الهوية «الجهادية» للنظام الإيراني

من البيعة إلى تصدير الثورة

اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية  الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
TT

الهوية «الجهادية» للنظام الإيراني

اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية  الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)
اية الله الخميني مؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية الراحل أثناء إلقاء خطبة أمام رجال دين وقوات الحرس الثوري في طهران عام 1982 (غيتي)

لن تصح قراءة النظام الإيراني، خطابا وممارسة، دون استحضار هويته الحاكمة كـ«نظام ثوري إسلامي»، يتماهى ويلهم الجماعات المتطرفة والاحتجاجية الدينية ويلتقي معها، ويحركها كما تحركه مفاهيم الخلافة والإمامة واستعادتها، كما تحفزه شعارات المقاومة العالمية ومبادئ الولاء والبراء، ومنطق الصحة والأحادية والرسالية، وممارسات التوسع وتصدير الثورة والدعوة وما شابه. وهذا الخطاب «الأصولي» والممارسة المتطرفة قد «تلطفهما» قليلا مساحيق الدبلوماسية والالتزام بالاتفاقات.
فضلا عن خطأ بعض المراقبين والخبراء الغربيين عن حصرهم مفهوم «الجهاد» في الطائفة السنية فقط! أو «الأصولية» في إطارها، يكشف ويجيب استجلاء الهوية «الجهادية» والآيديولوجية لنظام الولي الفقيه عن عدد كبير من الأسئلة. أهم هذه الأسئلة احتفاظه المستمر بعلاقات وطيدة مع كل الحركات «الأصولية» في المنطقة، وتأييدها له في كثير من ممارساته، التي كان آخرها الخلاف السعودي الإيراني بعد اقتحام السفارة وإعدام نمر النمر. هنا لاحظنا انحراف بعض الجماعات «السنية»، منها جماعات في لبنان مؤيدة للموقف الإيراني، وكذلك «حركة الصابرين» المنشقة عن حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين.
تكشف سيرة وخطاب مرشد الثورة الإيرانية آية الله الخميني عن إعجابه الشديد وتقديره لعلماء السنة الأتراك الذين واجهوا ثورة مصطفى كمال أتاتورك، وتأثره بكتابات الإسلام السياسي الباكرة عند حسن البنا وسيد قطب. كما تكشف ممارسات البيعة ورسالية تصدير الثورة عن نفس الهم «الأصولي الجهادي»، ويفسر ذلك العلاقات الجيدة التي احتفظت بها إيران مع مختلف «الإسلاميين» من «إسلام سياسي» حتى «القاعدة»، ودعمها ورعايتها لإنشاء أحزاب وأنصار الله وفروع جماعتها حيث وجدت موطئ قدم.
في أيامنا هذه، وعلى الساحات التواصلية، صار السباب الداعشي لعناصر «القاعدة» أنهم «أبناء إيران»، كما قال «أبو محمد العدناني» في خطاب مفاصلته لـ«القاعدة» و«أميرها» أيمن الظواهري «عذرا أمير القاعدة»، الذي بث في 12 مايو (أيار) 2014، وفيه التزام «داعش» بعدم استهداف إيران تبع أوامره، لكن التنظيم لم يلتزم أوامره في عدم استهداف عوام الشيعة: «لو كنا مبايعين لك لامتثلنا أمرك حتى لو كنا نخالفك الحكم عليهم. هكذا تعلمنا في السمع والطاعة. ولو كنت أمير الدولة لألزمتها بك ولعزلت من خالفك، بينما التزمنا طلبكم بعدم استهدافهم في إيران وغيرها». وهكذا يكتب كتاب «داعش» ضد منظّري «القاعدة» وأمثالها هذا التصريح لا التلويح.. بأنهم أبناء إيران.
إن الهوية «الأصولية» السياسية والمتطرفة التي تؤمن بالأمة قبل الدولة والمجتمع، وبالصراع مع العالم انتصارا وانتشارا، تمثل الأساس الفاعل في أداء ورؤية النظام الإيراني، ومشاكله في المنطقة والعالم، وإن أصابها تشوّش فهو ناتج عن كونها الحركة «الأصولية» الأولى والرائدة التي نجحت في تأسيس دولة قبل بها العالم، عكس دولة «داعش» وإمامها التي تتماهى معها في كثير من المفاهيم والأداء والنظم.
