(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

أسس غرفة عمليات في «عين زارة» لتنفيذ عمليات في دول الجوار واستقبل قيادات أفغانية وباكستانية وموريتانية

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس

كان اليوم كله ينذر بأن الأمور ربما لن تكون على ما يرام. تحت السحب السوداء الكثيفة في العاصمة الليبية طرابلس، خرجت سيارة زرقاء اللون. وعند جامع عُقبة أطلق منها مسلحون وابلا من الرصاص على سيارة «دبل كابينة» تابعة للمجلس العسكري المعروف باسم «أبو سليم». إنه واحد من عشرات التجمعات التي تديرها ميليشيات في العاصمة الملغمة بقادة التطرف. هذه هي الأيام الأخيرة من شهر يناير (كانون الثاني)، حيث يتخوف العالم من مصير هذه الدولة التي تحولت سريعا إلى وجهة للتنظيمات المتشددة القادمة من أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
كان في سيارة الدورية عدد من أعضاء ميليشيا «أبو سليم»، منهم جلال زميط، وسامي المسلاتي، وخالد المحجوب. وأصيب هذا الأخير برصاصة في كتفه، بينما تمكنت السيارة من الهرب. كانت سرعتها مثل سرعة طائرة، وانطلقت في اتجاه منطقة الهضبة التي يقع فيها سجن كبير يضم العشرات من المساجين الذين كانوا حتى صيف عام 2011 من القيادات التي تدير نظام الحكم بقيادة معمر القذافي.
وفي اليوم الثاني، وفي الجانب الآخر من طرابلس، وصل قيادي أفغاني من القيادات القديمة في تنظيم القاعدة، ويدعى علام الدين زاهر الإسلام، قادما من سوريا. وبدأ يتواصل مع باقي عناصر المتطرفين لكي يبدأ العمل انطلاقا من مقرات تابعة لكل من الجماعة الليبية المقاتلة (تابعة للقاعدة) وأخرى تخص تنظيم داعش في ما يسمى «ولاية طرابلس». كان علام موجودا في ليبيا من قبل، ولديه خبرة مسبقة في العمل مع «ثوار 17 فبراير» ضد قوات القذافي. وهو معروف لدى الكثير من الجماعات المتشددة في عموم البلاد. لقد استمر في العمل في ليبيا أعوام 2011 و2012 وسافر في 2013 للقتال في سوريا، والآن عاد إلى ليبيا، ويتخذ من بلدة صبراتة في غرب طرابلس مقرا له، ويتردد أيضًا على العاصمة.
المشكلة أن الميليشيات، وهي تحاول أن تخلق جبهة موحدة للعمل ضد السلطات الشرعية في البلاد، ولمواجهة أي احتمال لتدخل دولي في ليبيا، يوجد بينها تنافس على النفوذ وعلى القيادة، يؤدي بين وقت وآخر إلى صدام بين عناصر مسلحة من هنا ومن هناك، ويؤدي أيضًا إلى عمليات انتقامية كما حدث من المجهولين الذين كانوا في السيارة الزرقاء.
لقد تحدث قادة غربيون خاصة من الولايات المتحدة الأميركية خلال الأيام القليلة الماضية عن تنامي خطر المتطرفين في ليبيا خاصة تنظيم داعش، وتحدثوا أيضًا عن وصول مقاتلين وقادة من هذا النوع من الجنوب. واطلعت «الشرق الأوسط» على معلومات تفصيلية عن بعض من الوجوه الجديدة التي عبرت بالفعل من الجنوب حتى وصل بعضها أخيرا إلى طرابلس. ومن بين هؤلاء قيادي آخر في تنظيم القاعدة وهو باكستاني الجنسية ويدعى عامر الحق نصير. ودخل عامر الحق من صحراء جنوب غرب ليبيا، أي عبر الحدود مع الجزائر.
