في نهائيات كأس العالم 2010، كانت أعين الناس مصوّبة نحو الأخطبوط «بول» لحسم التوقعات بشأن الفريق الذي سيحصد الفوز بكأس المونديال. ولم يخيّب «بول» آمال الجمهور فاختار إسبانيا، التي فازت على هولندا وتُوجّت فعلاً بطلة العالم، على حساب ألمانيا. وللعلم فقد كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تصل فيها إسبانيا للمباراة النهائية لكأس العالم.لسوء الحظّ فقد نفق الأخطبوط «بول» بعد نحو ثلاثة أشهر من تلك المباراة، ولم يتسنًّ للألمان وضعه في «المقلاة» مع الزيت والصلصة. إمعانًا في الغضب و«الإيمان معًا» أن ذلك المسكين كان له الدور الحاسم في خسارتهم الكروية. هناك من يفتش عن الأخطبوط «بول» بين الكتب القديمة لكي يتخلص من عبء الحاضر. وهناك من يريد أن يريح نفسه من عناء البحث والتفكير ودراسة الأسباب وتحليلها والوصول إلى نتائج منطقية، هذه عملية ذهنية متعبة، لا يستسيغها العقل الكسول، الذي يفّتش عن تحليلات خرافية للمعلقين الفضائيين، لكي يريح نفسه ويستريح. وهناك من يفتش في الكتب عن أحاديث آخر الزمان وأخبار الملاحم والفتن لكي يسقطها «دون علم» على الواقع، وبحسب هؤلاء فإن العالم انتهى فعلاً منذ عشرات السنين. وحان موعد القيامة منذ عقود، ودائما الطريق إلى القيامة برأيهم هو طريق محفوف بالدمار والموت والهلاك وإبادة الناس وتدمير البلدان. هم يتحدثون بلسانهم وبما يعقلون وبما يحملون من «ضجر» من هذا العالم، وليس باسم الخالق الرحمن الرحيم. اليوم تعود هذه النغمة بشكل أقوى، مع ارتفاع موجة الصراع المتعلق بالحرب في سوريا والعراق والحرب على الإرهاب. فليس رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف، وحده الذي تنبأ بحرب كونية ثالثة على أعتاب دمشق الجريحة. بل هناك موجة من التنبؤات تتحدث عن قرب يوم القيامة، وحلول الساعة، ويذكرون علامات بينها: رجفة في الشام، وخسف في حرستا ودمشق، وخسف في بغداد، وآخر في البصرة، وخسف في البيداء (؟)، وعودة الروم إلى سوريا، وظهور المنادي فوق أسوار دمشق.. وظهور الأبقع والأصهب والسفياني.. وكلها علامات تؤكد برأيهم اقتراب اليوم الموعود. طبعًا، هنا لا نناقش نصوصًا دينية، بل القراءات التعسفية المبتسرة لتلك النصوص، وتطبيقها على الواقع. ولا يمكن أن نغفل أن هناك تنظيمات ودعاة يريدون هذه القراءات لكي يحشد كلٌ في موقفه لمعركة مقدسة مقبلة. والأمر لا يتعلق بالعرب والمسلمين وحدهم، فثمة كاتب أميركي هو «مايكل دي فورتنر» كتب أخيرًا أن الإنجيل تنبأ بظهور «داعش»، كما كشف دور الجهاديين الإسلاميين في إشعال الحرب العالمية الثالثة التي ستدمر ثلث سكان الأرض، أما مكان المعركة فأوضحها الكتاب المقدس (كما يقول) بأنها تقع «عند نهر الفرات العظيم».
الغريب أنه في ظل الألفية الثالثة، هناك تراجع لتكوين العقل العلمي الذي لا يقبل الوصول إلى النتائج من دون المرور بالأسباب والمقدمات، مع نزوع نحو العقل الخرافي الذي لا يؤمن بالأسباب والنتائج، بل بالسحر والشعوذة والكرامات.
سألت المفكر السعودي الأستاذ إبراهيم البليهي: كيف يقبل العقل النزوع نحو قصص الفتن والملاحم وأخبار آخر الزمان..؟، فقال: لا يصح الحديث عن العقل بشكل مطلق، فكل ثقافة تصنع عقلاً يختلف عن عقول الثقافات الأخرى. فالمعيار الحقيقي هو التحقق العلمي؛ فالعقل - أصلا - يتبرمج تلقائيا بما لا يتفق مع الحقائق ولا مع العلم ولا مع مقتضيات التحقق، حتى يتحرر من التلقائية، وهذا التحرر نادر ولا يحصل تلقائيًا، وكل العقول تتشكل تلقائيا بما لم يخضع للتمحيص والتحقق، ويبقى كذلك غالبًا. وبرأي البليهي: فإن المعيار لعموم الناس هو الصورة الذهنية مهما كانت هذه الصورة مضادة للواقع وللحقيقة. فالإنسان بتكوينه الذهني التلقائي يجعل تصوراته عن الواقع هي المعيار. ولا يوجد عقل مطلق، بل تتعدد أنماط العقل بتعدد الثقافات. والعقل ليس باحثا عن الحقيقة، بل هو بطبيعة تكوينه منحاز كليًا.
مولانا الأخطبوط «بول»!
مولانا الأخطبوط «بول»!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة