حرفة تجليد الكتب في سوريا تعيش رمقها الأخير

لم يتبق سوى 6 أشخاص في دمشق يعملون في هذه المهنة

مهنة تجليد الكتب فنيًا في دمشق
مهنة تجليد الكتب فنيًا في دمشق
TT

حرفة تجليد الكتب في سوريا تعيش رمقها الأخير

مهنة تجليد الكتب فنيًا في دمشق
مهنة تجليد الكتب فنيًا في دمشق

قبل عشر سنوات كنت وأنت تعبر شارع الحلبوني المعروف بشارع المكتبات ودور النشر وسط العاصمة دمشق، يجذبك أشخاص يجلسون في دكاكين واسعة وأمامهم أدوات بسيطة وكتب وأغلفة جلدية سوداء أو بألوان أخرى يزخرفون عليها ويخططون عناوينها واسم مؤلفها واسم صاحب هذه الكتب وغير ذلك.
إنها مهنة يدوية عريقة عرفتها دمشق منذ نحو قرن من الزمن مع تأسيس المكتبات العامة والخاصة والشخصية والمنزلية وتخصص بها عشرات بل مئات الأشخاص ومنهم من ورثها لأبنائه رغم أن مردودها المادي ضعيف، ولكن متعة التعامل مع الكتاب وتزيينه وزخرفته وحفظه بجلد سميك، جعلهم يثابرون في مهنتهم التي تتطلب الصبر والجلد والأناة وقبل كل شيء الموهبة والهواية ومعرفة فنون الخط، وفي المقابل كان هناك مئات الأشخاص والمؤسسات الخاصة والعامة ترغب بأن ترى كتبها مجلدة بشكل فني أنيق جميل يعرضونها في مكتبة توضع في صدر صالونات المنازل والمكاتب العامة والشخصية.
ولكن ومنذ بدء الأزمة والحرب السورية قبل نحو خمس سنوات خف بريق مهنة تجليد الكتب فنيا وجماليا، وفي المقابل عزف الكثيرون عن طلب تجليد كتب مكتباتهم الشخصية، بل وبسبب الوضع الاقتصادي الصعب باع الكثير منهم مكتباتهم كما فقد البعض هذه المكتبات بسبب النزوح والتهجير، فإما احترقت واهترأت مع البيت المدمر، وإما (عفشت) وصار مصيرها على بسطات الأرصفة وأسواق (التعفيش) لتباع بأسعار زهيدة لا تعادل ثمن تكلفة غلافها الجميل!.. كذلك عزفت المؤسسات عن ذلك حيث اعتبرها البعض (إسرافا) لا مبرر له خاصة في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
«وليد نابلسي - أبو فراس» - 66 عاما - ما زال مصرا على ممارسة مهنته التي يزاولها منذ نصف قرن في التجليد الفني للكتب من خلال محل كبير في أحد أزقة شارع الحلبوني، يوضح أبو فراس لـ«الشرق الأوسط»: «إنها مهنة عريقة وتعود لعشرينات القرن الماضي مع انتشار المكتبات العامة والخاصة وأنا أعمل بها منذ عام 1963 حيث تعلمتها من أخي الأكبر كما عشنا أجواء الكتب حيث كان والدي يمتلك مكتبة في سوق المسكية الدمشقي القديمة بجانب المسجد الأموي، وهي سوق تخصصت في المكتبات قبل أن يسحب سوق الحلبوني البساط من تحت قدميه في منتصف القرن الماضي، ولم يقتصر عملنا على تجليد الكتاب فنيا فقط بل على ترميم الكتب المهترئة أيضا».
وعن أدوات ومراحل العمل يشرح نابلسي: «أدواتنا هي قاطع كهربائي أو يدوي لقص الكرتون ومنشرة يدوية وثقابة لتثقيب الكتب وتخييطها يدويا وآلة نحاسية للتحمية من أجل لصق الزخرفة الذهبية على كعب الغلاف الجلدي، يأتينا الكتاب عادة على شكل أوراق أو عبارة عن ملازم أقوم بتخييطه وأركب له بطانة وأغريه وبعد أن يجف نعمل على تشذيبه من أطرافه الثلاثة ومن ثم ندوره ونضعه في ملزمة من الخشب حتى يثبت بعد ذلك نقوم بفكه من الملزمة الخشبية ونلصق عليه كرتون، ومن ثم قطعة الجلد مع فتيل له بروز مقطع لأربع قطع، وبعد تركيب الجلدة نعمل على تركيب الوجه الخارجي له بعد تبطينه بشكل جيد ليتماسك، ولتبدأ بعد ذلك مرحلة (التذهيب) أو الزخرفة اليدوية حيث نكتب ذهبيا باليد وهذه الكتابة لا تمحى مع مرور الزمن، وسابقا كنا نكتبها بشكل نافر من خلال أحرف جاهزة، ولكن أوقفنا العمل بها كونها متعبة وضارة حيث تضم الأحرف المعدنية مادة الرصاص المؤذية لصحة أجسامنا ولليدين وهي بطيئة أيضا، ولذلك في أواخر تسعينات القرن الماضي تحولنا لطريقة الخطاط الحراري باستخدام الريشة والكتابة اليدوية وهذه تتيح لنا التفنن أكثر والتنويع في الخط المستخدم، بينما الطريقة الأولى تقيدك الحروف.. حيث الصعوبة تكمن في التعامل معها من حيث تكبيرها وتصغيرها. وفي المحصلة ينتج لدينا كتاب مجلد بشكل فني متقن ومزخرف، وهناك أنواع للجلد المستخدم، ومنها: كعب (أي طرف الكتاب الجانبي الذي يظهر في خزائن المكتبات عند عرضه) جلد فني أو خروف أو ماعز (نفسه المستخدم في تصنيع الأحذية)، ولكن المخصص لنا كنا نحصل عليه من الدباغات بشكل طري ومبرغل، وهو من أجود أنواع الجلود، وهناك اللف القماشي وكنا قديما نستخدمه بشكل واسع ولكن حاليا تم استبداله بالبلاستيك. والمعروف هنا أن التجليد الفني كان مطلوبا لمعظم الكتب حيث يكون الكعب من الجلد الطبيعي، أما للمخطوطات والكتب القيمة كالموسوعات إن كان الكتاب سيقدم كهدية حيث نجلدها بكعب جلد واللف جلد أيضا.
مهنتنا (يتنهد النابلسي) في طريقها للانقراض لم يبق من العاملين فيها بدمشق سوى ستة أو سبعة أشخاص، لدي ولدان علمتهما المهنة وعملا بها لأشهر قليلة ولكنهما تركاها قائلين إنها متعبة وغير مربحة؟!.. تخيل (يطلب منا أبو فراس أن نتخيل حجم الكارثة التي حلت بمهنته) كنا في زقاقنا الصغير نسبيا خمسة فنيين نعمل في التجليد الفني حاليا وبعد الأزمة لم يبق غيري يعمل، لقد تخلوا عن مهنتهم وغيروا عملهم بسبب صعوبات كثيرة كعزوف الناس عن التجليد الفني لكتبهم واعتبارها (إسرافا) لا مبرر له في الوضع الحالي، وحتى صاروا ينظرون للكتب والمكتبة المنزلية كشيء كمالي!.. وكذلك بسبب صعوبة تأمين المواد اللازمة لعملنا وارتفاع أسعارها بشكل كبير في السنوات الأربع الأخيرة كالجلد الطبيعي الذي صار منتجوها يفضلون تصديره أو بيعه لمصنعي الأحذية حيث يحقق لهم مردودا ماديا أفضل من بيعه لنا نحن حرفيي تجليد الكتب؟!..».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».