لم تكن رحلة دخوله والمجموعة التي معه سهلة. ومن المعروف أن دول الجوار الليبي مثل الجزائر ومصر وتونس، والبلدان الأفريقية الأخرى، تتخذ إجراءات مشددة لمنع عبور المتطرفين والأسلحة. ويقول الباكستاني عامر الحق، وهو جالس بين مستقبليه من المتطرفين في طرابلس، ويروي تفاصيل رحلته، إن الجزائريين هاجموا القافلة التي كان قادما على رأسها. وهو لم يذكر في تلك الجلسة كيف دخل هو ومن معه من باكستانيين إلى الجزائر. لكنه يواصل موضحا أنه قبل أن يجتاز الحدود بسيارات الدفع الرباعي، إلى داخل ليبيا، أطلق الجزائريون النار عليهم، وردوا عليهم بالمثل، في اشتباك على الحدود استمر لعدة ساعات، فسقط عدد ممن كانوا معه، وجرى دفنهم بعد ذلك في الرمال الليبية.
وتوعد عامر الحق، بتنفيذ عمليات ضد السلطات الأمنية الجزائرية بعد أن يلتقط أنفاسه في ليبيا للانتقام لمن قُتلوا من مجموعته، قائلا: «قُتل لنا أخوة نحسبهم (شهداء) في الجنوب، والآن صار الثأر عندنا بحجم الرمال التي دفنوا فيها. سنعود ونقتص».
وعلى كل حال يمكن أن تقول إن ليبيا لم يعد يوجد فيها فروق تذكر بين المسميات التي يحملها قادة المتطرفين. فالرجل الباكستاني عامر الحق، ورغم أنه من تنظيم القاعدة، فإن له قنوات اتصال مع قيادي باكستاني أيضًا، لكنه من «داعش» اسمه معاوية ذاكر الله، ووصل هو الآخر إلى ليبيا أخيرًا.
لا بد من الإشارة إلى أن بعض القيادات الليبية المتشددة ما زال لديها حساسية من تولي هؤلاء الأجانب القيادة في بعض الضواحي. وهنا يبرز الدور الذي يقوم به زعيم داعش في غرب ليبيا، محمد المدهوني، حيث إنه يبدو عليه القدرة على توزيع الأدوار في العاصمة والأدوار العابرة للحدود، خاصة في تونس والجزائر. ومن خلال وثائق اطلعت عليها «الشرق الأوسط» ومقابلات أجرتها مع عدد ممن لهم صلة بقادة المتطرفين في ليبيا، تبين أن هناك نشاطًا أيضًا لزعماء من المتشددين الموريتانيين داخل العاصمة، ويقوم عدد منهم بتسيير دوريات أمنية في طرابلس، تحت إشراف المدهوني نفسه.
ومن بين هؤلاء الموريتانيين رجل يدعى عمارة ولد أحمد، وآخر اسمه علي ولد أحمد، وهما قياديان في داعش، ولكل منهما مجموعة تتواصل مع مجموعة الباكستاني ذاكر الله. وزار الثلاثة المدهوني في مقره في منطقة عين زارة. وأعطى زعيم داعش لـ«علي ولد أحمد» مسؤولية الإشراف على دوريات في عدة شوارع تقع في القسم الغربي من العاصمة. وأصابت مثل هذه التحركات بعض قادة الصف الثاني من المتطرفين الليبيين بالاستفزاز، رغم أن عمليات نقل الأسلحة والبيع والشراء وتنسيق العمليات ضد الجيش الوطني الليبي، وضد حكومات دول الجوار، تسير بين القادة الكبار على قدم وساق.
في مثل هذه الأجواء التي تشبه حالة الحرب يخيم الخوف والذعر على سكان العاصمة، بينما يطلب بعض السياسيين سواء من المقيمين في الخارج أو في المدن الهادئة في الداخل، من سكان طرابلس الثورة ضد الميليشيات المتطرفة في العاصمة. بيد أن الواقع يقول عكس ذلك.. لا يمكن أن تمر من زقاق أو شارع دون أن ترى سيارتين أو ثلاثة تحمل ملثمين مدججين بالأسلحة، ولديهم القدرة على القتل بلا حساب. يقول أحد وجهاء العائلات في جنوب المدينة إن العالم الخارجي، سواء من الليبيين أو الأجانب، ليس لديهم تصور حقيقي عن الأزمة التي تعيشها طرابلس. دعك من نقص الخدمات وانقطاع الكهرباء ونقص مياه الشرب. المشكلة في الحفاظ على نفسك وعلى أهل بيتك من خطر الميليشيات.
