* من الأفلام القصيرة التي مرّت مؤخرًا على بعض الشاشات العالمية واحد بعنوان «1001 اختراع واختراع وعالم ابن الهيثم» للمخرج أحمد سليم ومن إنتاج بريطاني في مدة لا تزيد على 14 دقيقة.
إلى جانب أن الفيلم أقصر من أن يقدّم المخترع العربي ابن الهيثم إلى جمهور اليوم، ناهيك أن يفيه حقه من التعريف، فإن الفيلم لا يجيد ما يتولى قوله إلا بحدود ضئيلة. بداية العنوان مسحوب من «ألف ليلة وليلة» وليس من عدد اختراعات ابن الهيثم، وذلك تماشيا مع العنوان الشهير لـ«ألف ليلة وليلة».
لكن الأهم الكامن في المعالجة ذاتها. الحكاية تبدأ بفتاة صغيرة (ماسي شيبينغ) تشكو لجدّها (عمر الشريف، آخر دور) من دروسها الصعبة. هذا هو المفتاح الذي سيأخذها ونحن إلى الجزء الكرتوني، فهو فيلم جامع، على قصره، بين الحي والرسوم، ليحكي لنا (بصوت عمر الشريف) كيف تصدّى ابن الهيثم لمشروع إقامة سد على النيل وعندما عجز عنه تم سجنه في زنزانة اكتشف فيها مصدر الضوء. ثم كيف خرج من السجن وانصرف على تطوير نظرية الضوء لما يمكن اعتباره الابتكار الأول للكاميرا. المشكلة أن كل شيء، حيًا أو مرسومًا، مصنوع ببداهة مقلقة وبأسلوب سرد تقليدي للغاية وأن الجمع بين التصوير الحي (الحكاية الحاضرة) والرسوم المتحركة (حكاية ابن الهيثم) تطبيقي وليس ملهمًا. مستوى الرسم بدائي رغم أنه منفذ على الكومبيوتر.
* كتاب المرئيات
على ذلك، فإن تاريخ ابن الهيثم وعلاقة اكتشافه مصدر الضوء وتطويره لنظريته وصولاً إلى إنجاز صندوق بزجاج يعكس ذلك الضوء، ما هو إلا تمهيد للكاميرا الفوتوغرافية الثابتة لاحقًا التي كانت بدورها تمهيدًا لاختراع السينما. والمؤسف أنه وسط مشاغل اليوم يغيب عن البال أن ابن الهيثم هو مخترع الصورة ومؤسس الكاميرا ومن فهم الحركة الفيزيائية والعلمية في سبيل استخدام الشعاع لتسجيل صورة.
وكان القرن الثامن بعد الميلاد شهد المزيد من البحث في فلسفة الضوء ومفهومه وحقيقة انعكاساته وذلك عبر علماء وفلاسفة عرب وصينيين. التاريخ الذي وصلنا يحفظ للكيميائي العربي جابر بن حيّان أنه درس علم الضوء وانعكاساته وخطوطه وهو لا يزال في التاسعة والعشرين من عمره. لكنه آثر البقاء في حقل الكيمياء. أما علم البصريات الناتجة عن النور وأسبابه فاكتنزه الحسن بن الهيثم وتوسع فيه صوب اهتمامات علمية كثيرة كان من بينها علم البصريات وكل ما ارتبط بها من عناصر أخرى. إنه من درس ابن الهيثم في البصرة ثم مارس علم التشريح والفلكيات والهندسة، وكانت له اهتمامات قصوى بعلوم الهندسة والفيزياء، وبل هناك من يعتبره اهتم بالفلسفة وعلم النفس (ميدان غير مسبوق آنذاك ما جعل بعض المؤرخين يعتبره أول من تعامل مع علم النفس التطبيقي). وهو كان دارسًا ومتابعًا حثيثًا في زمن كان منفتحًا على التجديد والإبداع (في الألف الميلادي توصّل العرب إلى دخول المجمع الألماني للعلوم الفيزيائية) والمتّفق عليه أنه تأثّر وأثر. فهو درس أرسطوطاليس وأثّرت علومه في كلوفيس على حد سواء.
وضع ابن الهيثم كتابًا بعنوان «كتاب المرئيات»، الذي يعكس اهتمامه وإنجازاته في هذا الصدد. وقد اعتبره الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر «أبا المرئيات الحديثة»، بسبب كتابه الذي تُرجم إلى أكثر من لغة أجنبية. فيه قدّم شرحًا لكيفية عمل العين البشرية وقارنها بما يمكن للعدسات والمرايا والانعكاسات المرئية الأخرى الناتجة عن الأشعة الشمسية أن تفعله وكيف يمكن استغلالها لإعادة توريدها.
* رسالة في الضوء
أكثر من ذلك، ملاحظات ابن الهيثم وتجاربه على الضوء وحجمه وخطوطه المستقيمة كانت عاملاً مهمّا ساعده على اختبار القدرة على اختزان الضوء وإعادة استخدامه ودراسة انعكاساته. من نتائج هذه الدراسة إنجاز ما عُرف لاحقًا بـ «الكاميرا المظلمة»، وهو مفهوم جديد رغم أن الكَنْدي (الذي وُلد قبل أكثر من مائة عام على ولادة ابن الهيثم) والفيلسوف الصيني موتزي واليوناني أرسطوطاليس تحدّثوا عن الضوء قبله. أحد من هؤلاء لم يسع، كما يبدو لنا اليوم، إلى استثمار ملاحظاته المبدئية عن نحو الصنع الأول لما نعرفه اليوم (ومنذ أكثر من قرن ونصف) بالكاميرا الفوتوغرافية.
بذلك، كان ابن الهيثم، كما يجمع العلماء، أول من نقل صورة كاملة من خارج «الكاميرا المظلمة» التي كانت عبارة عن صندوق بلا نور باستثناء الضوء الداخل إليه من ثقب فيه، وعكسها كما هي على ما نعرّفه اليوم بـالشاشة. بعد كتابه ذاك، الذي أورد فيه ملاحظاته وعلومه، وضع ملحقًا بعنوان «رسالة في الضوء» تضمّنـت المزيد من بلورة أفكاره حول هذا الموضوع. بل إن العنوان وحده يوحي بأنه أدرك أن الصورة تستطيع نقل رسالة كما الكلمة. الفارق هو أن الأولى بصرية والثانية مكتوبة٠
إيجاد الكاميرا الفوتوغرافية التي نعرفها بمبادئها المتداولة قبل الدجيتال (ولو أن هناك خصائص مشتركة بين كاميرا الفيلم وكاميرا الدجيتال) تأخر إلى العقدين الأول والثاني من القرن التاسع عشر. ومفهومها أدّى إلى التفكير إذا ما كان من الممكن تحريك هذه الصورة الجامدة التي كانت تلتقطها. بمعنى آخر، ما يجعل ابن الهيثم أبا التصوير الفوتوغرافي يجعله أيضًا أبا السينما.
بكل تأكيد، لا ابن الهيثم ولا سواه من الذين سبقوه أو لحقوا به من مفكّرين وعلماء حتى تاريخ العمل السينمائي الأول كان يقصد صنع سينما، لكن صنع السينما توالى منذ تلك اللحظة عبر كل تلك الأدوات والأجهزة التي تمّ العمل عليها بهدف استغلال الضوء والظلال وصنع بعد جديد منهما.
تاريخ ابن الهيثم في فيلم قصير لا يفيه حقه
المخترع العربي الذي وضع أسس التصوير
تاريخ ابن الهيثم في فيلم قصير لا يفيه حقه
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة