(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

شم النسيم على البحر المتوسط تحول إلى رائحة الجثث والخوف يدب في أرجاء المدينة

متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
TT

(يوميات الفوضى في ليبيا 2 من 5): ضواحي بنغازي ملاذ الدواعش بعد هروبهم من ضربات الجيش والصحوات

متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)
متطرفون ليبيون يسيّرون دورية أمنية لما يسمى «الشرطة الإسلامية» في شرق البلاد («الشرق الأوسط»)

المثل الدارج في هذه البلاد يقول إن من يسيطر على بنغازي يسيطر على عموم البلاد. ويعدد مستشار رئيس البرلمان الليبي، عيسى عبد المجيد، المرات الكثيرة عبر التاريخ التي هبت فيها العاصفة من هنا لتغيير الأوضاع على كامل تراب ليبيا.. الاستقلال بدأ من هنا، وحكم القذافي أيضا، وكذلك «الثورة» ضد نظامه في 2011.
ومنذ نحو عامين يخوض الجيش الليبي معارك طاحنة للسيطرة على بنغازي التي تبعد نحو ألف كيلومتر شرق العاصمة طرابلس. وتمكن من تطهير غالبية ضواحي المدينة وشوارعها من تمركزات المتطرفين، لكن ما زال أمامه معضلة تتعلق بثلاث ضواحي رئيسية، هي سوق الحوت والصابري والليثي، إذ إن الجماعات التي يطلق عليها الجيش لقب «الخوارج» تتلقى دعما من البر والبحر من باقي ميليشيات المتشددين في البلاد.
من وراء دوائر كبيرة من المباني المهدمة وأبواب المحال المنبعجة بفعل القذائف الصاروخية، يقيم المتطرفون في ضاحية سوق الحوت بجوار الميناء البحري، وحتى أطراف من شارع عمرو بن العاص. وفي الخط الفاصل للمواجهات يرتفع ركام المباني ويصوب القناصة بنادقهم خاصة قرب ميدان الشجرة. من سوق الحوت توجد إمكانية لدى المتطرفين لاستقبال المراكب المحملة بالأسلحة والمقاتلين. ويقول عبد المجيد إن هذا يحدث أمام أعين العالم ولا أحد يتحرك.
يمكن العبور إلى سوق الحوت أيضا بالسيارة عبر الشوارع المطلة على مبنى المحكمة القديم، على البحر، أي المبنى الذي شهد مظاهرات الليبيين ضد القذافي مطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. كان هذا منذ خمس سنوات. كانت هناك آمال لبناء دولة جديدة، بيد أن كل شيء ما زال يراوح مكانه في انتظار حل جذري لإنقاذ ليبيا من مصير «الدولة الفاشلة». تسعى الكثير من الأطراف المحلية والدولية لإيجاد مخرج في سبيل كسر شوكة المتطرفين والجماعات المصنفة «منظمات إرهابية»، في وقت تلوح فيه عدة دول غربية بالتدخل لمساعدة حكومة التوافق الوطني على إعادة الاستقرار لهذا البلد النفطي.
ويقول النائب في البرلمان الليبي عن مدينة بنغازي، إبراهيم عميش، إن «العالم يبدو غير جاد في حربه على الإرهاب، لأن ليبيا أقرب دولة من أوروبا». اليوم تحولت أجزاء كبيرة من مدينة بنغازي بسبب الاقتتال إلى تلال من الكتل الإسمنتية والحجارة وأسياخ الحديد الملتوية، مع إصرار الجيش، بإمكانياته المتواضعة، على «دحر الإرهاب».
وبدلا من رائحة نسيم البحر المشبعة باليود، يحمل الهواء رائحة البارود والجثث المتعفنة في زوايا الشوارع. كانت طيور البحر ترفرف على الشواطئ الغربية للمدينة، واليوم تظهر في السماء بين وقت وآخر القذائف الصاروخية الطائشة. سقط في بنغازي نحو ألفي قتيل من المدنيين والعسكريين منذ عام 2014. وفي المقابل يخفي المتطرفون عدد قتلاهم، ويقومون بدفنهم في أنفاق تحت الأرض، وفقا لمصادر طبية في المدينة.
سوق الحوت هو أحد ثلاث مناطق يسيطر عليها عناصر «أنصار الشريعة» و«داعش». المنطقتان الأخريان هما حي الصابري المجاور لساحل البحر أيضا، لكن إلى الشرق قليلا من سوق الحوت. وحي الليثي الموجود في وسط المدينة. حتى أواخر العام الماضي كان المقاتلون المتشددون في بنغازي ومن يدعمهم من المدن الأخرى، ينكرون وجود «داعش»، ويعلنون أنهم «مجلس ثوار» يرفع السلاح لحماية الثورة ومنع عودة نظام القذافي مرة أخرى.
لكن العمليات النوعية التي قام بها الجيش وتوغله داخل عدة أحياء لتطهيرها من عناصر الميليشيات، كشفت خلال الشهرين الماضيين، عن أن الدواعش تمكنوا بالفعل من التسلل إلى بنغازي. وتؤكد اتصالات عثر عليها محققون في هواتف «عناصر إرهابية» في ضاحية سيدي فرج جنوب المدينة، وجود تنسيق بين «مجلس ثوار المدينة»، المدعوم من ميليشيات طرابلس، والدواعش الذين فروا إلى بنغازي قادمين من مدينة درنة، وقادمين أيضا من البحر عبر مراكب صغيرة يطلق عليها الليبيون اسم «جرافات».
في الليل، وعلى مدار أسابيع، استمرت سيارات الدفع الرباعي تنقل المقاتلين الدواعش، المهزومين، من درنة، إلى محاور الطرق البرية الجنوبية. ومن هناك يتجهون بأسلحتهم إلى أحد مسارين، إما إلى بنغازي التي يتحصن في عدد من ضواحيها تنظيم أنصار الشريعة المتطرف، أو إلى المناطق الغربية من البلاد، حيث يتلقون مزيدا من التدريبات في مدينة سرت التي أصبحت تحت سيطرة «داعش».
هزيمة الدواعش في درنة جرت بفضل طوق الحصار الذي فرضه الجيش على المدينة، طوال نحو 20 شهرا، وبمساعدة ممن يطلق عليهم الصحوات، وهم شبان متطوعون يساعدون القوات المسلحة، إلى جانب الخلافات التي نشبت بين دواعش درنة وتنظيم أنصار الشريعة في المدينة. يقول أحد قادة الجيش في محور سيدي فرج إن التحالفات والاقتتال بين أنصار الشريعة والدواعش غير مفهوم، لأن هؤلاء المتطرفين تجدهم متحالفين في جبهة ويتحاربون في جبهة أخرى، مثل محور سيدي فرج، وضواحي سوق الحوت والصابري والليثي. ويرددون معا الأهازيج الحماسية، تحت الأعلام السوداء، لمواصلة الحرب ضد الدولة.
يعاني الجيش الليبي الذي يقوده الفريق أول خليفة حفتر من نقص في السلاح وفي العتاد وفي الجنود أيضا، لعدة أسباب أولها رفض الأمم المتحدة رفع الحظر عن توريد الأسلحة له، إلا بعد تمكين حكومة الوفاق الوطني من العمل. وثانيها الخلافات التي ما زالت مستمرة بين ضباط كبار يؤمنون بثورة 17 فبراير (شباط) التي أطاحت بنظام القذافي، وضباط كانوا يصدون هجمات الثورة المسلحة المدعومة من حلف الناتو. وثالثها تعثر منح الثقة لحكومة توافق وطني لديها القدرة على طي صفحة الماضي والعمل على أسس جديدة من أجل المستقبل.
ويقول النائب عميش، إن الجيش كان يمكنه حسم المعركة ضد المتطرفين في المدينة مبكرا لو كان قد حصل على الأسلحة التي يحتاجها، مشيرا إلى أنه، مثل كثير من الليبيين، لا يجد أي مبرر لاستمرار الأمم المتحدة في فرض الحظر على تسليح الجيش، بغض النظر عن موضوع الحكومة. ويؤكد أن الليبيين قادرون، بأيديهم، على القضاء على المتطرفين، لو تمكن من الحصول على ما يحتاجه من سلاح.
ما بين البحر والصحراء تقع المدينة ذات الأزقة العتيقة الضيقة المثقوبة بالرصاص، والشوارع الحديثة الواسعة التي خربتها الحرب الأهلية. يشرف عليها من الجنوب الشرقي منطقة الأبيار التي يوجد فيها مقر العمليات العسكرية لقوات الجيش، أي بالقرب من بلدة المرج ومطار بنينة. وجرت قرب هذا المطار معارك طاحنة العام الماضي تمكن خلالها الجيش من هزيمة «العناصر الإرهابية» التي دمرت المطار الرئيسي لمدينة بنغازي. وقتل خلالها مجموعة من القادة الكبار في «أنصار الشريعة» ومن أشهرهم محمد الزهاوي، بينما اضطر قادة آخرون للهروب أو الاختفاء داخل جحور المدينة.
في بنغازي، التي تبلغ مساحتها نحو 300 كيلومتر مربع، عرب أقحاح، وفيها آخرون تجري في عروقهم دماء الأجداد الغرباء. يطلق الرجال كبار السن على المدينة باللهجة المحلية لقب «رباية الذايح»، أي المدينة التي يمكن للهائمين فيها أن يجدوا المأوى، المسكن والمأكل، بلا حساب. أو بمعنى أكثر وضوحا: القدرة على استيعاب من تقطعت بهم السبل. لكن يبدو أنه لم يكن في حسابات المدينة ظهور مجموعات من المقاتلين الغرباء الذين يسعون لفرض أجندة خاصة بهم بقوة السلاح، مستغلين في ذلك شبانا ليبيين لديهم أجندة مشابهة وأعلام سوداء مماثلة.
يقول أحد وجهاء المدينة إنه، للأسف، جاء وسط من لجأوا للمدينة بعد سقوط نظام القذافي مجموعات محترفة في البطش. إنهم متطرفون يصفهم الشاعر الشعبي المعروف نصيب سكوري، الذي يسكن قرب بنغازي، بأنهم «غلاظ الشَّعر»، و«الهبل السِّمَان»، أي الذين لا يفهمون ولا يتفاهمون. هم من ليبيا ومن بلدان عربية وأجنبية. لديهم أفكار عابرة للحدود، ولا يرون في بنغازي، إلا حجارة يمكن اتخاذها سواتر لحربهم الطويلة من درنة إلى سرت ومن طرابلس إلى بلدان الجوار الليبي وأوروبا.
يتحرك الجيش حول بنغازي بإمكانات متواضعة لكن وفقا لخطط صارمة. تعليمات للجنود بأن تكون طلقة الرصاص في مكانها. لا مجال للهدر. الجنود والمتطوعون لا يوجد لديهم أي نوع من الرفاهية.. نقص في الذخيرة وفي المعدات وحتى في الملابس العسكرية. يقول أحد الجنود: «بدلة الجيش اشتريتها على حسابي». الطعام كيفما اتفق والنوم بعين مفتوحة. جرى تحرير مطار بنينا، وبدأ العمال يكنسون الفوضى، ويعيدون ترميم المدارج والمكاتب ويبنون الجدران وينصبون الألواح الزجاجية الكبيرة.
ويتحدث ضابط في الجيش عن قرب افتتاح المطار وتشغيله، إلى جانب إعادة بناء البيوت المجاورة والمساجد المهدمة أنه بعد الانتهاء من معركة مطار بنينا أصبح الجنود أكثر حماسا للمعركة الثانية، في محور سيدي فرج، ضمن خطة شاملة لإنهاك باقي ميليشيات بنغازي. مثل هذه الخطة جرى تجربتها في درنة، ويقول ضابط في الجيش: «بمحاصرة درنة تمكنا من إخراج فئران المتطرفين، وأخذوا في الفرار.. بعضهم جاء إلى بنغازي، وبعضهم توجه إلى سرت».
يمتد محور سيدي فرج على مساحات واسعة من الأراضي والمزارع والبيوت المتناثرة التي تطوق جانبا كبيرا من الجنوب الغربي لمدينة بنغازي. ودخول الجيش إلى هذه المنطقة الغنية بالأشجار والمدقات الترابية، كان أمرا صعبا. تنتشر المزارع المحاطة بالأسوار، وهي عبارة عن ملكيات خاصة، كما توجد عدة مصانع للألبان والطحين وغيرها، إلا أن المتطرفين طردوا الكثير من أصحابها، وحولوها إلى مراكز انطلاق لمهاجمة قوات الجيش، ومنعه من دخول المنطقة أو الاقتراب من منطقة قار يونس، التي تعد أحد أهم الممرات الغربية المؤدية إلى إجدابيا وهراوة والنوفلية وسرت، حيث يتمركز تنظيم داعش وميليشيات أخرى متعاونة معه.
