع وورش البناء وعلى الحدود الخطرة

ما إن يُنْهِ «وليد» (12 عاما) دوامه الدراسي في إحدى مدارس الأونروا المجاورة لمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة حتى يعود مسرعا إلى منزل عائلته في المخيم الأكثر اكتظاظا، حاملا بعضا من «علب الدخان» و«العلكة»، ويخرج ثانية ليتجول بها في حي الرمال، أحد أرقى الأحياء في قطاع غزة، الذي يُعد من أكثر المناطق رغبةً لدى الغزيين لقضاء وقتهم فيه إلى جانب شاطئ البحر.
ويختصر يوم وليد المليء بالمعاناة، الناتجة عن التفاوت المعيشي والحياتي الشاسع الموجود في القطاع (مخميات مكتظة قبالة أحياء راقية).
وعادة ما يملأ الباعة الفقراء المناطق الأكثر رقيا أو حيوية في غزة، كالرمال، وميدان فلسطين، والمناطق الساحلية، خصوصا في الصيف، من أجل كسب لقمة العيش. ويحصل أولئك الأطفال على البضائع التي بحوزتهم، إما بدعم من أهاليهم، وإما بدعم من أصحاب محال بهدف تصريف بضاعتهم وكسب المال بطرق أخرى.

ووليد واحد من ثلاثة أشقاء تبلغ أعمارهم ما بين التاسعة والسادسة عشرة، يعملون جميعا في مجال بيع «الدخان» و«العلكة» و«المكسرات» و«المشروبات الساخنة»، في ساحة الجندي المجهول بحي الرمال وسط مدينة غزة. ولجأ الأشقاء الثلاثة إلى ذلك بسبب ضنك العيش الشديد الذي تعيشه أسرتهم، جراء الأوضاع الاقتصادية والحياتية الصعبة في القطاع. ويكاد والدهم الذي يعمل في قطاع البناء يحصل على مبلغ 50 شيقلا، أي ما يعادل نحو 13 دولارا، في الأسبوع، بسبب عدم توفر العمل بشكل يومي، نتيجة لعوامل عدة، منها نقص مواد البناء وتحكم الاحتلال في إدخالها وآلية توزيعها على المواطنين وفقا للنظام المعمول به منذ انتهاء الحرب الأخيرة على قطاع غزة.
وقال وليد بلغته العامية لـ«الشرق الأوسط»: «يوميا بأجي هان (هنا) على الرمال مشان (لكي) أبيع البضاعة اللي بجيبها أبوي، بدنا نعيش وما فيه حل ثاني لنصرف على البيت ونوفر أكلنا».
أما عن تأثير ذلك على دراسته، فقال إنه في نهاية الأمر لا يفكر أبدا بترك الدراسة، بل يجتهد ويخصص لها ساعتين يوميا بعد عودته من العمل، لكن في وقت متأخر جدا. وأضاف: «وقت الصبح عم روح على المدرسة مشان أتعلم، وبعد ما يخلص الدوام برجع ع البيت، بترك شنطة المدرسة وبروح آكل خبزة صغيرة فيها زعتر أو جبنة، بعدين باخذ شنطة البضاعة اللي فيها الدخان والعلكة، وبروح مشي على الرمال مشان أبيعها»، مشيرا إلى أن ما يحققه يوميا من بيعه للبضاعة وحده، من دون شقيقيه الآخرين، يبلغ ما بين 40 إلى 50 شيقلا، أي ما يعادل 13 دولارا، وفي أفضل الأحوال قد يصل إلى نحو 70، أي ما يعادل نحو 18 دولارا.
أما فاضل (16 عاما)، وهو الشقيق الأكبر لوليد، فيعمل مع أصحاب المحال لتوفير البضاعة بسعر التكلفة. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «هذا يضمن لنا سعرا أقل وربحا جيدا ويخلص التجار من بضاعتهم كذلك».
ويشير فاضل إلى أنهم لا يعتمدون فقط على بيع الدخان والعلكة، بل يعملون على بيع ما يمكن توفيره من بضائع مختلفة، حتى أنواع مختلفة من الشوكولاته أو «علب المحارم»، إضافة إلى المشروبات الساخنة، مثل الشاي والقهوة، وغيرها من البضائع الخفيفة التي يمكن حملها والتجوال بها.
وبينما يحلم وليد وشقيقه الأصغر أحمد باستكمال دراستهما وتغيير حياتهما، اضطر فاضل إلى إنهاء دراسته عند الصف الثالث عشر، لعدم قدرته على التوفيق بين العمل والدراسة. وقال فاضل إنه وصل إلى مرحلة أصبح غير قادر فيها على التوفيق بين عمله ودراسته، ففضل مساعدة عائلته. ويخشى فاضل من أن يضطر أشقاؤه إلى اتخاذ القرار نفسه، لكنه يأمل بتغير الأحوال.
ومثل هؤلاء الأطفال ينتشر مئات آخرون في مفترقات قطاع غزة الرئيسية والفرعية كافة، يتنافسون في ما بينهم على تصريف البضاعة التي بحوزتهم، بالإصرار على السائقين والمواطنين بشراء ما يحملونه. ولا تحرك أي جهات مسؤولة في غزة ساكنا من أجل منع هذه الظاهرة أو تطويقها على الأقل.
ولا تنحصر عمالة الأطفال في البيع في شوارع غزة، بل رصدت «الشرق الأوسط» كثيرا منهم يعملون في أعمال شاقة، كقطاع البناء، أو جمع الخردوات والنحاس والبلاستيك، حتى في المناطق الحدودية، ما يشكل خطرا على حياتهم، وكان تعرض بعضهم لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال الإسرائيلي، ما أدى إلى وقوع جرحى.
ويغادر مهند اللهواني (11 عاما) من سكان بلدة بيت لاهيا، شمال قطاع غزة، الذي ترك دراسته منذ أكثر من 3 أعوام، منزل عائلته يوميا، في ساعات الصباح الباكر، ليقترب من الحدود الشمالية الغربية والشرقية من بلدة بيت لاهيا، بحثا عن بعض البلاستيك والنحاس وغيرها، من تلك المواد التي يجمعها ليبيعها لمحال متخصصة في استخدام تلك الخردوات والأدوات، لإصلاحها واستخدامها في أعمالهم المختلفة.