في الليل، وبينما تسمع تكتكة الرصاص عبر الشوارع، كانت السماء مظلمة وسيارات الدفع الرباعي تمرق عبر الميادين. وصافرات الإسعاف تدوي من بعيد ثم تنطلق كالريح. يبدو أنه توجد حالة من الغضب بين أحد القيادات الليبية الكبيرة مع قائد من قادة الصف الثاني. هذا يحدث عادة. وهذا يعني «حالة طوارئ مصغرة»؛ ولا حركة. ماذا حدث؟ لقد تصرف مسؤول في كتيبة الأبرار، يدعى خثالة، وتابع لجماعة أنصار الشريعة، دون تنسيق مع المستوى الأعلى منه، وهو رجل يلقب باسم «الشريف»، في الجماعة الليبية المقاتلة.
الشريف كان غاضبًا. قال له: «ما هذا اللعب الذي تقومون به؟ ألم نتفاهم على أن كل عملياتنا يجب أن نتشاور فيها. كيف هذا؟ ماذا تفعلون؟ ويبدو أن العملية المختلف عليها كانت تخص تمرير مجموعة من المتطرفين إلى الحدود لكي يدخلوا إلى الجزائر».
حاول خثالة في خضم الجدل أن يدافع عن نفسه، وقال إن عملية التحرك قامت بها جماعة تابعة لقيادي جزائري يعمل بالقرب من طرابلس اسمه بوجرة. جماعة بوجرة كانت متمركزة قرب منطقة تاورغاء الواقعة إلى الشرق قليلا من العاصمة الليبية. وتقول مصادر المتطرفين إن القيادات الكبيرة في الجماعة المقاتلة أصبحت مضطرة للتنسيق في مسألة العمليات الداخلية والخارجية مع جماعة الإخوان وداعش، وأن تحرك مجموعة بوجرة من تاورغاء دون تنسيق أعطى مؤشرات بأن البعض من الكبار في الجماعة المقاتلة، ربما كانوا يعملون في الخفاء ضد خطط الإخوان وداعش.. «وهذا غير مسموح به لأن الجميع يقف فوق صفيح ساخن»، وفقا لأحد هذه المصادر.
تحرُّك المتطرفين إلى الجزائر يبدو أنه أصبح انطلاقا من مدينة غدامس المجاورة للحدود بين البلدين. طلب الشريف من خثالة أن يأمر مجموعة الجزائري بالتوجه إلى مقره في طرابلس فورا، وهو مقر موجود قرب منطقة الهضبة، وفي المقابل، أمر أيضًا بأن تتحرك مجموعات أخرى من المتطرفين إلى بلدة غدامس، هما «مجموعة العوامي»، و«مجموعة البرعصي». ويظهر من الكلام بين الرجلين أن المطلوب في هذا التوقيت تجهيز عمليات لوجستية للمتطرفين في غدامس، قبل التحرك إلى داخل الجزائر. وتقرر أن يشرف على استقبال مجموعتي «العوامي»، و«البرعصي» قيادي يدعى «العوضي»، في غدامس.
يظل أخطر مقر في الوقت الراهن للمتطرفين في ليبيا هو مقر المدهوني زعيم داعش، والذي أصبح يلقبه الكثير من القيادات الكبيرة في باقي التنظيمات باسم الشيخ. هذا الرجل يتميز بإمكانيات مالية غير محدودة، وهو لا يتردد في شراء أي صفقة أسلحة بأي مبلغ يطلب منه. ولا يفاصل ولا يطلب إنقاص السعر. وآخر صفقة عقدها كانت تضم صواريخ حرارية لديها القدرة على تحويل الدبابة إلى رماد. كما تبين أنه اشترى مرسى بحريًا في مدينة الزاوية الليبية الواقعة على بعد نحو مائة كيلومتر من الحدود مع تونس. وحين جاء القادة من الأفغان والباكستانيين والموريتانيين والجزائريين إلى طرابلس، ذهبوا إلى مقره مباشرة.
مقر المدهوني الواقع في معسكر في منطقة عين زارة، يضم غرفة خاصة لإدارة عمليات إرهابية في تونس وأخرى خاصة بالجزائر. ووفقا لمحاضر تحقيقات أمنية اطلعت عليها «الشرق الأوسط»، فقد جرى التخطيط لتجنيد دواعش في جبل الشعانبي في تونس لتنفيذ تفجيرات في هذه الدولة. وسبق أن شهدت تونس عمليات دامية على يد التنظيم المتطرف نفسه. ومن بين من جرى التنسيق معهم في غرفة عمليات عين زارة، من التونسيين، اثنان الأول يدعى زياد، والثاني جميل.
كما جرت «مباحثات» أخرى في غرفة العمليات الخاصة بتونس، بين المدهوني وتونسي يدعى أبو جريد، وهو قيادي في داعش تونس. وجرى تكليفه بتنفيذ أعمال تخريبية في شارع الحبيب بورقيبة، وفي وسط ميادين العاصمة وفي المدن المهمة.. و«في سوسة والمانستير وصفاقص». وقال له بالنص وفقا لما ورد في تحقيقات تقوم بها أجهزة أمنية مختصة بنشاط المتطرفين في شمال أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط: «لا تبقِ صيدا سهلا في مناطق ضيقة.. اضربوا مصالح الأمن.. فرغوا الشوارع كما تريد الحكومة، فرغوها حتى يسهل اقتناص الأمن، ويسهل الاشتباك.. الحكومة تعلن فرض حظر تجوال، وهذا سيزيد حنق المواطنين عليها».
ومثلما تظهر الخلافات بين قيادات الصفوف الأدنى في التنظيمات المتطرفة في داخل ليبيا، ظهرت أيضًا في تونس التي يبدو من خلال التحقيقات أن أطرافا في حركة النهضة التابعة لجماعة الإخوان، تقوم هي الأخرى بالتعاون مع دواعش تونس.
وقال المدهوني للداعشي التونسي أبو جريد بحسب نص التحقيقات إنه «يوجد خلاف حاد الآن بين إخوان تونس وقصر قرطاج (يقصد السلطات التونسية).. وسوف تنهار حالة التماسك بينهما، وهي منهارة أصلا. جندوا قيادات في الجيش وفي الأمن، كما تفعل حركة النهضة، ولا تثقوا فيها». وفي المقابل اشتكى أبو جريد من «مشكلات تموين وصرف». فأجابه المدهوني: «سيصلك ما تريد بعد أن نرى عمليات نوعية.. أرسلت لكم مليوني دولار، وسلاح، وأخوة من عندي، وهذا يكفي لإثبات أن المحال لكم يستعمل فيما نريده.. تحركوا بكل نظام وبشكل سريع، واهتموا، بالإضافة للمدن التي ذكرتها لك، بالقرى الفقيرة في الجنوب.. نريد شغلا مميزا لسرعة إحداث خلخلة وانهيار كامل قبل أي تدخل فرنسي».
يبدو من القراءة الأولى لنتيجة الجولة التي قامت بها «الشرق الأوسط» أن قيادات داعش تستحوذ على التنسيق على الجبهة التونسية، وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة مختصة بتهيئة الجبهة الجزائرية، والقيادات الإخوانية بالجبهة المصرية، لكن كل هؤلاء يعملون بشكل يبدو أنه يزداد تناغما يوميا بعد يوم، رغم الشكوك والضغوط الدولية.
وبينما يظهر أنه توجد صعوبة في إحداث اختراق كبير على الجبهتين المصرية والجزائرية، يبدو أن نشاط المتطرفين في تونس أكبر وأسهل، لعدة أسباب من بينها وجود أعداد كبيرة من التونسيين في ليبيا، وسهولة العبور بين حدود البلدين. توجد أيضًا جماعة متطرفة في تونس جرى ذكرها على لسان أبو جريد أثناء حديثه مع المدهوني، تسمى «جماعة الجيلاني»، لها صلات بداعش ليبيا.
من محطات سوء التفاهم بين داعش تونس وغرفة عمليات المتطرفين في عين زارة، رفض الدوعش التونسيين دخول جماعة الجيلاني إلى العاصمة التونسية، بأوامر من أبو جريد. وهذا أغضب قيادات داعش ليبيا. وقدم أبو جريد الأسباب على أساس أنه يخشى من اعتقال عناصر من مجموعة الجيلاني، وقال وفقا للتحقيقات: «السبب في المنع أن عوان الأمن (الشرطة) منتشرون في العاصمة بشكل كثيف، ويغلقون الطرق، وأن الشعب عامل لجان أمنية ويتعاون مع عوان الأمن، كما أن جماعة النهضة طلبوا تأخير ذلك، لأن الأمور صعبة».
أما المرسى البحري الذي لديه القدرة على استقبال المراكب الصغيرة وأصبح تحت يد داعش في مدينة الزاوية، فقد كان يديره في السابق رجل يكني بأبو عبيدة، وهو من قادة ميليشيات المتطرفين في ليبيا، وكان يشغل منصب رئيس غرفة عمليات الثوار في البلاد. ويحمل المرسى البحري اسم «مرسى جرف الزاوية»، واستقبل في الأيام القليلة الماضية جرافات (مراكب) محملة بالأسلحة. كما استقبل مقاتلين قادمين من تونس. وأثار هذا الأمر حفيظة عدد من القيادات الصغيرة في الجماعة الليبية المقاتلة بسبب انتشار العناصر التونسية في مدينة الزاوية. ويقول أحد المصادر القريبة من أنشطة المتطرفين هنا، إن المرسى يستخدم أيضًا في نقل العناصر وإعادتهم إلى تونس بعد تدريبهم.
ومن قيادات المتطرفين الجزائريين ممن وصلوا إلى ليبيا، رجل يلقبونه هنا بـ«عصيد»، وآخر يسمونه رشوان، ومعروف في تنظيم «جند المقدس». ومن الأسماء الجزائرية التي ظهرت في غرفة عمليات داعش في معسكر عين زارة، رجل يدعى عزيز، وآخر اسمه جلول، وثالث يلقب بالمشغول، ورابع يعرف باسم عبد المهيمن.
ووفقا للمصادر فإن المدهوني يعد هؤلاء من أجل العودة مع آخرين إلى الجزائر عن طريق بلدة غدامس.. وفي آخر حديث بينهما، بحسب نص التحقيقات، قال زعيم داعش الليبي للجزائري عبد المهمين: «اتصل بي أخونا هاني حسن (غير معروف من هو، لكنه يبدو من قيادات المتطرفين الذين يعملون على الجبهة الجزائرية).. يريدكم الالتحاق به غدا صباحا. طلب مني الإذن، وأنا وافقت، فالإخوة هناك (أي في الجزائر) وضعهم ضنك ويحتاجون لنا. غادر الفجر إلى غدامس ومنها لن تغلب في الدخول للجزائر أنت خبير في ذلك».
وبمرور الأيام يبدو التناغم في التنسيق المباشر موجود ما بين الجماعة الليبية المقاتلة والتابعين لها، وبين تنظيم داعش، رغم أن قيادات من جماعة الإخوان، تحاول أن تكون في الصورة، رغم أن الكثير من تصرفاتها غير مطمئنة للتنظيمات الأخرى. فالمدهوني على سبيل المثال قال لدواعش تونس صراحة أنه لا ينبغي الالتفات إلى التنسيق معهم. وحذر منهم. بينما في ليبيا توجد للجماعة علاقات قوية خاصة في مسألة التعاون في تمرير صفقات الأسلحة والمقاتلين، لصالحها ولصالح الآخرين، سواء داخليا أو خارجيا.