وتمكنت القوات الجوية الليبية من منع مدد داعشي جديد مكون من نحو عشرين سيارة بالأسلحة والمقاتلين، كان في طريقه إلى متطرفي بنغازي في محور سيدي فرج، قادما من الطريق الغربي، بينما كانت القوات البرية على الأرض تقتحم الدشم وتحرر مقار محصنة. ومن بين ما استخدمته عناصر المتشددين هنا صناديق الشاحنات الكبيرة وحاويات البضائع كمتاريس.
ساهمت سيطرة الجيش أخيرا على منطقة سيدي فرج في توجيه ضربة كبيرة لطرق الإمداد والتنقل الجنوبية التي كان يعتمد عليها المقاتلون الليبيون والأجانب في أحياء سوق الحوت والصابري والليثي. أو كما قال الفريق أول حفتر: «جنودنا يحاصرون هذه المناطق، وسحقها أصبح وشيكا».
ترك المتطرفون في محور سيدي فرج دمارا كبيرا، من أول تدمير مصانع عامة وأهلية، وقطع خطوط الكهرباء والهواتف عن ضواحٍ كاملة في المدينة، حتى عمليات تجريف للطرق في محاولات يائسة لمنع الجيش من التقدم، أو السيطرة على الطرق التي تصل إلى البحر عبر مدقات مصنع الإسمنت، وتربط المحور بسوق الحوت من الجهة الغربية. عثر ضباط الهندسة العسكرية والكتيبة 20 على عدة مئات من الألغام الأرضية المضادة للأفراد والدبابات.
تبين أيضا استخدام المتطرفين لطائرات تجسس صغيرة ذات شكل دائري ومزودة بكاميرات. سقط في الأيام الأخيرة لهذه المعارك ما لا يقل عن خمسة من الجنود والضباط، خاصة من الفرقة الفنية ومن لواء الصواريخ، وتمكن الجيش من فرض السيطرة على أكثر من ثمانين في المائة من هذه المنطقة الحيوية.
ومع ذلك، ما زال العبور من الطريق الغربي ومن الطريق الجنوبي الغربي، أي من محوري قار يونس وسيدي فرج، محفوفا بالمخاطر بسبب بقايا عناصر المتطرفين المبعثرين هناك خاصة في المناطق التي يكثر فيها الشجر والمنحدرات الوعرة. ومن أراد المرور من بنغازي إلى إجدابيا غربا، لا بد أن يتوجه أولا إلى منطقة الأبيار (جنوب شرق) ثم يأخذ الطريق الجنوبي. وكما يقول ضابط في الجيش: «المنطقة الواقعة غرب بنغازي وهي منطقة قار يونس، تعد امتدادا جغرافيا لسيدي فرج، ما زال فيها أيضا مسلحون. ولا يمكن أن تقول إنها آمنة تماما، خاصة بالنسبة لتنقلات الأهالي والتجار».
جماعات المتطرفين داخل الصابري وسوق الحوت والليثي، وهم خليط من شبان ليبيين وأجانب، ما زالوا يحملون أسلحة القنص ويجهزون المفخخات. بينهم تونسيون ومصريون ويمنيون وآسيويون (من أفغانستان وباكستان). يتنقلون بالصواريخ المحمولة على الكتف وعلى السيارات، بين واجهات المتاجر المغلقة، مستغلين الحواري الضيقة والمباني السكنية المرتفعة. كان لديهم منذ البداية طموحات تتعارض مع طبيعة أهل بنغازي المسالمين. شعورهم بقرب الخسارة، يدفعهم لمزيد من التحصن والضرب، كما يقول قائد عسكري على محور الصابري.. «سنستنزف ما لديهم من أسلحة وذخيرة ومؤن. نراهن على الوقت».
يدور عدد هؤلاء المنتشرين في بنغازي حول ألف مقاتل، غزوا المدينة ولم يكتفوا بقدور الطعام التي اعتاد سكان بنغازي قديما تركها أمام أبواب بيوتهم من أجل سد جوع الغرباء. هؤلاء نوع من الغرباء الذين يريدون أخذ البيوت نفسها. يقول جمعة العلال أحد أبناء القبائل في حي الصابري، والذي فر من المدينة بسبب الحرب: الغرباء حطموا علينا الأبواب. أفارقة ومصريون وتونسيون.
منذ استقلال ليبيا في مطلع خمسينات القرن الماضي، ظهر في بنغازي الشعراء والروائيون ومحطات الإذاعة والضباط القوميون المتهورون الذين يريدون القفز إلى المستقبل، خصوصا أنه يوجد فيها فروع لنحو 280 قبيلة، بمن فيهم قبائل العبيدات والمغاربة والبراعصة والقطعان وقبائل أخرى من أولاد علي، وكذلك من قبائل مصراتة والبربر والتبو والطوارق. استمر الوضع على هذا الحال حتى أصبح البعض يطلق على بنغازي اسم «ليبيا المصغرة». يشير العلال إلى أنه حين تحدث مشكلة في بنغازي تتأثر بها كل المدن الليبية، لأن المدينة فيها «الداء والدواء لكل ليبيا».
ومثل غالبية القيادات الليبية سواء كانوا نوابا في البرلمان أو في القوات المسلحة، يقول النائب عميش بكل بساطة: «إذا حسمنا المعارك ضد المتطرفين في بنغازي، فستنتهي باقي مشكلات ليبيا تباعا». أو كما قال ضابط كبير في الجيش الليبي في مقابلة معه في مكتبه في المنطقة الشرقية من البلاد: «إذا حررنا بنغازي من الإرهابيين فإن تحرير باقي المدن منهم سيكون مجرد تحصيل حاصل».
عواطف نوري، ابنة بنغازي، وهي أم لولدين، انخرطت في العمل التطوعي في أيام الانتفاضة ضد القذافي التي استمرت ثمانية أشهر. كانت تريد لمدينتها أن تقود البلاد إلى مرحلة جديدة. عملت محررة في المكتب الإعلامي للثوار والذي كان موجودا في الطابق الثاني من مبنى المحكمة المطل على البحر. بعد سقوط النظام، بدأ الهدوء والانتعاش الاقتصادي يدخل المدينة منذ النصف الأول من عام 2012، وأخذت سلاسل المراكز التجارية تعلن عن نفسها في الضواحي.. «قُتل القذافي وبدأنا نتنفس الصعداء، لكن هذا لم يدم طويلا».
ونزحت عواطف مثل الألوف من أبناء بنغازي إلى أقارب لها في مدن أكثر هدوءا. أقامت في مدينة البيضاء في شرق بنغازي، وبدأت تراقب الأوضاع أملا في العودة القريبة إلى بيتها وتأسيس موقع إلكتروني إخباري على الإنترنت. تقول: «تمرض بنغازي لكنها لا تموت. والقضاء على المتطرفين مسألة وقت».
تأسست المدينة سنة 525 قبل الميلاد كواحدة من المستوطنات الإغريقية في شمال أفريقيا. ومنذ ذلك الوقت وهي تتعرض للمحن وتنهض من وسط الحطام، في كل مرة، لتبدأ من جديد. بالقرب من البحر يقف قصر المنارة بعد مائة سنة من بنائه على أيدي الإيطاليين. تهدمت أطرافه وثقبته قذائف الصواريخ. وفي الجانب الآخر تلتف الشوارع المظلمة حول البحيرة التي تتوسط المدينة. هنا مبنى التأمين المعروف أيضا باسم مبنى الضمان. لقد تعرض عشرات الليبيين حتى منتصف العام الماضي للجلد من شبان يرفعون الرايات السوداء. لكن اليوم أصبحت هذه الطرقات خاوية في انتظار حسم المعركة. حلقت طائرة عسكرية وقصفت مبنى التأمين الذي يتحصن فيه قناصة تنظيم أنصار الشريعة، وتطايرت الجدران وأعمدة التراب والدخان.
تنظيم أنصار الشريعة المصنف دوليا «منظمة إرهابية» والذي أعلن فيما بعد موالاته لـ«داعش»، ظهر لأول مرة في بنغازي عام 2013، أي بعد الهجوم الذي تعرضت له القنصلية الأميركية في المدينة، وأسفر عن مقتل أربعة أميركيين بينهم سفير الولايات المتحدة في ليبيا. وهو تنظيم منشق أساسا من تنظيم آخر يقوده متشددون في المدينة أيضا اسمه «كتيبة راف الله السحاتي». وكتيبة راف الله السحاتي منشقة هي الأخرى عن كتيبة «17 فبراير» التي تشكلت من زعماء المتطرفين في بنغازي، خلال الثورة ضد القذافي.
ظل التنظيم يتلقى الدعم من باقي المتطرفين في البلاد وبعض قادة الميليشيات التابعة لجماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة التابعة لتنظيم القاعدة، وهم ينظرون لأنفسهم باعتبارهم «حراس ثورة 17 فبراير»، حيث قام التنظيم باستهداف ضباط الجيش والشرطة واستهدف بالسيارات المفخخة معسكرات تابعة للقوات المسلحة ودمر مديرية الأمن بقذائف «آر بي جي». يقول زعماء الميليشيات إنهم يخوضون الحرب في بنغازي ضد «الليبراليين والعلمانيين والكفار، وضد حفتر وضد أنصار النظام السابق»، وإنهم يسعون لتطبيق الشريعة.
وتعرض التنظيم لعدة انتكاسات. المرة الأولى حين بايعت قيادات فيه تنظيم داعش. والمرة الثانية حين وافقت عدة ميليشيات كانت تدعمه من طرابلس ومصراتة على الدخول في الحوار الذي ترعاه الأمم المتحدة سعيا لتشكيل حكومة وفاق وطني برئاسة فايز السراج. ومنذ العام الماضي ظهرت تحالفات لـ«أنصار الشريعة» في بنغازي مع الدواعش الذين فروا من درنة، رغم أن دواعش درنة كانوا يقاتلون مجموعات من «أنصار الشريعة» التي رفضت موالاة التنظيم في تلك المدينة الصغيرة الواقعة إلى الشرق من بنغازي.
ورغم الدعم بالسلاح والمقاتلين فإن خليط المتطرفين في بنغازي خسر أيضا معسكر الدفاع الجوي ومعسكر الصاعقة ومحور بوعطني حتى زاوية قاعة الأفراح، بالإضافة إلى منطقة بعيرة وحي الزهور. وفي الجانب الآخر كان جنود وضباط كتيبة الجيش رقم 153 والقوات الخاصة تتقدم وهي تفكك الألغام من الشوارع، وفي المقابل انسحب المتطرفون إلى ما وراء مقر المعسكر رقم 319، بينما كان جنود من قوات الصاعقة يطاردون مجموعة من المتطرفين حاولت التقدم انطلاقا من منطقة الليثي.
ووفقا للمصادر العسكرية فإنه في كل مرة يحقق فيها الجيش تقدما في بنغازي، يزيد المتطرفون من الضغط لعرقلة جهود الجيش انطلاقا من المناطق الواقعة غرب المدينة، أي في سرت وهراوة والنوفلية التي يسيطر عليها «داعش» وفي إجدابيا التي يوجد فيها ميليشيا مناهضة للجيش.
وفي آخر لقاء جمعه بنواب وأعيان ووجهاء في المنطقة الشرقية من البلاد، قبل عدة أيام، شدد الفريق أول حفتر على قرب الإعلان عن تحرير بنغازي بفضل التحام أبناء الشعب مع الجيش، ليبدأ بعدها في تحرير سرت. وأن القوات المسلحة الليبية «ستنتصر في المعركة ضد الإرهاب».
يوميات الفوضى في ليبيا (5 من 5): «الشرق الأوسط» ترصد مواقع تخزين «غاز السارين» لدى ميليشيات ليبيا
(يوميات الفوضى في ليبيا 4 من 5): «داعش ليبيا» يشتري «مرسى بحريًا» قرب حدود تونس ويخزن ترسانة أسلحة في طرابلس
(يوميات الفوضى في ليبيا 3 من 5): تفاصيل خلافات المال والسلاح بين قادة ميليشيات طرابلس
يوميات الفوضى في ليبيا (1 من 5): «أشباح إجدابيا» يثيرون الفزع في منطقة الهلال النفطي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.