«300: صعود إمبراطورية» يستلهم التاريخ.. ويلوي ذراعه أيضا

معركة أخرى بين الإغريق والفرس

لقطة من فيلم «300: صعود إمبراطورية»
لقطة من فيلم «300: صعود إمبراطورية»
TT

«300: صعود إمبراطورية» يستلهم التاريخ.. ويلوي ذراعه أيضا

لقطة من فيلم «300: صعود إمبراطورية»
لقطة من فيلم «300: صعود إمبراطورية»

لا تزمع هوليوود أن تترك التاريخ وشأنه. فيلم «300: صعود إمبراطورية»، الذي استولى على 137 مليون دولار عالميا (بينها 49 داخل أميركا الشمالية) منذ إطلاقه قبل أسبوع وحتى الآن، ليس آخر الحلقات السينمائية التي نرى فيها هوليوود تمضي إلى حكايات الرومان والإغريق بحثا عن الداكن والمختلف، كما عن المغامرة المبنية على أحداث وقعت لكن بمواد وعناصر بناء فانتازية محضة.
سنة 1908 كان هناك أول اقتباس عن الملحمة الدينية «بن حور» حققها سيدني ألكوت، ثم أقدمت السينما على تقديم أول نسخها من «كوفاديس»، كان فيلما إيطاليا أخرجه إنريكو غواتزانو سنة 1913. وعندما قامت هوليوود بتحقيق ثاني نسخة من «بن حور» سنة 1925 (من إخراج لفرد نبلو وآخرين) كانت السينما العالمية التفتت أيضا إلى وقائع تاريخية أخرى ولو أنها لم تتعامل وأساطير ولا وقائع العالم القديم في حوض البحر المتوسط. البريطانيون سعوا لتقديم نسختهم المبكرة من «هنري الثامن»، التي أخرجها ويليام باركر سنة 1911 والفرنسيون تبعوا ذلك بنسخة مبكرة أيضا من «رتشارد الثالث» أنتجوها كأول فيلم مشترك مع الولايات المتحدة (أخرج الفيلم أندريه كالميت وجيمس كين في عام 1912) ثم كان هناك «جوديث وبثيوليا» و«مولد أمّـة» و«تعصّـب» وكلها لديفيد و. غريفيث كما أنجز سيسيل ب. د ميل نسخته من حكاية جوان دارك (تحت عنوان «جوان المرأة») وكل هذه الأفلام قبل منتصف العشرية الثانية من القرن العشرين.

* أربعة أهداف

* على عكس الأفلام التاريخية التي تدور في أوروبا الغربية والشمالية، بقيت تلك التي تقع ما آسيا وشرقي أوروبا وعلى محيط واسع يشمل أحيانا مصر إلى الجنوب وبلاد الفرس إلى الشرق، أكثر ملاءمة لاستخلاص أعمال تجنح للفانتازيا وتتعامل مباشرة مع خليط من الواقع والكثير من الأساطير. فناك الفتوحات الإغريقية، والأبطال الرومانيين والغزوات الفارسية والبيزنطية والمقدونية والتوسع الاحتلالي الذي ميّـز الكثير من القوميات والأجناس العنصرية في ذلك الحين. وهناك الشخصيات التي بقيت حيّـة لم يضمرها الزمن مثل هركوليس وسبارتاكوس وليونيديس وكليوباترة وأنطونيو وبل بعض الشخصيات التي لا إثبات لوجودها مثل ماشيستي، ذلك البطل المغوار الذي لم يوازيه قوّة، حسب الأساطير إلا هركوليس نفسه.
المدّ القريب من أفلام القتال التاريخية بدأ بـ«غلادياتور» لريدلي سكوت (2000) لكن السلسلة المذكورة لم تتوقّـف في أي عقد من العقود وإن بلغت في الستينات أوجها موزّعة بين أفلام أميركية (مثل «سبارتاكوس» لستانلي كوبريك و«سقوط الإمبراطورية الرومانية» لأنطوني مان، وأفلام إيطالية ركبت الموجة الناجحة حينها ونتج عنها عشرات الأفلام التي سميت بأفلام «السيوف والصنادل» (أو «السيوف والنعال») كون هذا كل ما تسلّـح به المشاة من القوى المتناحرة.
في عام 2006 قام زاك سنايدر بتحقيق فيلمه الشهير «300» وفي باله أربعة أهداف هي اقتباس الرسوم الغرافيكية الناجحة لفرانك ميلر التي طالما ردد إعجابه بها، وتحقيق فيلم ينتمي إلى ذلك النوع «الذي نشأت على حبّـه» كما قال، وتقديم عمل سينمائي يقطر نجاحا كبيرا. الرغبة الرابعة كانت دفع رسالة سياسية مقسّـما العمل بحدّة بين الأخيار الإغريقيين والأشرار الفارسيين وبصحبتهم، كما تصوّر، عرب وأفارقة وهنود.
وهو لم يكترث بالنقد الذي وُجّـه إليه من لدن النقاد الأميركيين كونه أنجز فيلما معاديا لشعب آخر، بل استفاد منه. كذلك لم يكترث لما أجمع عليه غالبية النقاد حول العنف الشديد في تنفيذ مشاهد القتال واستفاد منه أيضا. كلا النقدين صحيح لكن سنايدر (الذي حقق قبل ذلك أفلاما نال فيها من شعوب وأديان من تلك التي اختارها أعداء لأبطاله) وظف الضجّـة حولهما ليخدما الجو العام المناوئ للنظام الإيراني في أميركا والغرب، ورغبة فئة من الجمهور السائد بمشاهدة دماء تسيل ورقاب تقطع وأطراف تبتر على نحو متطرّف. هذه المناوأة ما زالت حاضرة، تبعا لما تقوم به إيران من مناورات سياسية متطرفة في خطورتها في هذا الجزء من العالم وسواه، وهي في بال الفيلم الجديد ولو أنه يتعامل معها هنا على نحو أقل عنصرية مما بدت عليه في الفيلم السابق.

* سهم طويل المدى

* بعد سبع سنوات انتقل زاك سنايدر من كرسي الإخراج إلى كرسي الإنتاج وحده ليقدّم هذا الجزء الثاني «300: صعود إمبراطورية»، وهو ليس جزءا ثانيا بمعنى كامل، فهو ليس تكملة لأحداث الفيلم السابق، بل أحداث دارت خلال الفترة ذاتها التي خاض فيها 300 إسبرطي الحرب ذودا عن مملكتهم اليونانية ضد جحافل الفرس. فبينما كانت المعارك دائرة على ذلك المضيق الساحلي، كان بحر إيجه وجواره مسرح معارك خاضتها مراكب القوّتين غير المتكافئتين. وكما انتصرت القلة الإغريقية في «300» على الغالبية الفارسية، تنتصر القوّة البحرية الإغريقية وهي قليلة العدد والعدة على المراكب الفارسية التي تجاوز عددها ألف مركب وسفينة حربية.
وسنايدر جلب مخرج أفلام دعايات إسرائيلي اسمه نعوم مورو ليتولّـى تنفيذ الفيلم تحت إشرافه هو ما نتج عنه فيلم ملتحم بعناصر الفيلم السابق كلها مع بضع حسنات لم تكن موجودة في الفيلم الأول، لجانب قصور تقني في طبيعته خلا منها الفيلم السابق أيضا.
«300: صعود إمبراطورية» يفتح جبهة جديدة للحكاية تحوم حول قيام الأثيني ثيميستوكليس (كما يؤديه الأسترالي سوليفان ستابلتون) بحشد ما تيسر له من قوات وسفن لصد الحملة البحرية الفارسية التي تقودها امرأة شرسة اسمها أرتيميسيا (إيفا غرين التي بدأت حياتها بالتمثيل تحت إدارة برناردو برتولوتشي في فيلمه «حالمون» سنة 2003)، وهي، كما يفيدنا مخرج الفيلم مورو في فلاشباك، شهدت الويلات منذ أن قام مسلّـحون يونانيون باغتصاب أمها وقتلها ووالدها وإخوتها أمام عينيها وهي صغيرة وبقيت أسيرة لدى مختطفيها يداومون الاعتداء عليها حتى قاموا بإلقائها في بعض الطرق ليلتقطها الملك الفارسي داريوش (إيغال ناوور) ويعلّـمها، بنفسه، فنون القتال. بعد دقيقة واحدة تفوّقت عليه.
لكن بداية الفيلم الفعلية تسبق هذا الشطر من المشاهد فبعد لقطات تمهيدية يأتي مصحوبا بتعليق صوتي مصدره الملكة اليونانية غوركو (لينا هيدي) يوجّـه المحارب الأثيني ثيميستوكليس سهما طويل المدى يصيب الملك داريوش في قلبه. في هذا المشهد المبكر بعض ذلك الجنوح في الخيال، فالمسافة بين مطلق السهم ومتلقيه، كما ينبئ الفيلم بصريا على الأقل، تزيد عن كيلومتر على الأقل، لكن المسافة الكبيرة لم تمنع السهم من الوصول إلى هدفه بدقّـة فقط، بل لم تمنع كذلك تحديق كل منهما بالآخر لبعض الوقت قبل أن يقوم ثيميستوكليس بإطلاق سهمه. حين يُـصاب داريوش يتلقاه ابنه إكزرسيز (الممثل البرازيلي رودريغو سانتورو) بين يديه ويحدّق في ثيميستوكليس الذي يبادله النظر.
استكمالا للقصّـة، يخلف إكزرسيز أباه وتؤيده أرتيميسيا التي تبناها داريوش وانقلبت، تبعا للمأساة التي شهدتها صغيرة، إلى عدو لقومها. إكزرسيز يكتشف بحيرة مسحورة يغطس فيها وحين يصعد منها هو رجل وُلد من جديد يمشي كما المومياء المصرية في الأفلام القديمة. لكنه سيحتل دورا ثانويا (حتى الجزء الثالث المقبل) إذ أن البطولة موزعة بين المقاتل الإغريقي ثيميستوكليس وقائدة الأسطول البحري أرتيميسيا. في الموقعة الأولى (وهذا ثابت في التاريخ) تمكّـنت البحرية اليونانية بقيادة ثيميستوكليس من إغراق ثلث مراكب الأسطول الفارسي الذي تألّـف من نحو 1200 سفينة (ولو أن الفيلم يتحدّث عن ثلاثة آلاف سفينة) وتكفلت عاصفة بحرية هوجاء بإغراق المزيد. لكن الموقعة الثانية (مما نراه على الشاشة على الأقل) كانت الغلبة فيها للبحرية الفارسية مما وضع ثيميستوكليس والمشاهدين أيضا أمام حتمية جولة أخيرة سينتصر فيها الإغريق.

* وحشية متبادلة

* بقدر ما يستوحي الفيلم من التاريخ، بقدر ما يستخدم حقّـه في لي ذراع الأحداث رغبة في تجسيد البطولة وإثارة المشاهد بصريا وحسيّا. المشكلة أن الفيلم لا يكتفي بلي ذراع الحقيقة بل بكسرها. يخوض ثيميستوكليس المعركة غير المتكافئة ويوصي رجاله: «مقدّمة السفن الفارسية قويّـة. اضربوها في الوسط». وهكذا كان. أرتيميسيا شهدت (لا تنس أن عيون الجميع ترى عن بعد كيلومترات) الموقعة رغم اعتراف الفيلم بالعواصف الهوجاء كما بسحاب داكن غطّى المكان. وهي انتقمت ولو من بعد حين، ففي الموقعة الثانية التي خسر فيها الإغريق معظم سفنهم تطلق ثلاثة سهام باتجاه أحد معاوني ثيميستوكليس، لكنها تطلقها جميعا كلها بتصويب أفقي. رغم ذلك ستقع على جسد المعاون هاوية من فوق. ليس فقط أن الأسهم لديها عيون ترى فيها ومحركات ذاتية طويلة الأمد بل يبدو أنها تستطيع أن ترتفع وهي ما زالت طائرة لكي تحط من فوق رغم أنها أطلقت باتجاه مسطّـح.
المعركة الأخيرة، تأتي بعد طن من الكلمات موزعة في خطب القائد ثيميستوكليس وفيها يلتقي هذا بأرتيميسيا للمرة الثانية (الأولى حين دعته للحديث في سلام محتمل وارتدت له زي السهرة الذي ينحسر عن صدرها) ويتلاحم معها في معركة أريد لها أن تكون، بتعريف المتحمّـسين، رهيبة. هذا في الوقت الذي كان الرجال من الجانبين يخوضان القتال. والقتال بالسيوف في هذا الفيلم لا يتطلّـب مهارة. المحارب له ضربتين في المتوسط. الأولى يهوي بها على سيف عدوّه والثانية على أي جزء من جسده. انتهى الأمر.
سياسيا، ما زال الفرس أعداء وبعضهم يرتدي الزي العربي. ولو بحثنا لوجدنا أن عدم الإلمام بتصاميم الملابس تبعا للحقائق هو الطاغي هنا. فالعباءات والعُـقل ذات اللون الأسود لم تكن منتشرة بين الفرس آنذاك لكن هذا ما يجعلهم مميزين أمام أعين المشاهدين ليفرقوا بين الأبطال والأشرار. إذا ما كان هذا مقبولا من ناحية بصرية بحتة، فإن الجديد هو نوع من الحياد حين يأتي الأمر إلى فعل القتل. الفيلم شرس كمقاتـليه جميعا وهو لا يزال يؤمن بالإثارة الحسيّـة فيلطخ الشاشة دما ويقطع الأجساد ويبقر البطون كما يحلو له. لكن القتل المصوّر هنا متبادل كذلك وحشيّـة المقاتلين من الطرفين.

* ترقّـب

* البعد الذي لم يتغيّـر كثيرا عن الفيلم السابق هو الميل للإعجاب بالقوّة المفرطة وبمجتمع لا يمكن له القبول بضعفاء بينهم. هذا كان مبدأ النازيين أيضا، وهو ما ورد في الفيلم السابق ويرد هناك مثال في مشهد يعجب فيه بطل الفيلم بتمارين قتال في معسكر إسبرطي حيث يتجمّـع مقاتلون حول محارب ويوسعونه ضربا مبرحا وركلا كما يسببون له جروحا واضحة وكل ذلك في سياق التدريب. البعد الماثل هو أنه ليس للضعفاء خبز في هذا المجتمع المعتد بنفسه والذي ينقله المشهد إلينا باعتزاز مماثل.
تكاد بعض اللحظات أن تتميّـز (مشهد لقاء ثيميستوكليس بأرتيميسيا) رغم أنها مصنوعة ومتكلّـفة كالفيلم بأسره. ما يمنعها من ذلك أن المعالجة بأسرها ميكانيكية ولا تكفي تلك اللحظات لكي تمنح الفيلم أي توازن. الفيلم عبارة عن كتل متراصّـة من خدع الدجيتال كما الفيلم السابق. القمر يبدو مثل جبل هيمالايا أو كما لو أنه نزل من السماء وحط على مقربة. إيقاف المشهد الدائر للحظة بتفعيلة غرافيكية بسيطة، لإبراز يد يتم قطعها أو كيس من الدم ينفجر على الشاشة عادة ما يتكرر. ولا بد أن فناني الكومبيوتر كانوا يفكّـرون بالأسماك عندما صمموا شرر النار وهي تسبح في الفضاء عابرة الشاشة في كل الاتجاهات وبأحجام أكبر من الواقع.
طبعا كل ما نراه من محيط للمشاهد مصطنع. مقدّمة المشاهد فقط لبعض البشر والباقي من نتاج الكومبيوتر غرافيكس. في الفيلم السابق هذه الناحية كانت مشغولة أفضل. كذلك كان تمثيل جيرارد باتلر في دور قائد الإسبرطة ليوناديس أفضل مما أدّاه ستابلتون هنا.
إذ يلتقي «300: صعود إمبراطورية» مع «300» في المنهج والأولويات، يختلف في أن للمرأة وجودا أقوى من السابق. ذلك الدور الممنوح لأرتيميسيا والآخر للملكة غورغو (لينا هيدي التي نسمع صوتها معلّـقة ولها حضور ولو قصير بصريا) هما كل هذا الحضور عددا، لكن الشخصيات أقوى والتنويعة القتالية في هذا الصدد مفيدة كونها بين رجل وامرأة وليس بين رجلين فقط.
الجمهور أقبل على هذا الفيلم كما بدأنا القول. لكن ذلك لا يؤكد بعد مدى نجاح الفيلم على نحو كامل. أولا لأن سعر التذكرة للفيلم ذي الأبعاد الثلاثة أعلى مما كان عليه سعر تذكرة فيلم «300» الذي عُرض بالشاشة المسطّحة وحدها، وثانيا لأن فيلم سنايدر السابق حقق في افتتاحه قرابة 79 مليون دولار داخل أميركا وحدها. بينما الأيام الثلاثة الأولى من هذا الجزء الثاني جمعت 45 مليونا أميركيا علما بأنه عرض على 400 شاشة زيادة على عدد الشاشات التي شهدها «300».
ومع أن الاستعداد جار لتقديم جزء ثالث، إلا أن كل شيء مبني على النتيجة النهائية لهذا العمل. ولا يمكن القول: إن سينما «السيوف والصناديل» الأخيرة حققت رواجا كاسحا يدفع على التفاؤل في السنوات الخمس الأخيرة ومن بين ما سقط بضراوة خلال هذه السنوات «غضب التايتنز» و«أسطورة هيركوليس» و«بومباي».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».