يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

النصيب الأكبر يذهب لـ«داعش» * فرقة أميركية تعثر على عبوات سلاح كيماوي بمنطقة جامع بورقيبة وداخل مجارير مجمع النخلات

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
TT

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): {الشرق الأوسط} ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا

عامل النظافة الليبي، جبريل، البالغ من العمر 52 عاما، هو أول من وقعت عيناه على هذه السيارات الثلاث الغريبة.. غريبة لأن الرجال الخمسة الذين نزلوا منها في غبش الظلام، مثيرون للريبة. يرتدون على رؤوسهم أقنعة واقية من الغازات السامة، ويبدو أن لديهم جرأة كبيرة ولا يخشون أحدا في طرابلس المكدسة بالميليشيات المسلحة.
ومن وراء الضباب، في ساعات الفجر الأولى، قرب مجمع تحت الأرض مخصص لمجارير الصرف الصحي، ويعرف باسم مجمع النخلات، بمنطقة باب الحرية، بدأ جبريل يشير لزملائه الذين كانوا ينقلون أكياس القمامة إلى شاحنة البلدية في الزقاق الخلفي، وأمرهم بإشارات من يديه أن يتوقفوا وأن يلتزموا الصمت، بينما أخذ يتراجع خطوات إلى الوراء حتى اختبأ وراء الزاوية وأخذ يراقب ما يجري.
يبدو على السيارات الثلاث أنها مصفحة ومزودة بإمكانيات تقنية كبيرة. السيارة التي في الوسط لها باب خلفي مفتوح وتبدو من هناك أجهزة وأسلاك مربوطة بلوحة إلكترونية مضيئة. واتضح أن السيارتين الأخريين مخصصتان للحراسة، أو هذا ما فهمه جبريل، وهو يروي ما حدث للمحققين.
أحد الرجال الذين يرتدون الأقنعة الواقية، أتى بعتلة وبدأ مع اثنين آخرين في نزع الباب الإسمنتي الذي يغطي فوهة مجمع المجارير. واتصل عمال النظافة بنقطة أمنية تابعة لمنطقة النخلات، وبعد ساعات استيقظ قادة الميليشيات التي تحكم طرابلس على بلاغات من رجالهم بأن الأميركيين يفتشون في العاصمة عن غاز السارين القاتل.
ومنذ رحيل نظام معمر القذافي في خريف عام 2011، استولت كثير من الميليشيات المتطرفة على مخزون الدولة من غاز السارين الذي يستخدم في الحروب وهو غاز فتاك، مدمر وقاتل، ومحرم دوليا.
ورغم قول الأمم المتحدة في عام 2012 إنها أنهت مشكلة بقايا مخزون الغازات السامة، التي كانت موجودة في منطقة الجفرة في وسط البلاد، بالتعاون مع الحكومة الليبية في ذلك الوقت، إلا أن قادة من النظام الليبي السابق، كشفوا في الأعوام التالية عن وصول المتطرفين إلى بقايا أخرى كانت مخزنة في عدة مناطق متفرقة من البلاد.
وفي جولة أخيرة لـ«الشرق الأوسط» في عدة مناطق في ليبيا، أدلت مصادر أمنية وأخرى مقربة من قادة المتطرفين، بمعلومات عن الأماكن المحتملة لوجود غاز السارين في هذا البلد الصحراوي شاسع المساحة، وقدمت أيضًا تفاصيل عن بعض القيادات التي تمتلك بالفعل براميل تحتوي على غاز السارين في طرابلس، بمن فيهم قيادات في تنظيم داعش، وصفقات بيع وشراء لهذا الغاز، مشيرة إلى أنه، منذ الأيام الأخيرة من الشهر الماضي والأيام الأولى من هذا الشهر، أصبح هناك تنافس محموم بين الجانب الأميركي والجانب الروسي للوصول إلى أماكن غاز السارين في ليبيا.
واقعة عامل النظافة جبريل جرت في منتصف الشهر الحالي. وبعد نحو عشرين دقيقة من إبلاغه عن الرجال المقنعين، وصلت دورية تابعة للبلدية وجاء اثنان من رجال الأمن من نقطة النخلات، ثم جاءت سيارات تابعة لجهاز المخابرات الليبي الذي يدير الأمور في طرابلس، وهو جهاز ضعيف الإمكانيات أمام سطوة قوات الميليشيات في العاصمة. ارتفعت الأصوات، وبدأ الزعيق باللغة الإنجليزية واللغة العربية، بينما كان الباب الإسمنتي الكبير لمجمع المجارير مفتوحًا في الأرض.
وتبين وجود دليلين ليبيين مع العناصر الأميركية، ولكي يثبت هؤلاء صدق ما يتحدثون عنه بشأن مهمتهم والجهات التي تنسق معهم في طرابلس حول موضوع الغاز، قام أحدهم بالاتصال بقيادي ليبي في العاصمة. أيقظه من النوم وتحدث بدوره مع رجال المخابرات. وبعد ساعة ساد الهدوء والتفت عناصر من جهاز المخابرات الليبية، حول الأميركيين وأجهزة رصد غاز السارين التي معهم. نزل اثنان من الأميركيين المقنعين داخل فوهة المجارير، وخرج بأول عبوة من غاز السارين.
ووفقًا لأوراق تحقيقات حول هذا الموضوع ومصادر أمنية في طرابلس، فقد ذكر الأميركيون، وهم يشربون الشاي مع أحد قيادات المخابرات في العاصمة، أن كمية الغاز في العبوات التي عثروا عليها في مجمع مجارير الصرف في منطقة النخلات، كانت كفيلة بالقضاء على المنطقة كلها بمن فيها من سكان. وتبين أيضًا أن جهاز مخابرات طرابلس لم يكن على علم بقصة وجود الفرقة الأميركية المختصة بالبحث عن الغاز السام.
وأمضى الأميركيون نصف ما تبقى من النهار في شرح أهمية ما يقومون به، وأنه لا علاقة لهم بأي ترتيبات أمنية أو سياسية في العاصمة، وليس من مهامهم ملاحقة الشخصيات التي تحوم حولها شبهات التورط في أعمال إرهابية. وقبل أن يغادر مع زملائه لمواصلة البحث عن «أي آثار لأسلحة كيماوية»، قال أحد العناصر الأميركية وهو يضع القناع تحت إبطه: اطمئنوا لكن ابتعدوا عن الموضوع، لأنه خطير، ويحتاج إلى الهدوء في التعامل معه.
وعلى خلاف المعاملات الوحشية التي تقوم بها عناصر الميليشيات ضد الخصوم، تحظى الفرق الأميركية الصغيرة التي وصلت إلى طرابلس خلال الأسابيع الأخيرة، بمعاملة خاصة «واحترام كبير» وهي تنتشر ويزيد عددها بمرور الأيام في عدة مواقع، انطلاقًا من منطقة جنزور ومجمع الفروسية ومنطقة بدر. ويقول أحد القيادات الليبية معلقًا في تهكم «البلد بلدهم».
ويقول قيادي آخر مطلوب القبض عليه من عدة دول أوروبية لاتهامات تخص ضلوعه في منظمة لتهريب المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر المتوسط: «أنام وكأني في واشنطن. كلما سمعت حركة أقول ستأتي القوات وتقبض علي. أقصد طبعًا قوات أميركية». بيد أن الفرقة الأميركية التي عثرت على عبوات السارين قرب منطقة النخلات، تتحرك وهي ملتزمة بما تفعل، على ما يبدو، أي البحث عن الغاز لا أكثر. أو كما أفاد مصدر أمني ليبي: «قالوا لا علاقة لنا بالأشخاص».
بعد ليلتين من الحديث عن الأميركيين، ونياتهم، رن جرس الهاتف تحت الوسادة. ماذا؟ لقد توقفت الفرقة الأميركية أمام جامع بورقيبة الذي يقع في وسط العاصمة. الأجهزة رصدت شيئا ما هناك. وبحسب ما توفر من تفاصيل عن هذه العملية، فقد اكتشفت الفرقة كمية ثانية من غاز السارين من خلال آثار لتسرب للغاز في محطة جامع بورقيبة، لكنهم لم يعثروا على الكمية كلها. عثروا على بعض العبوات، إلا أن المكان يبدو أنه كان يحتوي على عبوات أكثر، وللأسف لم تعد موجودة.
في أحد المعاقل المؤمنة التي يلتقي فيها زعماء الميليشيات في الضاحية الجنوبية من العاصمة، قرب طريق المطار الطويل، أي مطار طرابلس المحترق، دار نقاش بين قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة وزميل له من زعماء جماعة الإخوان المسلمين في المدينة، حول موضوع الأميركيين. الأول يلقب بـ«أبو حازم»، والإخواني الذي يعمل تحت ستار مجموعة سياسية يسمونه «سي الحاج محمد». جرى اللقاء منذ نحو عشرة أيام، أي عقب واقعة الغاز في باب الحرية وجامع بورقيبة.
قال أبو حازم: «توجد تحركات غير طيبة تقوم بها فرقة أميركية في طرابلس، وقيل إن هذه الفرقة اكتشفت غاز السارين وسط طرابلس، وإنها تستهدف قيادات من المؤتمر الوطني (أي البرلمان المنتهية ولايته) والثوار». فرد «سي الحاج»: «سمعت شيئًا مثل هذا، وتواصلت مع علي (شخص غير معروف لكن يبدو أن له اتصالات مع الجانب الأميركي)، وقال إن الأميركيين لديهم معلومات مؤكدة عن أسلحة كيماوية في طرابلس».
وتابع أبو حازم وكأنه يريد أن يدخل الطمأنينة على صاحبه في ليالي طرابلس المشحونة بالتربص والمؤامرات والخوف من المستقبل: «يا حاج لا تقلق.. الفرقة فرقة فنية لاكتشاف الأسلحة، وليس لها أي عمليات موجهة ضد أشخاص بعينهم، كما أن علي (الشخص المجهول المشار إليه) تواصل مع وزارة الدفاع الأميركية، وأكدوا له أن الغاية السلاح الكيماوي وليس الأشخاص. وقالوا له أيضًا إن الروس يريدون التدخل فسبقوهم، فقط ليس إلا».
ومن بين المقابلات التي جرت على عجل في العاصمة الليبية، فإنه توجد مؤشرات على أن بعض قيادات طرابلس تعمل مع الجانب الأميركي في مسألة تعقب غاز السارين وأي غازات حربية كيماوية أخرى، بينما توجد قيادات في منطقة الزنتان، تتواصل مع الجانب الروسي حول نفس الموضوع. الأجواء مشحونة بالغضب فيما يخص من يتواصل مع من في قضية الغاز، ومن يقدم تقارير عن من، ولأي جهة. الأميركان أم الروس. وتتهم قيادات في طرابلس أطرافا في الزنتان بأنها تقدم معلومات للروس تقول فيها إن فلانًا (قائد ميليشيا في طرابلس) جرب إطلاق قذائف من غاز السارين في منطقة صحراوية في الشهور الماضية.
ومع ذلك لم يظهر الروس في طرابلس. وعلى العكس.. زاد عدد الأميركيين. وفي الأسبوع الماضي حطت طائرة أميركية خاصة في مطار امعيتيقة الواقع قرب البحر من الناحية الشرقية من العاصمة، وعلى متنها 18 عنصرا أميركيا. ويقول مصدر أمني ليبي: «نعم.. نزلت بهم طائرة خاصة. أبلغنا بذلك مكتبنا في المطار. الطائرة قادمة بمعدات ومعها غرفة فنية متكاملة وأجهزة كشف متفجرات وإشعاعات. ودخلت هذه المعدات والتي كان معها صناديق خشبية، في مبنى بعيد عن مهبط الطائرات.. (صناديق خشبية بنية اللون مربوطة بشرائط معدنية)».
وفي المقابل يعمل قادة في الميليشيات على نقل الغاز الذي يبدو أنه تحت أيديهم من مكان إلى آخر. وبعض هذه الكميات تعرضت للسرقة، وأخرى للبيع لتنظيم داعش. والمشكلة تكمن في أن الكثير من العبوات بدأت تتآكل بسبب الصدأ، وتشكل خطورة خاصة في عمليات النقل. ومن أبرز الأسماء التي ارتبطت بغاز السارين في منطقتي طرابلس وغريان (غرب العاصمة)، وفقًا للتحقيقات التي تقوم بها أجهزة أمنية تعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، رجل يدعى رشد، من تنظيم «جند الحق» المتشدد، الذي يعرف أيضًا باسم تنظيم «جيل التوحيد».
ويعتقد أنه كان تحت يد رشيد كميات من الغاز الذي يطلق عليه أحيانا، في حديثه مع أعضاء التنظيم اسم «بضاعة الرابطة»، ويقول أحد المحققين إنه قام بنقل كمية بالفعل من غاز السارين الذي يسميه «بضاعة الرابطة» وأرسله إلى تنظيم داعش في سرت، بينما تعرضت كمية أخرى من الغاز، يطلق عليها «بضاعة قطيسة»، للسرقة من مخزن اسمه «الخزان»، ويقع في سوق الخميس بالعاصمة. وجلب رشيد الكمية الأخيرة التي اختفت، من مخزن في منطقة قطيسة التي تقع شمال غريان.
وعلى خلفية إرسال «بضاعة الرابطة» لدواعش سرت، وسرقة «بضاعة قطيسة» في طرابلس، نشبت خلافات بين قيادات من جماعة جند الحق وبعضهم بعضا، وخلافات أخرى بين هذه الجماعة وأطراف في الجماعة الليبية المقاتلة يعتقد أنها هي من سرقت «بضاعة قطيسة» وأعادت بيعها لزعيم «داعش» في غرب ليبيا المعروف باسم المدهوني.
وفي أحد الاجتماعات بدا قيادي في جند الحق يدعى السوكني، ساخطًا على تصرفات رشيد، وبالإضافة إلى توبيخه لتصرفه من رأسه في موضوع غاز السارين، ذكر أيضًا أنه، أي رشيد، أصبح في الشهور الأخيرة متهورا ونفذ أحكاما بالقصاص (الإعدام) بحق «أخوة لنا اتضح فيما بعد أنهم أبرياء».
ويبدو أن السوكني كان قد اتفق مع المدهوني على استخدام غاز السارين (بضاعة الرابطة) لتأمين منطقة تحمل الاسم نفسه (الرابطة) وتقع في الجنوب الأوسط من طرابلس. أما بضاعة قطيسة فقد جرت وقائع عملية سرقتها من مخزن سوق الخميس بطريقة مشبوهة وفيها قدر كبير من التآمر كما اتضح من المناقشات التي حدثت بين أبو حازم ورشد فيما بعد. ويشتبه أبو حازم في أن الحراس الذين كانوا على المخزن هم الذين سرقوه. فالاثنان على أية حال لم يصدقا رواية الحراس، خصوصا أن رشيد كشف لأول مرة لمحدثه أنه كان يخبئ أيضًا، مع عبوات غاز السارين، صندوقا يحوي سبائك ذهبية.
وتقول رواية حراس مخزن سوق الخميس إن لصوصًا في سيارات هجموا عليهم في المخزن وقاموا بتوثيقهم بالحبال، وسرقوا أسلحتهم، ثم أخذوا كل ما هو موجود في المخزن، ومضوا. ووفقًا للتحقيقات المبدئية التي أجرتها قيادات في الجماعة المقاتلة وعناصر من تنظيم جند الحق، في الواقعة، فإن أيا من حراس المخزن لم يصب بأذى «ولا خدش». ثم كيف تركهم اللصوص بهواتفهم المحمولة، دون أن يأخذوها منهم.
وبعد واقعة سرقة الغاز، ظهرت في الأسبوع الماضي صفقة أسلحة جديدة تتضمن غاز السارين موجهة للمدهوني زعيم «داعش»، من قيادي في ميليشيا أبو سليم، يدعى عبد الغني. وكانت كمية الغاز ضمن صفقة جديدة للسلاح يقوم عبد الغني ببيعها للمدهوني. وتقول التحقيقات إن هذه الصفقة التي تعد واحدة من صفقات كثيرة بين الرجلين، تتضمن عشرين صاروخا حراريا وعربتين محملتين بصواريخ غراد وذخيرة و«بضاعة ممتازة»، بالإضافة إلى غاز السارين. ورد عليه القيادي الداعشي قائلا: «نشتريها اليوم، قبل الغد».
تحركات عبوات غاز السارين في طرابلس أثارت حفيظة اثنين من قيادات الإخوان المسلمين في ليبيا، وهما يستعرضان تطورات المراقبة التي تقوم بها طائرات أجنبية في سماء طرابلس ومناطق أخرى من البلاد، خاصة سرت.
وتقول مصادر قريبة من المتطرفين إن القياديين الإخوانيين المشار إليهما، تحدثا في لقاء جرى بينهما منذ نحو أسبوع، عن رصد عمليات نقل للغاز إلى مناطق في غرب طرابلس أيضًا، وأن «الأوضاع ليست طيبة» وأن «هناك أطرافا روسية تجري تحقيقات عن تسرب شحنة من عبوات غاز السارين، إلى سوريا، عبر إحدى دول البحر المتوسط، وأنه جرى أيضًا رصد طائرات أميركية وفرنسية وهي تراقب مواقع لأسلحة للميليشيات في العاصمة. كما تحدثا عن قلق الأمم المتحدة من قضية غاز السارين نفسها.
واعترض محققون مختصون في طرابلس تقارير مرسلة لأحد أطراف جماعة الإخوان في مصراتة، من رجل يعمل في الغرفة الأمنية في العاصمة، قال فيها إن الجهات التي بدأت في تتبع أماكن غاز السارين في طرابلس، تجد صعوبة في تحديد مواقعها، بسبب السرعة في تغيير مخازنها من يوم إلى يوم.
ويبدو أن هذا الرجل كان ضمن فريق نجح في العام الماضي في تحديد أماكن كثير من مواقع تخزين عبوات غاز السارين، لكن لم يلتفت إليها أحد، بحسب قوله، وأضاف موضحًا في التقرير: «جف ريقنا ونحن نحذر، لكن كانوا (في سلطات طرابلس غير المعترف بها دوليا) حين يسمعون اسم غاز السارين لا يتحرك أحد. والآن تغيرت أماكنها ولا نعرف أين هي».
وتضمن التقرير الذي جرى اعتراضه بواسطة الأجهزة الأمنية، قول هذا الرجل للقيادي الإخواني في مصراتة: «تفاصيل قصة غاز السارين موجودة لدى فلان وفلان. وعدد أسماء لقادة ميليشيات تعمل في طرابلس وسرت ومدن أخرى، وهم: رشد، وأبو حازم، والمدهوني، وعبد الغني، ورجل اسمه الميرغني، وقيادي ليبي آخر يلقبونه بـ(أفغاني ترهونة)، وأبو عبيدة». وأضاف: هؤلاء هم رؤوس الغاز، وهم الذين وزعوه في طرابلس والزاوية. وعندهم في مخازنهم.
لكن ومع تنامي الضغوط الدولية للتدخل وكسر شوكة المتطرفين في ليبيا، دبت خلافات بين عدد من الأسماء التي يشتبه بأنها على علم بأماكن تخزين غاز السارين، ووصل الأمر إلى قيام البعض بسرقة ما لدى الآخر من عبوات فتاكة، والتسابق على حيازتها. وفي واقعة من هذه الوقائع، تبين من مصادر أمنية وأخرى على علاقة بنشاط المتطرفين، أنها جرت بالتنسيق بين المدعو عبد الغني، القيادي الميليشياوي المشار إليه، وآخر يسمى كريدان، القيادي فيما يعرف بسرايا ثوار سوق الخميس.
الاتفاق يتلخص في أن يتوجه كريدان، على وجه السرعة، لجلب كمية من غاز السارين مخبأة في منطقة «أرض الخرابة» قريبة من منزل عقيد سابق اسمه الفيتوري. ويبدو أن هذا العقيد لا علاقة له بالأمر. كان عبد الغني يريد الوصول إلى هذه الكمية قبل أن يصل إليها القيادي أبو حازم، حيث إن هذا الأخير كان قد تحرك بقوات للوصول إلى المكان نفسه لأخذ الكمية، لكن المسافة التي سيقطعها أطول من المسافة التي تفصل كريدان عن «أرض الخرابة». أبو حازم ما زال في منطقة الهضبة البعيدة، بينما كريدان كان في منطقة الفرناج القريبة من موقع الغاز.
لا توجد خريطة يمكن أن تصل عن طريقها إلى «أرض الخرابة». لا بد أن يصف لك أحد أبناء المنطقة كيفية الانتقال إلى هنا. عليك أولا أن تسلك الشارع (غير مرصوف ودون اسم) في اتجاه مبنى سجن الجديدة بحيث يكون المبنى على يمينك. ثم تواصل السير حتى تعثر على بداية الطريق المرصوف بالإسفلت، وهو موجود بعد السجن بمسافة قصيرة. وتظل تتقدم حتى تجد مجموعة من المنازل المتجاورة على اليمين.
ومن هنا تدخل أول زنقة على اليمين أيضًا، وبعد المنزل الثاني، وهو منزل العقيد الفيتوري، تجد قطعة «أرض الخرابة»، حيث يوجد وسط النفايات مجموعة من «البراميل الجرماني»، من بينها برميل لونه أزرق وعليه جمجمة بيضاء، فيه عبوات الغاز، وهو المطلوب. ووفقا لنص التحقيقات فقد طلب عبد الغني من كريدان أن يأخذ حذره مع مجموعته وهم ينقلون العبوات، لأنها متآكلة من الصدأ.
تشير التحقيقات أيضًا إلى أن كميات السارين التي تعرضت للسرقة من سوق الخميس ومن «أرض الخرابة»، وصل أغلبها في نهاية المطاف إلى معسكرات المدهوني الداعشية المنتشرة في طرابلس وحتى بلدة صبراتة غرب العاصمة، وذلك بالتزامن مع ازدياد قدرات التنظيم المتطرف وانتشاره واستقباله لعشرات القيادات من دول مختلفة، وتعامله بشكل مباشر مع الخليفة المزعوم في العراق والشام، أبو بكر البغدادي.
آخر الزيارات النادرة التي قام بها المدهوني، وهو ممتلئ بالثقة، كانت لقيادي داعشي مصري يلقب بـ«خضير» في طرابلس، وهو وفقا للمصادر من بين المتهمين بالضلوع في الهجوم على السفارة الإماراتية في ليبيا في يوليو (تموز) 2013. وكان سبب الزيارة مرض خضير بالكلي. وأثنى الرجل المريض على عمليات «داعش» التي أدت قبل ثلاثة أسابيع لحرق منشآت نفطية في رأس لانوف، في شرق ليبيا، فرد عليه المدهوني، بحسب وثائق أمنية: «إخوتنا قاموا بأعمال جليلة، سال لها دمع الخليفة فرحا وبشرى. نجح الأخوة في حرق أرزاق الخوارج (يقصد السلطات الشرعية في البلاد) ومصادر تموينهم».
ويتنقل المدهوني بين مقراته في عين زارة ومنطقة امعيتيقة (معسكرات تضم سجنًا أيضًا في الجانب الشرقي من العاصمة) ويقيم أحيانا في دار الحسبة التي تقع على شاطئ القرابولي على بحر طرابلس، ويتردد كذلك على معسكرات ومراكز تدريب داعشية أخرى أصبحت منتشرة في غرب المدينة وفي نقاط تمتد حتى قرب الحدود مع تونس.
وفي اليومين الماضيين رد المدهوني على عدد من قيادات الميليشيات التي انتقدته لشعورها بالقلق من تنامي نفوذه بشكل كبير وفي وقت قياسي، بقوله: «هذا ليس وقت المعارك الجانبية. نحن نعد لمعركة طرابلس الكبرى. وطلب من أنصاره شراء المزيد من الأسلحة والغاز، اليوم قبل بكرة».
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
TT

