مولانا الأخطبوط «بول»!

مولانا الأخطبوط «بول»!
TT

مولانا الأخطبوط «بول»!

مولانا الأخطبوط «بول»!

في نهائيات كأس العالم 2010، كانت أعين الناس مصوّبة نحو الأخطبوط «بول» لحسم التوقعات بشأن الفريق الذي سيحصد الفوز بكأس المونديال. ولم يخيّب «بول» آمال الجمهور فاختار إسبانيا، التي فازت على هولندا وتُوجّت فعلاً بطلة العالم، على حساب ألمانيا. وللعلم فقد كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تصل فيها إسبانيا للمباراة النهائية لكأس العالم.لسوء الحظّ فقد نفق الأخطبوط «بول» بعد نحو ثلاثة أشهر من تلك المباراة، ولم يتسنًّ للألمان وضعه في «المقلاة» مع الزيت والصلصة. إمعانًا في الغضب و«الإيمان معًا» أن ذلك المسكين كان له الدور الحاسم في خسارتهم الكروية. هناك من يفتش عن الأخطبوط «بول» بين الكتب القديمة لكي يتخلص من عبء الحاضر. وهناك من يريد أن يريح نفسه من عناء البحث والتفكير ودراسة الأسباب وتحليلها والوصول إلى نتائج منطقية، هذه عملية ذهنية متعبة، لا يستسيغها العقل الكسول، الذي يفّتش عن تحليلات خرافية للمعلقين الفضائيين، لكي يريح نفسه ويستريح. وهناك من يفتش في الكتب عن أحاديث آخر الزمان وأخبار الملاحم والفتن لكي يسقطها «دون علم» على الواقع، وبحسب هؤلاء فإن العالم انتهى فعلاً منذ عشرات السنين. وحان موعد القيامة منذ عقود، ودائما الطريق إلى القيامة برأيهم هو طريق محفوف بالدمار والموت والهلاك وإبادة الناس وتدمير البلدان. هم يتحدثون بلسانهم وبما يعقلون وبما يحملون من «ضجر» من هذا العالم، وليس باسم الخالق الرحمن الرحيم. اليوم تعود هذه النغمة بشكل أقوى، مع ارتفاع موجة الصراع المتعلق بالحرب في سوريا والعراق والحرب على الإرهاب. فليس رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف، وحده الذي تنبأ بحرب كونية ثالثة على أعتاب دمشق الجريحة. بل هناك موجة من التنبؤات تتحدث عن قرب يوم القيامة، وحلول الساعة، ويذكرون علامات بينها: رجفة في الشام، وخسف في حرستا ودمشق، وخسف في بغداد، وآخر في البصرة، وخسف في البيداء (؟)، وعودة الروم إلى سوريا، وظهور المنادي فوق أسوار دمشق.. وظهور الأبقع والأصهب والسفياني.. وكلها علامات تؤكد برأيهم اقتراب اليوم الموعود. طبعًا، هنا لا نناقش نصوصًا دينية، بل القراءات التعسفية المبتسرة لتلك النصوص، وتطبيقها على الواقع. ولا يمكن أن نغفل أن هناك تنظيمات ودعاة يريدون هذه القراءات لكي يحشد كلٌ في موقفه لمعركة مقدسة مقبلة. والأمر لا يتعلق بالعرب والمسلمين وحدهم، فثمة كاتب أميركي هو «مايكل دي فورتنر» كتب أخيرًا أن الإنجيل تنبأ بظهور «داعش»، كما كشف دور الجهاديين الإسلاميين في إشعال الحرب العالمية الثالثة التي ستدمر ثلث سكان الأرض، أما مكان المعركة فأوضحها الكتاب المقدس (كما يقول) بأنها تقع «عند نهر الفرات العظيم».
الغريب أنه في ظل الألفية الثالثة، هناك تراجع لتكوين العقل العلمي الذي لا يقبل الوصول إلى النتائج من دون المرور بالأسباب والمقدمات، مع نزوع نحو العقل الخرافي الذي لا يؤمن بالأسباب والنتائج، بل بالسحر والشعوذة والكرامات.
سألت المفكر السعودي الأستاذ إبراهيم البليهي: كيف يقبل العقل النزوع نحو قصص الفتن والملاحم وأخبار آخر الزمان..؟، فقال: لا يصح الحديث عن العقل بشكل مطلق، فكل ثقافة تصنع عقلاً يختلف عن عقول الثقافات الأخرى. فالمعيار الحقيقي هو التحقق العلمي؛ فالعقل - أصلا - يتبرمج تلقائيا بما لا يتفق مع الحقائق ولا مع العلم ولا مع مقتضيات التحقق، حتى يتحرر من التلقائية، وهذا التحرر نادر ولا يحصل تلقائيًا، وكل العقول تتشكل تلقائيا بما لم يخضع للتمحيص والتحقق، ويبقى كذلك غالبًا. وبرأي البليهي: فإن المعيار لعموم الناس هو الصورة الذهنية مهما كانت هذه الصورة مضادة للواقع وللحقيقة. فالإنسان بتكوينه الذهني التلقائي يجعل تصوراته عن الواقع هي المعيار. ولا يوجد عقل مطلق، بل تتعدد أنماط العقل بتعدد الثقافات. والعقل ليس باحثا عن الحقيقة، بل هو بطبيعة تكوينه منحاز كليًا.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