سلال القصب.. موروث سوري من أغاني الأهازيج إلى المسلسلات الشامية

نساء يحولنها لقطع فنية للعرض وحتى للاستخدام كمصدر مادي لهن

صورة من التراث لبائع سلال بسوق دمشقي و سلال القصب في موقع تصوير مسلسل تلفزيوني تراثي سوري و سلة مزينة
صورة من التراث لبائع سلال بسوق دمشقي و سلال القصب في موقع تصوير مسلسل تلفزيوني تراثي سوري و سلة مزينة
TT

سلال القصب.. موروث سوري من أغاني الأهازيج إلى المسلسلات الشامية

صورة من التراث لبائع سلال بسوق دمشقي و سلال القصب في موقع تصوير مسلسل تلفزيوني تراثي سوري و سلة مزينة
صورة من التراث لبائع سلال بسوق دمشقي و سلال القصب في موقع تصوير مسلسل تلفزيوني تراثي سوري و سلة مزينة

تعد صناعة سلال القصب من أقدم الصناعات اليدوية التي عرفتها المناطق الريفية السورية وخصوصا في قرى غوطتي دمشق الشرقية والغربية، حيث يستخدمها المزارعون لتعبئة منتجاتهم الزراعية وبيعها في أسواق دمشق أو لوضع الفاكهة الموسمية كالعنب والتين والتي يقطفونها في هذه السلال حتى يستهلكوها فيما بعد.
ولقد أصيبت هذه الصناعة التقليدية الريفية بانتكاستين الأولى قبل نصف قرن مع انتشار السلال البلاستيكية والمعدنية المصنعة آليًا فانخفض عدد العاملين فيها كثيرًا، والانتكاسة الثانية في السنوات الخمس الأخيرة مع بدء الأزمة والحرب السورية ووقوع معظم أماكن تصنيعها في مناطق الاشتباكات.
ولكن كيف يتم تصنيع سلال القصب؟ يشرح أبو طارق جليلاتي - وهو بائع للأدوات التراثية في سوق السنجقدار قرب ساحة المرجة الشهيرة بدمشق قائلاً لـ«الشرق الأوسط»، من المعروف أن سلال القصب تحتاج لشدّة بأس وقوة جسدية من الأشخاص الذين يصنعونها بشكل يدوي، حيث يقوم المصنّع للسلال عادة بتأمين القصب والذي يزرع على أطراف الدروب الفاصلة بين المزارع في الأرياف كمصد هوائي وحماية للبساتين وللأشخاص والحيوانات، ولذلك للقصب أكثر من استخدام ويتم حصاده مرّة في العام، وهناك أنواع من القصب تظهر على أكتاف الأنهار وقد انتشرت في دمشق خاصة في منطقة دمّر غربي العاصمة السورية على كتف نهر بردى وفي منطقة الشادروان هناك والتي تسمى منطقة القصب، بعد حصاد القصب من جذوره بواسطة آلة حادة (منجل خاص) يقوم المزارع بوضعها في رزم سمك الواحدة منها ما بين 30 إلى 40 سم ولتنطلق بعد ذلك مراحل التصنيع وهي مراحل صعبة ومجهدة، حيث لو نظرت ليد المصنّع لتراها خشنة؛ كالمبرد بسبب تعامله مع القصب والذي يسبب تجريحًا لليدين، وتبدأ مراحل التصنيع بنقع القصبات في الماء حتى تطرى قليلاً بعد ذلك يتم تنظيفها ومن ثم يحزّ القصبة الواحدة الأسطوانية إلى أربعة أقسام ويبدأ بوصلها مع بعضها البعض من الأسفل، حيث يصمم القاعدة ومن ثم يتجه نحو الأعلى، وكأنه يغزل صوف ويلف القصبات على بعضها البعض ويحبكها بشكل متقن.
المهنة أصيبت بانتكاستين فانقرضت في دمشق تقريبًا وتكاد تنقرض في المحافظات الأخرى: الانتكاسة الأولى حصلت في النصف الأخير من القرن المنصرم، فبعد أن كانت قبل نصف قرن تشهد أسواق دمشق بيع أكثر من ألف سلة قصب يوميًا والتي كانت الوسيلة الوحيدة لتعبئة الخضار والفاكهة قبل انتشار سحاحير الخشب والبلاستيك والفلين الأبيض، وقد كانت إحدى مناطق الصالحية شمال غربي العاصمة السورية في سفوح جبل قاسيون تشتهر بوجود عشرات الأشخاص المصنعين لسلال القصب في منازلهم أو في ورشات بسيطة، حيث يستخدمون غرفة واحدة فقط للتصنيع، وقد توفي آخر مصنعي سلال القصب في دمشق قبل سبع سنوات لتنتهي معه المهنة، ولكن ظلّت هذه الحرفة اليدوية حيّة في بعض قرى الريف الدمشقي وفي محافظة إدلب شمال غربي سوريا رغم عائداتها المادية الضئيلة والجهد الكبير المبذول في صناعتها، حيث يوجد هناك عدد من الأشخاص يعملون بشكل يدوي على تصنيع سلال القصب ويسوقونها للعاصمة وللمدن السورية الأخرى، وقد حصلت الانتكاسة الثانية لها مع بدء الأزمة والحرب السورية، حيث اضطر معظم من تبقى من مصنعي سلال القصب للتخلي عنها بسبب صعوبة الحصول على نبات القصب ووجود مناطقهم في مواقع اشتباكات ومعارك وصعوبة التنقل على الطرق العامة.
وفي السنوات الأخيرة لوحظ أنّ كثيرا من النساء السوريات عملن على تصنيع السلال الملونة بشكل يدوي وتحويلها لقطع فنية جميلة تباع في المعارض وفي المحلات للعرض في المنازل والفنادق أو حتى للاستخدام المنزلي ولكن بشكل محدود، حيث أقبلن عليها من منطلق تأمين مردود مادي لهن ولو أنه محدود إلا أنه يساعدهن على العيش في ظل الظروف السورية الصعبة.
ولمكانة هذه الصناعة اليدوية لدى الريفيين السوريين فقد دخلت في مشاهد المسلسلات التلفزيونية البيئية الشامية والتراثية وفي الموروث الشعبي الشفوي من خلال المأثورات الشعبية والأهازيج والأغاني، وفي هذا المجال يوثق الباحث التراثي السوري (محمد خالد رمضان) في كتبه وأبحاثه الأمثال الشعبية التي تتناول سلال القصب ومنها: (عبّي الخضرة بالسلة، ولا تمرق فوق الجلة) أي على المزارع أن لا يمر بمكان فيه أوساخ وقذرات؛ لئلا تتأثر الخضراوات الموجودة في سلته. وهناك أمثال أخرى ومنها: (التين للسلة والسل للغلة.. سلة وسلال والنوم حلاّل.. اللي بيحط ألمي بالسلة بيكون فيه علة.. طليلك طلّة وأنتِ حاملة السلة.. ما أحلى السلة بكوعها الله يحيي ربوعها.. يا سلة شو معبية زبيب وجوز مخبية.. ومثل جميل آخر يقول: (يا سلة الحلوين خاصة بتشارين): ويُقْصَدْ به أن فتيات القرية الجميلات يحملن السلال في شهري تشرين أول وتشرين ثان وهي ملأى بالثمار والخضراوات، حيث في هذين الشهرين يكثر إنتاج ثمار التين والجوز والزيتون وغيرها في الريف السوري. وهناك أغان شعبية في حرفة السلال ومنها أغنية على نمط المُعَنَّى تقول: ياخيمة البِتَلْ ملياني سلل ما خلق ربي فيك ولا علل يا سلة العنبات والتين الحلو يا سلة الآهات اللي فيك الأمل.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».