السودان في 25 عاماً... حرب تلد حروباً

فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)
فارون من المعارك ينقلون بشاحنات من مدينة رينك الحدودية في جنوب السودان إلى رصيف لمواصلة رحلتهم إلى وجهتهم التالية (د.ب.أ)

لا يُعدّ دوي المدافع ولا انفجارات القذائف أو البراميل الناسفة القادمة، أو حتى الرصاصات العمياء، شيئاً جديداً في السودان، الجديد أنه انتقل من «الهوامش» إلى العاصمة الخرطوم، فاضطرت الحكومة وقيادة الجيش للانتقال إلى عاصمة بديلة تبعد نحو ألف كيلومتر على ساحل البحر الأحمر عند بورتسودان.

كان يُنظر للحروب السابقة على أنها تمرد ضد الدولة، لكن أسبابها تكمن في الصراع بين «المركز» الذي يحتكر كل شيء، و«الهامش» الذي لا يحصل على شيء، وأنها «حرب مطالب وحقوق».

لكن الحرب، خلال حكم الإسلاميين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير البلاد، تحولت من حرب مطلبية إلى «حرب دينية» بين الشمال «المسلم»، والجنوب «المسيحي» أو «اللاديني»، وانتهت بـ«فصل جنوب السودان»، وإعلان ميلاد دولة جديدة انضمت للأمم المتحدة، فمن أين تأتي الحروب والعواصف لتدمر السودان؟

يرجع المحللون جذور الحروب السودانية إلى الافتقار لـ«مشروع وطني»، وإلى عدم الاعتراف بالتنوع الإثني والثقافي الناتج عن عدم وجود منظومة سياسية ثقافية اقتصادية موحدة تعترف بهذا التنوع.

ورغم أن الحرب الحالية هي حرب بين جيشين «نظاميين»، لكن جذورها تتصل «بمتلازمة التهميش وعدم الاعتراف بالتنوع»، التي أدت للتمرد الأول قبيل إعلان الاستقلال 1955 بقيادة قوات «أنانيا 1»؛ وهي تسمية محلية لثعبان الكوبرا.

الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ملوحاً بعصاه إثناء إلقائه خطاباً في نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور في سبتمبر 2017 (أ.ف.ب)

اتفاق «نيفاشا»

انطفأت الحرب الأولى باتفاق أديس أبابا 1972، لكنها اشتعلت مرة أخرى في عام 1983، تحت راية «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة الزعيم الجنوب سوداني الراحل جونق قرنق دمبيور، على أثر إعلان الرئيس الأسبق جعفر النميري «أحكام الشريعة الإسلامية».

وانتقلت من كونها ضد متمردين إلى حرب «جهادية»، جيش الإسلاميين المقاتلين على أساس ديني، ورفعوا رايات الجهاد ضد مَن وُصفوا بـ«أعداء الدين»، فاستمرت الحرب سنوات، وراح ضحيتها أكثر من مليونيْ مواطن.

لم يحقق الجيش ومؤيدوه «المجاهدون» انتصاراً حاسماً، فاضطروا إلى الرضوخ للضغوط الدولية، ووقَّعوا اتفاق سلام في ضاحية نيفاشا الكينية؛ «اتفاق السلام الشامل أو اتفاق نيفاشا».

قضى «نيفاشا» بمنح جنوب السودان «حق تقرير المصير»، وخيّره بين البقاء في السودان الموحد أو الانفصال، وحدد فترة انتقالية قدرها خمس سنوات.

خلال الفترة الانتقالية، شغل زعيم الحركة الشعبية الراحل جونق قرنق دمبيور منصب النائب الأول للرئيس لأيام قلائل، قبل أن يلقى مصرعه في حادثة تفجر المروحية الرئاسية الأوغندية الغامض، ليخلفه نائبه رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير ميارديت.

استفتي شعب جنوب السودان 2010 على الوحدة أو الانفصال، وجاءت النتيجة لصالح الانفصال، فولدت من رحِم الحروب جمهورية جنوب السودان، وخسر السودان ثلث مساحته الجغرافية، وربع عدد سكانه، و75 في المائة من ثرواته وموارده.

انتقلت النيران إلى إقليم دارفور غرب البلاد، وتمردت مجموعات جديدة تحت مزاعم التهميش والاضطهاد باسم «حركة تحرير السودان» في عام 2003.

وأخذت طابعاً «عِرقياً»، بعدما استعانت الحكومة في حربها ضد الحركات المتمردة ذات الأصول الأفريقية، بمجموعات قبلية عُرفت وقتها بمجموعة «الجنجويد» ذات الأصول العربية، ومِن قادتها، للمفارقة، محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذي أصبح قائد ما يُعرف بقوات «الدعم السريع».

راح ضحية حرب دارفور نحو 300 ألف، واتهمت الحكومة، برئاسة عمر البشير، بجرائم تطهير عِرقي وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، أصدرت بموجبها المحكمة الجنائية الدولية مذكرات قبض ضد الرئيس السابق عمر البشير، و3 من معاونيه الكبار وهم في الحكم، لا تزال سارية.

مقاتلون من «حركة تحرير السودان» في دارفور في مارس 2024 (أ.ف.ب)

تبضع بين العواصم

في مايو (أيار) 2006، وقّعت الحكومة الإسلامية اتفاق سلام في مدينة أبوجا مع «حركة تحرير السودان»، لكن الحركة انشقت إلى حركتين، يقود التي وقَّعت اتفاق أبوجا حاكم إقليم دارفور الحالي مني أركو مناوي.

رفض تيار عبد الواحد محمد النور الاتفاق، واعتصم بجبل مرة في وسط دارفور، وواصل الحرب ولا يزال، بينما حصل مناوي على منصب مساعد الرئيس عمر البشير، ثم عاد للتمرد زاعماً أنه كان مجرد «مساعد حلّة»، وليس مساعد رئيس، ومساعد الحلة هو معاون سائقي الشاحنات الذي يُعِدّ الطعام للسائق.

تنقلت المفاوضات مع الحركات الدارفورية المتشظية بين عدة عواصم، ففي يوليو (تموز) 2011 وقَّعت مع بعضها في قطر «وثيقة سلام الدوحة»، ونصت على تقاسم الثروة والسلطة، لكن الحرب لم تتوقف.

ثم وقَّعت حركات مسلَّحة مع الحكومة الانتقالية، في أكتوبر (تشرين الأول) 2020 اتفاق سلام السودان في جوبا، أبرزها «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي، و«حركة العدل والمساواة» بقيادة جبريل إبراهيم، ونصَّ الاتفاق على تقاسم السلطة والثروة، وبموجبها تولَّى جبريل إبراهيم وزارة المالية، ومني أركو مناوي منصب حاكم إقليم دارفور.

جنود سودانيون من «قوات الدعم السريع» في ولاية شرق النيل بالسودان، يونيو 2019 (أ.ب)

الجنوب الجديد

كأنما لا بد من جنوب ليحاربه الشمال، اشتعلت حرب في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وهما منطقتان منحهما اتفاق نيفاشا حق المشورة الشعبية، للبقاء في السودان أو الانضمام للجنوب، وعادت إلى الحرب «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال».

انشقت الحركة الشعبية الشمالية، التي تُعدّ امتداداً للجنوبية، وتضم مقاتلين سودانيين انحازوا للجنوب إبان الحرب الأهلية، إلى حركتين بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة الحالي مالك عقار، الموقِّع على اتفاق سلام جوبا، بينما بقيت الأخرى، بقيادة عبد العزيز، تسيطر على منطقة كاودا بجنوب كردفان، وتَعُدّها «منطقة محرَّرة»، وتخوض معارك متفرقة ضد الجيش السوداني، ولا تزال.

لم يَسلم شرق السودان من متلازمة الحروب السودانية، فقد كان مرتعاً لحروب المعارضة المسلَّحة ضد حكم البشير في تسعينات القرن الماضي، ونشأت فيه مجموعات مسلَّحة مثل «مؤتمر البجا»، و«الأسود الحرة»، قاتلت هي الأخرى ضد المركز في الخرطوم، قبل أن تُوقِّع اتفاقاً في العاصمة الإريترية عُرف بـ«أسمرا لسلام شرق السودان»، ونال هو الآخر حصة في السلطة والثروة.

أطاح السودانيون بنظام حكم الإسلاميين، بقيادة الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) 2019، عبر احتجاجات شعبية استمرت أشهراً عدة، وأجبروا قيادة الجيش على تنحية البشير.

ومع ذلك، تواصلت الاحتجاجات والاعتصامات، حتى قرر «المجلس العسكري الانتقالي»، برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي»، فض الاعتصام باستخدام القوة، ما أسفر عن مقتل المئات من المعتصمين، ما عده كثيرون من «أفظع الجرائم» بحق المدنيين.

واستمر الضغط المدني السلمي، فاضطر العسكريون لتوقيع «وثيقة دستورية» نصّت على شراكة مدنية عسكرية، في أغسطس (آب) 2019، وجرى تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتكوين مجلس سيادة انتقالي برئاسة البرهان، ونائبه حميدتي.

البرهان وحميدتي يحضران حفل تخريج عسكري للقوات الخاصة، في الخرطوم في 22 سبتمبر2021 (غيتي)

حرب الجنرالات

في 25 أكتوبر 2021، أطاح قائد الجيش بحكومة حمدوك المدنية، بانقلاب عسكري، واضطر تحت الضغط الشعبي السلمي مرة أخرى، لتوقيع ما عُرف بـ«الاتفاق الإطاري» مع المدنيين، ونص على «حكم مدني» يعود بموجبه الجيش إلى ثكناته، وإزالة أي فرصة لـ«تمكين نظام الإسلاميين».

لكن أنصار النظام السابق أحبطوا «الاتفاق الإطاري»، واستخدموا آليات «الدولة العميقة» في تأجيج الخلافات بين الجيش و«الدعم السريع»، فاشتعلت الحرب.

لم تفلح جهود إزالة التوتر والتحشيد العسكري، وفي صبيحة السبت، منتصف أبريل 2023، فوجئ السودانيون بالرصاص «يلعلع» في جنوب الخرطوم عند «المدينة الرياضية»، معلناً الحرب المستمرة حتى اليوم.

يتهم «الدعم السريع» الجيش بمهاجمة معسكراته على حين غِرة، ويقول إن الجيش حاصر مطار مروي شمال البلاد، وإنه كان يخطط للانقضاض على السلطة، بينما «تسود رواية أخرى» بأن «خلايا الإسلاميين» داخل الجيش هاجمت «الدعم السريع»، ووضعت قيادته أمام الأمر الواقع؛ «الاستسلام أو الحرب».

حسابات خاطئة

كان مخططاً للحرب أن تنتهي في ساعات، أو على أسوأ تقدير أيام معدودات، بحساب التفوق التسليحي للجيش على «الدعم السريع»، لكن الأخير فاجأ الجيش وخاض حرب مدن كان قد تمرَّس عليها، ففرض سيطرته على معظم الوحدات العسكرية للجيش، وأحكم الحصار على البرهان في القيادة العامة، بل سيطر على المقرات الحكومية؛ بما فيها القصر الرئاسي والوزارات.

اضطرت الحكومة للانتقال إلى بورتسودان، واتخاذها عاصمة بديلة بعد سيطرة «الدعم السريع» على الخرطوم، بينما ظل قائد الجيش محاصَراً داخل قيادته لأكثر من ثلاثة أشهر، قبل أن يفلح في الخروج منها وينتقل إلى بورتسودان ليتخذها عاصمة له.

اتسعت سيطرة قوات «الدعم السريع» لتشمل إقليم دارفور، باستثناء مدينة الفاشر، حاضرة ولاية شمال دارفور، ومعظم ولايات الغرب باستثناء بعض حواضرها، ثم استسلمت له ولاية الجزيرة بوسط البلاد، وشملت عملياته ولايات أخرى، وسيطر تقريباً على نحو 70 في المائة من البلاد.

بعد نحو عامين من القتال، استعاد الجيش زمام المبادرة، وحقق تقدماً في بعض المناطق؛ الخرطوم، وأم درمان، والخرطوم بحري، وسنار، لكن «الدعم السريع» لا يزال مسيطراً على مساحات واسعة من البلاد، ويقاتل بشراسة في عدد من محاور القتال، وما زالت الحرب سجالاً.

جنوب الخرطوم مسرحاً دموياً للمعارك بين البرهان وحميدتي (أ.ف.ب)

أسوأ كارثة إنسانية

قتلت الحرب عشرات الآلاف وخلقت «أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ»، وفقاً للأمم المتحدة، ونزح أكثر من 11 مليون شخص داخلياً، ولجأ نحو 3 ملايين لبلدان الجوار، ويواجه نحو 25 مليون شخص أكثر من نصف سكان البلاد، البالغ عددهم 45 مليوناً، حالة من «انعدام الأمن الغذائي الحاد».

أطراف الحرب لا يزالون يرفضون العودة للتفاوض، فمنذ فشل «إعلان جدة الإنساني»، فشلت محاولات إعادة الطرفين للتفاوض؛ لتعنُّت الجيش وأنصاره.

سيناريوهات

يرجع عضو مجلس السيادة السابق، ونائب رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية «تقدم» الهادي إدريس، اندلاع الحروب في السودان إلى عدم الاتفاق على «مشروع وطني نهضوي» لحكم البلاد منذ الاستقلال.

ويقول إدريس، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأسباب الرئيسية لحروب السودان هي الفشل في إنفاذ برامج تنمية متوازنة، وتحقيق العدالة، وسيادة ثقافة الإفلات من العقاب، وعدم حسم القضايا الاستراتيجية مثل علاقة الدين بالدولة، والهوية الوطنية، وقضية الجيش الواحد وابتعاده عن السياسة.

ويرى إدريس أن العودة إلى «جذور الأزمة» مدخل صحيح لجعل «الحرب الحالية» آخِر الحروب. ويضيف: «علينا معالجة أسباب وجذور الحروب، في الاتفاق المقبل لإيقاف وإنهاء الحروب».

أما القيادي في «التجمع الاتحادي» محمد عبد الحكم فيرى أن جذور الحروب تتمحور حول «التنمية المتوازنة والمواطنة المتوازنة». ويضيف: «يظل عدم معالجة التهميش والتنمية المتوازنة وحفظ حقوق الشعوب، وتغيير الأنظمة الاستبدادية المتسلطة، بحكم ديمقراطي تعددي، أُسّاً لنشوبِ أعتى وأطول الحروب السودانية».

ويرهن عبد الحكم إنهاء الأزمات المتتالية في السودان بإصلاح المنظومة الأمنية والعسكرية، عن طريق تكوين جيش مهني قومي موحد بـ«عقيدة قتالية» تُلزمه بحماية الدستور والنظام المدني، وتُخضعه للسلطة التشريعية والتنفيذية، وتُعلي قيم المحاسبة وردع محاولات تسييس الجيش.