اكتشاف الهوية والمنطق الكامن في السلوك الإيراني يفض التشوّش الحادث من مراوغات الخطاب لدى الكثيرين، حين نجد شجبا إيرانيا للإرهاب، الذي تصم به كل من يواجه بقوة مشروعها، وإن كان معارضة معتدلة تواجه الأسد، بينما ترسل هي حتى تاريخه ما يقرب من مائتي ألف مقاتل طائفي لدعم بقايا نظامه، من ميليشيات ترفع ألوية كحزب الله و«فاطميين» و«الهزارة» وغيرها. كذلك فإنها تصف أي تدخل بالعدوان، ما دام لا يوافق هواها، كما كان الموقف من التحالف الدولي ضد «داعش» أو التحالف العربي ضد الانقلاب الحوثي، بينما تبرّر لتدخلها وتفاخر به ويذكره حلفاؤها، ففي يناير (كانون الثاني) الحالي صرح بشار الأسد بأنه لولا الدور الإيراني ما ظل صامدا! أو التدخل الروسي الذي تم بالتنسيق معها، أو تدخلها هي الممتد في العراق عسكريا وسياسيا.
إنها حركة «أصولية» بسمات وهوية دولة على مستوى الخارج، كما تعطي لداخلها سمات الدولة والانتخابات ولكن وفق ثوابتها كآيديولوجيا وكجماعة شمولية صلبة لا تقبل التغيير أو الاعتراض.
وسنحاول توضيح أبرز ملامح هذه الهوية «الأصولية» والمتطرفة، في ما يلي:
أولا - أساس البيعة وإمامة الولي الفقيه:
«إن البيعة مع الثورة والإمام الخميني هي بيعة مع النبي الأكرم - صلى الله عليه وسلم».. هكذا جاء تصريح مرشد الثورة الإيرانية وإمامها آية الله خامنئي أثناء استقباله للآلاف من سكان مدينة قم في التاسع من يناير الحالي، حسبما جاء في وكالة «إيرنا» الوكالة الرسمية الإيرانية. جاء حديث البيعة الخامنئية - التي يشبّهها ببيعة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) - أثناء دعوته للمشاركة في الانتخابات التشريعية - مجلس الشورى - التي تتزامن أيضا مع انتخابات مجلس الخبراء مطلع فبراير (شباط) المقبل، والتي استبعد منها 2970 مرشحا إصلاحيا من قبل مجلس الخبراء، لا لذنب أو تهمة غير مخالفتهم للدستور بمعارضتهم للولي الفقيه ونظامه.
إن البيعة للولي الفقيه، ذات الدلالة الدينية، حسب الخميني هي معيار أي عمل سياسي، بل تمثل هوية هذا النظام وأساسه الدستوري المتين، الذي لا يجوز الاعتراض عليه أو التعقيب على أحكامه ورؤاه، من هنا أزيح آية الله منتظري عن خلافة الخميني وعن مناصبه بعد اعتراضاته على إعدامات عامي 1988 و1989 أو مأساة الإصلاحيين في «الحركة الخضراء» عام 2009 لمجرد مطالبتهم بإعادة النظر في سلطات الولي الفقيه وصلاحياته رغم إيمانهم به وتبعيتهم له، ولا يزال مير حسين موسوي ومهدي كروبي رهن الإقامة الجبرية حتى تاريخه!
هكذا تدير البيعة المشهد السياسي الإيراني الداخلي - كما الخارجي - ففي حديثه المذكور يوم 9 يناير دعا خامنئي الجماهير المنصتة المستسلمة له لعدم التصويت إلا لمن يؤمن بالبيعة للثورة والولي الفقيه، قائلا لهم: «علینا أن ننتخب بشكل صحیح، وإذا كان هناك من یقدم قائمة انتخابیة تضم مرشحین متدینین ومؤمنین وثوریین ویسیرون علی نهج الإمام الخمیني (رهـ) فعلینا أن نثق بما یقولون ونصوت لهم، وإذا رأینا أنهم لا یهتمون كثيرا بقضایا الثورة والدین واستقلال البلاد، ویتابعون ما تقوله أمیرکا وغیر أمیرکا، فلا ینبغی أن نثق بما یقولونه».
ثانيا - خلافة شبه معصومة:
البيعة هنا كما المرشد ليست مجرد مترادفات تعبيرية في قاموس الثورة الإيرانية وغيرها من الحركات الاحتجاجية الإسلامية، بل مفاهيم شغالة ومتطابقة تماما، سنيها وشيعيها على السواء، وتمثل ركيزة التنظيم وبنيته الحاكمة، التي لا يجوز الاعتراض عليها أو مخالفتها سواء كان الشأن خارجيا أو داخليا على السواء، كما أن الثورة والتوسع و«الجهاد» من أجل ذلك، وفق منطلقات عقدية، تمثل قاسما مشتركا جامعا بين النظام الحاكم في إيران وبين مختلف هذه الجماعات.
وتبدو صفات الولي الفقيه وصلاحياته صفات وصلاحيات خليفة أو نبي، فحسب المادة الخامسة من الدستور الإيراني هو «أعدل وأعلم وأتقى رجل في الأمة»، وهو من يدير شؤون البلاد وفق ما جاء في المادة (107)، وتتوسع صلاحياته لأوسع من صلاحيات الشاه أو أي ملك كما لاحظ الإصلاحيون عام 2009، فتشمل مسؤولية القائد العام للقوات المسلحة، وإعلان الحرب، والتعيين والعزل من المناصب الآتية:
1) نصف أعضاء مجلس صيانة الدستور البالغ عدد أعضائه 12 عضوا.
2) رئيس السلطة القضائية.
3) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون.
4) القائد الأعلى لقوات الحرس الثوري الذي يتبعه رسميا.
5) القيادات العليا للقوات المسلحة وقوى الأمن.
وفرض الخميني وخليفته خامنئي مع هذه الصلاحيات الواسعة هيمنته على مجلس الشورى وعلى رئاسة الجمهورية، فأقال أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية الأول عام 1981 عندما تمرد على تعليماته، ووجه رسالة شديدة اللهجة إلى الرئيس (المرشد الحالي) علي خامنئي عام 1988 عندما اعترض على بعض ممارساته حين أجاز قانون العمل بعد أن عارضه مجلس صيانة الدستور.
ثالثا - تصدير الثورة الإسلامية:
سأل صحافي لبناني الخميني في 13 ديسمبر (كانون الأول) 1978، قبل الثورة بقليل: ألا تعتقدون أن دائرة الأحداث الإيرانية ستمتدّ إلى تركيا أيضا؟ فأجابه الخميني قائلا: «النهضة الإيرانية المقدسة نهضة إسلامية، لذا من الطبيعي أن يتفاعل معها جميع مسلمي العالم». ويقول في الذكرى الأولى للثورة الإسلامية في 11 فبراير 1980: «إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية، فما دامت صرخة (الشهادتين) لا تدوي في أنحاء المعمورة فالصراع موجود، وحيث وجد الصراع ضد المستكبرين في أي نقطة في العالم فنحن موجودون» (من كتاب تصدير الثورة كما يراه الخميني - مؤسسة تنظيم ونشر تراث الخميني الدولية.. من دون تاريخ). إن هذا النزوع الرسالي للصراع والسيادة خارج حدود الأوطان عبر مبدأ تصدير الثورة وعبر الصراع مع المستكبرين والشيطان الأكبر تتطابق فيه هوية النظام الإيراني مع الجماعات الأصولية تماما، ويفسر التدخلات الإيرانية المنحازة دائما لحلفائها في كل مكان، حتى هتف هاتفها في 22 سبتمبر (أيلول) سنة 2014 عقب سقوط صنعاء في يد الحوثيين بأنها غدت تسيطر على أربع عواصم عربية. من هنا تكررت عبارة «الشيطان الأكبر» في عشرة مجلدات هي مجموع ما كتب إمام الثورة الإيرانية ومرشدها آية الخميني 30 ألف مرة، وتكررت عبارة «لا شرقية ولا غربية» 20 ألف مرة، وتعبير دم الشهداء 50 ألف مرة! ونجد التقارب الأميركي الإيراني، ونجد الدماء و«الشهداء» يسقطون على مذبح تصدير الثورة والتوسع والتمدّد الإيراني.. الذي يستتبع بعض فقهائه سوريا حماية للأسد كمحافظة إيرانية جديدة، أو يدين بالولاء لدولتها حزب سياسي لا يرى اعتبارا أو التزاما بسياسة تفرضها دولته في لبنان!
إنها هوية «أصولية» معاصرة، تلاقى مع إيران كثير من ممثليها، أو هوية دولة ما قبل حديثة لا ترى الحدود سيادة أو التدخل والتوسع حرمة. من هنا اختلط الحديث عن الانتخابات المقبلة ببيعة الولي الفقيه، والعكس.



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».