«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

نظّر لها الفقه السياسي القديم

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
TT

«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه

عاش الفقه السياسي الإسلامي القديم والمعاصر معارك سياسية باسم الدين، وخاض تدافعا معرفيا مؤدلجا باسم الوحدة المذهبية، والسياسية. وكلما تطورت الخبرة العربية الإسلامية تطور معها شكل المواجهات، وتباينت الاجتهادات إلى حد الإخراج من الملة وتبرير استعمال العنف السياسي. ولعل المأزق الذي عاناه ويعانيه الفقه السياسي يختصر ارتباك الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في التنظير للسلطة، ولجوءه المستمر للتستر وراء التأصيل باسم «الأسلمة» واستعادة التراث السياسي.

صحيح أن التراث السياسي الإسلامي يعبّر عن مدركات وتقاليد معرفية لأمة الوحي الجامع، والمنتقل بالعرب من طور القبيلة المقاتلة لطور الأمة المستقرة الرسالية؛ لكن من الصحيح كذلك أن الفقر في التنظير السياسي طبقا لما جاءت به كليات القرآن والسنة الموجبة للعدالة والحرية حوّل الجهد الفكري للفقهاء باعتبارهم نخبة دينية، مكلفة بإيجاد فلسفة سياسية إسلامية، متفاعلة مع التوحيد العقدي والتحرر الإنساني، إلى مجرد منتج لأدبيات مبررة لشرعنة استعمال القوة للسيطرة على السلطة السياسية باسم التغلب تارة، وباسم عدم الخروج على الحاكم تارة أخرى.
فلو أخذنا مثال «الخلافة الإسلامية» وتنظير الفقه السياسي القديم، والفكر السياسي المعاصر لها، واستحضرنا تاريخ الصراع السياسي الذي عاشه الفقيه والمجتمع، سنجد أن مفهوم «الخلافة» في الفقه السياسي الإسلامي يدل لدى عموم المشتغلين في هذا الحقل المعرفي على ذلك النظام الذي طبقته السنة النبوية، وبعده «الخلفاء الراشدون» الأربعة في التجربة السياسية التي دامت نحو 32 سنة فقط. ومن هنا سأقدم تفسيرا مقتضبا لدواعي تقديس «الخلافة» المصنوعة والمكرسة فقهيا، بالتنبيه للحقائق العلمية التالية:
أولا: إنّ المسألة السياسية في الإسلام لم تعد مسألة فقهية. فمن الناحية المجتمعية، ورغم أنّ الخلافة كمفهوم تقليدي مرتبطة بالذاكرة وبالذهنية الجماعية للأمّة الإسلامية، فإنّ للخلافة عنصرين: الأول معنوي، والثاني مادي. العنصر المعنوي هو حديثي، ويمثله حديثان مطعون في صحتهما. الأول رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: «كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه». وروى الحديث أحمد والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة والطبري.. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وحسنّه الأرناؤوط.
أمّا الحديث الثاني فهو ما ورد عن سَفِينَةُ (رضي الله عنه)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: أمْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: أمسِكْ خِلاَفَةَ عَلِي.. قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً». رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
أمّا الجانب المادي الذي تحدثنا عنه أعلاه، فقد ارتبط بثلاثين سنة من التجربة لا غير. هذا هو مخزون الذاكرة الجماعية للأمّة وخبرتها حول الخلافة (وكانت الدولة جديدة على العرب، الذين كانوا قبل الإسلام قبائل شتى، لا خبرة لهم بأمور الدولة ومتطلباته). وبعده جاء الأدب السياسي السلطاني، لينظّر لطبيعة النظام السياسي في وسط قبلي وعشائري بدوي غير مكتمل الاجتماع من حيث القيم، والتقاليد الجماعية؛ وفي وقت ظهر فيه الحديث المكذوب، وأدرج ضمن الصراع السياسي بين صغار الصحابة، وتفاقم هذا الوضع خاصة ببروز ظاهرة الخروج والتعصّب لأهل البيت.
ثانيا: إنّ العودة للتراث السياسي أو استدعاءه لمخاطبة العقل الإسلامي المعاصر، لا بدّ أن يستحضر أنّ الواقع المجتمعي أنهى بحكم تعقيداته ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه الفقيه نفسه قادرا على بناء نظام معرفي لأمّة معيّنة. ذلك أنّ النظام المعرفي الإسلامي عبر التاريخ توسّع وبقيت مركزية القرآن والسنّة الصحيحة هي الثابت، في الوقت الذي توسعت فيه العلوم المتعددة والمرتبطة بالتمدّن. وحيث إنّ المجتمع تطوّر وتطوّرت معه تقاليد الحضارة الإسلامية وكرّست سلوكا وأعرافا وتقاليد مجتمعية وسياسية عبر زمن ممتد؛ عُرف بزمن التمدن وتداخل الجماعات في جماعات مجتمعية متعددة، فإنّ الخبرة التاريخية انتظمت في دول إسلامية مختلفة. وهكذا تطور الاجتماع السياسي، فظهرت نظم سياسية غير معروفة عند الفقيه، وغير منصوص عليها قرآنا وسُنّة صحيحة.