رجل محسوب على الجماعة المقاتلة يدعى عبد الغني، وهو قيادي في المجلس العسكري لأبو سليم، يرتبط بعلاقة جيدة مع قادة الإخوان الذين يتركز غالبيتهم في بنغازي في الوقت الراهن. وحين تعرضت الدورية التابعة له في طرابلس لإطلاق النار من السيارة الزرقاء، حامت الشبهات حول تعاون إخواني مع عناصر أميركية يقول المتطرفون أنها عناصر موجودة في طرابلس.
ومع ذلك أصبح عبد الغني يرتبط بعلاقة وثيقة مع المدهوني. وتعاون معه في جلب شحنة أسلحة كانت متجهة من مدينة الزاوية إلى مدينة مصراتة، تتكون من ألغام مضادة للمشاة وقواذف، و18 من الصواريخ الحرارية فرنسية الصنع. كان السمسار، ويدعى «الشوشي» يريد أن يبيع الشحنة لمصراتة بستة ملايين دولار، لكن داعش زاد نصف مليون للحصول على الصفقة عن طريق عبد الغني. وتبلغ قيمة الصواريخ وحدها خمسة ملايين دولار. وجرى نقل الشحنة إلى معسكر عين زارة.
رغم كل شيء، ومع تبادل صفقات السلاح وصفقات المقاتلين، والترتيبات الخطرة، فإن الشكوك في الشارع الميليشياوي الليبي لا تتوقف. وكلما خرجت تقارير من الغرب ضد استمرار حالة الفوضى التي يثيرها المتطرفون في ليبيا، كلما زاد حراك العناصر على الأرض وارتفع صوت إطلاق الرصاص من زوايا الشوارع، وبين يوم وآخر تتقاطع مواقع النفوذ ويشتبك مسلحون من هنا ومن هناك. ويأتي الرد بعد ساعات من خلال عمليات انتقامية مباغتة. وفي الليل، في الجانب الشرقي من العاصمة، وصل أحد قيادات الجماعة الليبية المقاتلة إلى مقر إقامة مسؤول كبير في المؤتمر الوطني، وأبلغه أن يأخذ حذره من جماعة الإخوان.
وقال له إن بعض قيادات الإخوان وهم ينسقون مع الجماعة المقاتلة، يسعون، في الوقت نفسه، لإحياء قنوات التواصل مع الجانب الأميركي تحسبا لما سيأتي في المستقبل.. «الإخوان يريدون حمل تركة طرابلس في حال حدث تدخل أميركي فيها، وهم يخفون عنا ذلك». نفس التحذيرات أبلغها قيادي آخر في الجماعة المقاتلة، لمسؤول المؤتمر الوطني نفسه. قال له إن الإخوان لديهم أيضًا اتصالات مع الإيطاليين. وبعد عملية السيارة الزرقاء نصحه أن يغادر مكتبه ويبقى بين أهله.
وحين جاء الصباح، بدأت نفس القيادات في ترتيب عملية إرسال ثلاثة زوارق محملة بالأسلحة إلى القوات المعارضة لقائد الجيش الوطني الليبي الفريق أول خليفة حفتر. شارك في هذه الترتيبات اثنان من الإخوان أحدهما زعيم للجماعة في بنغازي والثاني يترأس ذراعا سياسية للجماعة في طرابلس. كما شارك في التوجيه بإتمام العملية قيادي في الجماعة الليبية المقاتلة، ورجل غير معروف يلقبونه بـ«الكوافي»، بالإضافة إلى أحد أصحاب الزوارق متخصص في «الهجرة غير الشرعية»، في منطقة قرقارش في طرابلس، اسمه «تيبار». ورغم ما أبداه تيبار من مخاوف من قصفه من الطيران الليبي أو من الطيران الفرنسي، إلا أنه رضخ للأمر.
مع المساء جاء اتصال من المشفى الذي يعالج فيه المحجوب. لقد نزف الكثير من الدم من إصابته في حادث إطلاق النار من السيارة الزرقاء. والمشكلة أنه لم يعد يوجد دم في أي من مستشفيات العاصمة. وجاء الرد من أحد قيادات الميليشيا، قائلا: «ابعث طبيب للسجن ليبحث بين الموقوفين عن فصيلة الدم المطلوبة، ولا يهمك».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.