وقال اللهواني لـ«الشرق الأوسط» إنه يكسب يوميا ما يقرب 30 شيقلا فقط، يسلمها إلى والدته التي تعيل عائلة من 5 أطفال هو أوسطهم، إذ يكبره شقيقان يبلغ أحدهما 13 عاما والآخر 15 عاما، وكلاهما يعمل في المهنة عينها، لكن أحدهما ما زال يحاول الحفاظ على الاستمرار في التعليم والدوام يوميا في مدرسته، ومن ثم العمل بعد عودته، ليعيلوا معا عائلتهم، بعد فقدانهم والدهم إثر مرض مفاجئ ألمّ به منذ نحو 8 أعوام.
وتعتمد العائلة على بعض الاحتياجات التي توفرها المؤسسات لهم، لكن وفقا لوالدة الطفل اللهواني فإن ذلك لا يكفيهم للعيش مستورين، وإنهم بحاجة إلى المال لتوفير متطلبات البيت كلها، مشيرةً إلى أنها تضطر إلى إجبار أطفالها على العمل لكي يستطيعوا الاعتماد على أنفسهم لبناء مستقبلهم، وتوفير متطلبات عائلتهم، في ظل حاجتها الماسة إلى المال لتوفير احتياجات المنزل وأفراد عائلتها.
ولا يتوقف هؤلاء الأطفال، على الرغم من تعرضهم لإطلاق النار. وقال الطفل مهند: «كثيرا ما نتعرض لإطلاق نار من قبل جنود الاحتلال على الحدود الشرقية والشمالية، ولحسن الحظ لم أصَب حتى الآن رغم أن أصحابي أصيبوا». وأضاف: «مش راح أوقف حتى لو في خطر اتصاوب لانو احنا لازم نجيب فلوس».
ولا توجد إحصائيات دقيقة لما يمكن تسميته «ظاهرة عمالة الأطفال»، إلا أن إحصائية صدرت عن مركز الإحصاء الفلسطيني في أبريل (نيسان) 2015، أشارت إلى وجود 65 ألف عامل من الفئة العمرية 7 - 14 سنة يعملون في الأراضي الفلسطينية كافة، وأكثر من 102 ألف طفل يعملون دون سن 18 سنة في أعمال مختلفة، بدءًا من الانتشار في الشوارع على المفترقات وصولا إلى الورش والمصانع والمنشآت الاقتصادية المختلفة.
وتشير الإحصائيات إلى أنه في السنوات العشر الأخيرة ازدادت في قطاع غزة «عمالة الأطفال المبكرة»، بسبب تضاعف نسب البطالة والفقر، وعدم قدرة كثير من الآباء على توفير احتياجات عوائلهم بسبب الحصار الإسرائيلي على القطاع وما خلفته آثار الحروب الإسرائيلية المتزايدة.
وقالت جمعية الوداد للتأهيل المجتمعي في غزة إن ظاهرة عمالة الأطفال لمن هم دون سن 15 عاما في غزة، ازدادت معدلاتها خلال الآونة الأخيرة، لتصل إلى أكثر من 48 في المائة. وهذه الأرقام معرضة للزيادة في كل وقت بسبب استمرار الحصار الإسرائيلي وانعدام الآفاق الاقتصادية والسياسية.
وقال مركز المعلومات الوطني إنه يصعب الإحاطة بمدى تفشي هذه الظاهرة بفلسطين، والخروج بإحصائيات دقيقة عن أعداد الأطفال الذين ينخرطون في أعمال تدخل ضمن الأعمال الواجب منع الطفل من خوض غمارها، وذلك لأسباب عدة أهمها، عدم استقرار ظاهرة عمالة الأطفال، ما يجعل حصرها أمرًا صعبًا، نظرًا لانتقال الأطفال من عمل إلى آخر بسهولة وانخراط أغلبية الأطفال في أعمال اقتصادية غير منتظمة، ما يجعل الوصول إليهم أمرًا صعبًا.
ويرى حازم هنية، الحقوقي والباحث القانوني في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، أن تفاقم الأوضاع الاقتصادية، واستمرار الحصار، وارتفاع نسب الفقر والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، كانت نتائج واضحة ومباشرة لبروز «عمالة الأطفال»، مشيرا إلى أنه من خلال مجموعة من الوقائع، جرى تسجيل ازدياد مضطرب في أعداد الأطفال العاملين. وعد هنية تشغيل الأطفال مؤشرا خطرا لا بد من التوقف عنده والتنبه لخطورته، مشددا على ضرورة وضع حلول واضحة لمنع تفاقم هذه الحالة، وتقديم علاج جذري لإنهاء معاناة الأطفال العاملين في الشوارع.
وقال هنية لـ«الشرق الأوسط» إن جزءا من الأطفال العاملين يجبرون على ذلك تحت ضغط وطلب عوائلهم، مبينا أن ذلك ناتج من واقع اجتماعي صعب تعيشه تلك العائلات، فتلجأ لتشغيل أطفالها لكسب مريح للمال، باستدرار عاطفة الناس تجاههم بحكم أن من يعمل طفل وليس شابا. ولفت إلى أنه لم يظهر من خلال التحقيقات الميدانية التي تجريها الهيئة، وجود أي ارتباط بين عمالة الأطفال وما يعرف بـ«جنوح الأحداث»، مبينا أن غالبية الأطفال العاملين غير ملتحقين بالمدارس، وأن جزءا آخر يعمل بعد انتهاء الدوام الدراسي.
وأضاف: «كل ذلك مخالف للقانون لما فيه انتهاك لخصوصيات الأطفال، وسيكون له آثار اجتماعية خطيرة»، داعيا إلى ضرورة توقف المسؤولين والجهات المختصة عند مسؤوليتها، بوضع حلول مناسبة وفورية، والالتزام بالقانون الدولي لحماية حقوق الطفل. لكن في قطاع غزة، لا يوجد قوانين تمنع التسرب من المدارس، ولا قوانين أخرى تمنع عمالة الأطفال أو على الأقل تنظمها.
ويربط مختصون آخرون بين عمالة الأطفال ومستوى التعليم والموقف الاجتماعي منه. وأشارت بيانات مسح القوى العاملة 2012 إلى أن 28.5 في المائة من الأطفال غير الملتحقين بمقاعد الدراسة يعملون. وتبقى فرص التحصيل المادي لهؤلاء الأطفال متدنية، فيدوم الفقر ويتحول إلى دائرة مفرغة. وقد يضطر أولاد هؤلاء الأطفال عندما يكبرون إلى العمل أيضًا، وفي بعض الحالات قد يشترك الأهل والأطفال في اعتبار التعليم مضيعة للوقت، أو قد يضطر الوالدان أحيانا إلى «التضحية» بواحد أو اثنين من أولادهم وتركهم دون تعليم، وإرسالهم إلى العمل للمساهمة في نفقات تعليم إخوتهم.