صحيح أنّ المعرفة الإسلامية التي نمت منذ القرن الأول للهجرة لم تأخذ صيغة المثالية السياسية، بل هدفت لبناء سلوك نظامي جماعي يكون فيه الفرد مندرجا ضمن دائرة القيم الجماعية بصفتها القيم الأسمى مقارنة بالقيم الفردية والقبلية، إلا أنّ قضايا المعرفة الإسلامية أكثر تعقيدا، والمسألة السياسية واحدة من المسائل التي عجز الفقه عن تنظيمها تنظيما نسقيا يتّسق وخبرة المجتمع الإسلامي؛ لذلك احتفى الفقه بالخلافة ووجوبها، دون أن يؤسس لنظام فقهي معرفي يجعل من الخلافة نظاما للأمر السياسي - أي للسلطة السياسية - يعرف التداول داخل دائرة الإرادة الطوعية للأمّة.
ولعل هذا العجز الفقهي الإسلامي البيّن حذا بالمنظومة الفقهية التقليدية لتكريس نظرية التغلب والخروج المسلح (رغم أننا نجد اختلافات داخل مدرسة التغلب، والشيء نفسه ينسحب على مدرسة الخروج) على الحاكم، لأنه المخرج المعرفي لوجوب الخلافة وديمومتها. وهكذا أصبح التغلب والخروج تبريرا أو مساوقة للنفوذ المجتمعي للقبيلة. ضمن هذا التطور أصبحت السنّة، خاصة الأحاديث النبوية، في كثير من الأحيان أشبه بالنصوص الآيديولوجية. ودخل المحدّثون والفقهاء في معارك مع منظومة أنتجوها، فيما تغلبت القبيلة ومنظومتها العنيفة على قيَم الأمّة القرآنية والمبثوثة في السُنّة الصحيحة، التي تستوجب وتفرض الشورى، باعتبارها مركز ثقل القيم السياسية الإسلامية.
ثالثا: حاضر المسلمين اليوم لم يخرج بشكل كبير عن إنتاجات خبرة المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتأثرة بالواقع الدولي وفعاليته، وهو كذلك سياق كانت فيه القبيلة والعشيرة قوة قاهرة تأثر بها الفقيه وطوقته في الغالب الأعم، من جهة نظره في النص الشرعي، ومن جهة واقعه وواقع السلطان والسلطة السياسية وعلاقة هذه الأخيرة بالفقه. ومعلوم أنّ هذا السياق لا يعتد كثيرا بالشورى المجتمعية والمشورة القرآنية، ولا يأخذ بعزيمة الأمّة وإرادتها الطوعية في الاختيار. وما دام هذا هو واقع الأمر- في عموم العموم حتى اليوم - فإنّ الحفاظ على وحدة الأمّة ليس واجبا دينيا فقط بالنسبة للفقيه، لكنه كذلك ممارسة معرفية تستدعي جمع الأدلة وإحاطتها بالقدسية اللازمة، حتى يفهم عموم الناس في المجتمع الإسلامي أنّ الخلافة هي النظام الواجب والوحيد لدولة المسلمين والدولة الإسلامية.
غير أنّ هذه الآيديولوجية الفقهية، وهي تركز على مثالية الخلافة، أضعفت بشكل كبير العنصر المعنوي، أي الحديث النبوي بالتعامل معه وظيفيا، وحشره في منظومة آيديولوجية خلطت الشريعة، باعتبارها نصوصا صريحة من القرآن والسنة الصحيحة، بالفقه الذي يعبّر عن اجتهادات بشرية في زمان ومكان معينين. وكذلك أضعفت المنظومة الفقهية التقليدية الجانب المادي المتمثل في تجربة الخلفاء الراشدين الثلاثينية للحكم، حيث إنها همّشت بشكل فظيع منظومة القيم التي صهرت الأمّة الإسلامية وجعلتها تعيش في ظلّ وحدة مطلقة في ما يخصّ نظام القيم. فالفقه التقليدي وهو يتعامل آيديولوجيا مع موضوع الخلافة ووجوبها، لم يطرح قدرة الأمّة المنتظمة وفق القيم الروحية نفسها للصحابة (رضوان الله عليهم) على إنتاج صيغ جديدة من الخلافة الإسلامية، تتجاوز ما تمّ إبداعه في السنوات الثلاثين من عمر الخلافة.
لقد ضيّع الفقه السياسي الإسلامي التقليدي إمكانية الاجتهاد السياسي من داخل منظومته القيمية، حين اعتبر الخبرة التاريخية مرجعية عليا. وها نحن اليوم نرى أنّ مشعل هذا التضييع الممارس فقهيا يجد له أنصارا في القرن الحادي والعشرين، وهم يحملون ما يزعمون أنه استعادة وإعلان الخلافة، وهي في حقيقة الأمر حلم لا يقرّه القرآن نصا ولا سنّة صحيحة، ولا تدعمه خبرة التجربة الإسلامية الممتدة في التاريخ أربعة عشر قرنا من الاجتماع السياسي، والأصح أربعة عشر قرنا من تعدد الاجتماع السياسي الإسلامي نظما حاكمة، والمتحد من حيث المرجعية العليا، والقيم المعرفية والسياسية.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس بالمغرب



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.