* بيانات مسح القوى العاملة في فلسطين
56.9 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون لدى أسرهم دون أجر.
95.5 في المائة من بين الإناث يعملن.
54.0 في المائة من بين الذكور يعملون، مقابل 37.4 في المائة يعملون مستخدمين بأجر لدى الغير.
2.6 في المائة من بين الإناث العاملات يعملن لحسابهن.
40.0 في المائة من بين الذكور العاملين 5.6 في المائة يعملون لحسابهم أو أصحاب عمل.

* أنواع العمل والأجور
38.5 في المائة من الأطفال العاملين في فلسطين يعملون في قطاع الزراعة، و42.9 في المائة في الضفة الغربية و12.2 في المائة في قطاع غزة، و30.0 في المائة يعملون في قطاع التجارة والمطاعم والفنادق، و27.9 في المائة في الضفة الغربية، و42.5 في المائة في قطاع غزة. أما العاملون في باقي الأنشطة الاقتصادية الأخرى وتشمل: التعدين، والمحاجر، والصناعة التحويلية، وقطاع البناء والتشييد، والنقل والمواصلات والاتصالات والخدمات والفروع الأخرى، فقد بلغت نسبتهم 31.5 في المائة: 29.2 في المائة في الضفة الغربية، و45.3 في المائة في قطاع غزة.
بلغ معدل الأجر اليومي بالشيقل للأطفال 10 - 17 سنة للعاملين كمستخدمين بأجر 43.1 شيقل، كما بلغ معدل ساعات العمل الأسبوعية للأطفال العاملين 46.0 ساعة عمل أسبوعيا.



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.