«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

نظّر لها الفقه السياسي القديم

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
TT

«الخلافة الإسلامية».. استثمار آيديولوجي للنص الديني

مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه
مشهد من العمل الدرامي «بوابة السعادة» ويتناول مرحلة السلطان العثماني سليم الثالث الذي كان يعتبر خليفة المسلمين في حينه

عاش الفقه السياسي الإسلامي القديم والمعاصر معارك سياسية باسم الدين، وخاض تدافعا معرفيا مؤدلجا باسم الوحدة المذهبية، والسياسية. وكلما تطورت الخبرة العربية الإسلامية تطور معها شكل المواجهات، وتباينت الاجتهادات إلى حد الإخراج من الملة وتبرير استعمال العنف السياسي. ولعل المأزق الذي عاناه ويعانيه الفقه السياسي يختصر ارتباك الفكر السياسي الإسلامي المعاصر في التنظير للسلطة، ولجوءه المستمر للتستر وراء التأصيل باسم «الأسلمة» واستعادة التراث السياسي.

صحيح أن التراث السياسي الإسلامي يعبّر عن مدركات وتقاليد معرفية لأمة الوحي الجامع، والمنتقل بالعرب من طور القبيلة المقاتلة لطور الأمة المستقرة الرسالية؛ لكن من الصحيح كذلك أن الفقر في التنظير السياسي طبقا لما جاءت به كليات القرآن والسنة الموجبة للعدالة والحرية حوّل الجهد الفكري للفقهاء باعتبارهم نخبة دينية، مكلفة بإيجاد فلسفة سياسية إسلامية، متفاعلة مع التوحيد العقدي والتحرر الإنساني، إلى مجرد منتج لأدبيات مبررة لشرعنة استعمال القوة للسيطرة على السلطة السياسية باسم التغلب تارة، وباسم عدم الخروج على الحاكم تارة أخرى.
فلو أخذنا مثال «الخلافة الإسلامية» وتنظير الفقه السياسي القديم، والفكر السياسي المعاصر لها، واستحضرنا تاريخ الصراع السياسي الذي عاشه الفقيه والمجتمع، سنجد أن مفهوم «الخلافة» في الفقه السياسي الإسلامي يدل لدى عموم المشتغلين في هذا الحقل المعرفي على ذلك النظام الذي طبقته السنة النبوية، وبعده «الخلفاء الراشدون» الأربعة في التجربة السياسية التي دامت نحو 32 سنة فقط. ومن هنا سأقدم تفسيرا مقتضبا لدواعي تقديس «الخلافة» المصنوعة والمكرسة فقهيا، بالتنبيه للحقائق العلمية التالية:
أولا: إنّ المسألة السياسية في الإسلام لم تعد مسألة فقهية. فمن الناحية المجتمعية، ورغم أنّ الخلافة كمفهوم تقليدي مرتبطة بالذاكرة وبالذهنية الجماعية للأمّة الإسلامية، فإنّ للخلافة عنصرين: الأول معنوي، والثاني مادي. العنصر المعنوي هو حديثي، ويمثله حديثان مطعون في صحتهما. الأول رواه الإمام أحمد عن النعمان بن بشير (رضي الله عنه) قال: «كنا جلوسا في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه. فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فَسُرَّ به وأعجبه». وروى الحديث أحمد والطيالسي والبيهقي في منهاج النبوة والطبري.. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»، وحسنّه الأرناؤوط.
أمّا الحديث الثاني فهو ما ورد عن سَفِينَةُ (رضي الله عنه)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): الْخِلاَفَةُ فِي أُمّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ سَفِينَةُ: أمْسِكْ عَلَيْكَ خِلاَفَةَ أَبي بَكْرٍ، ثُمّ قَالَ: وَخِلاَفةَ عُمَرَ وَخِلاَفَةَ عُثْمانَ، ثُمّ قَالَ لي: أمسِكْ خِلاَفَةَ عَلِي.. قال: فَوَجَدْنَاهَا ثَلاَثِينَ سَنَةً». رواه أحمد وحسنه الأرناؤوط.
أمّا الجانب المادي الذي تحدثنا عنه أعلاه، فقد ارتبط بثلاثين سنة من التجربة لا غير. هذا هو مخزون الذاكرة الجماعية للأمّة وخبرتها حول الخلافة (وكانت الدولة جديدة على العرب، الذين كانوا قبل الإسلام قبائل شتى، لا خبرة لهم بأمور الدولة ومتطلباته). وبعده جاء الأدب السياسي السلطاني، لينظّر لطبيعة النظام السياسي في وسط قبلي وعشائري بدوي غير مكتمل الاجتماع من حيث القيم، والتقاليد الجماعية؛ وفي وقت ظهر فيه الحديث المكذوب، وأدرج ضمن الصراع السياسي بين صغار الصحابة، وتفاقم هذا الوضع خاصة ببروز ظاهرة الخروج والتعصّب لأهل البيت.
ثانيا: إنّ العودة للتراث السياسي أو استدعاءه لمخاطبة العقل الإسلامي المعاصر، لا بدّ أن يستحضر أنّ الواقع المجتمعي أنهى بحكم تعقيداته ذلك الزمان الذي كان يعتبر فيه الفقيه نفسه قادرا على بناء نظام معرفي لأمّة معيّنة. ذلك أنّ النظام المعرفي الإسلامي عبر التاريخ توسّع وبقيت مركزية القرآن والسنّة الصحيحة هي الثابت، في الوقت الذي توسعت فيه العلوم المتعددة والمرتبطة بالتمدّن. وحيث إنّ المجتمع تطوّر وتطوّرت معه تقاليد الحضارة الإسلامية وكرّست سلوكا وأعرافا وتقاليد مجتمعية وسياسية عبر زمن ممتد؛ عُرف بزمن التمدن وتداخل الجماعات في جماعات مجتمعية متعددة، فإنّ الخبرة التاريخية انتظمت في دول إسلامية مختلفة. وهكذا تطور الاجتماع السياسي، فظهرت نظم سياسية غير معروفة عند الفقيه، وغير منصوص عليها قرآنا وسُنّة صحيحة.
صحيح أنّ المعرفة الإسلامية التي نمت منذ القرن الأول للهجرة لم تأخذ صيغة المثالية السياسية، بل هدفت لبناء سلوك نظامي جماعي يكون فيه الفرد مندرجا ضمن دائرة القيم الجماعية بصفتها القيم الأسمى مقارنة بالقيم الفردية والقبلية، إلا أنّ قضايا المعرفة الإسلامية أكثر تعقيدا، والمسألة السياسية واحدة من المسائل التي عجز الفقه عن تنظيمها تنظيما نسقيا يتّسق وخبرة المجتمع الإسلامي؛ لذلك احتفى الفقه بالخلافة ووجوبها، دون أن يؤسس لنظام فقهي معرفي يجعل من الخلافة نظاما للأمر السياسي - أي للسلطة السياسية - يعرف التداول داخل دائرة الإرادة الطوعية للأمّة.
ولعل هذا العجز الفقهي الإسلامي البيّن حذا بالمنظومة الفقهية التقليدية لتكريس نظرية التغلب والخروج المسلح (رغم أننا نجد اختلافات داخل مدرسة التغلب، والشيء نفسه ينسحب على مدرسة الخروج) على الحاكم، لأنه المخرج المعرفي لوجوب الخلافة وديمومتها. وهكذا أصبح التغلب والخروج تبريرا أو مساوقة للنفوذ المجتمعي للقبيلة. ضمن هذا التطور أصبحت السنّة، خاصة الأحاديث النبوية، في كثير من الأحيان أشبه بالنصوص الآيديولوجية. ودخل المحدّثون والفقهاء في معارك مع منظومة أنتجوها، فيما تغلبت القبيلة ومنظومتها العنيفة على قيَم الأمّة القرآنية والمبثوثة في السُنّة الصحيحة، التي تستوجب وتفرض الشورى، باعتبارها مركز ثقل القيم السياسية الإسلامية.
ثالثا: حاضر المسلمين اليوم لم يخرج بشكل كبير عن إنتاجات خبرة المجتمعات الإسلامية المتعددة والمتأثرة بالواقع الدولي وفعاليته، وهو كذلك سياق كانت فيه القبيلة والعشيرة قوة قاهرة تأثر بها الفقيه وطوقته في الغالب الأعم، من جهة نظره في النص الشرعي، ومن جهة واقعه وواقع السلطان والسلطة السياسية وعلاقة هذه الأخيرة بالفقه. ومعلوم أنّ هذا السياق لا يعتد كثيرا بالشورى المجتمعية والمشورة القرآنية، ولا يأخذ بعزيمة الأمّة وإرادتها الطوعية في الاختيار. وما دام هذا هو واقع الأمر- في عموم العموم حتى اليوم - فإنّ الحفاظ على وحدة الأمّة ليس واجبا دينيا فقط بالنسبة للفقيه، لكنه كذلك ممارسة معرفية تستدعي جمع الأدلة وإحاطتها بالقدسية اللازمة، حتى يفهم عموم الناس في المجتمع الإسلامي أنّ الخلافة هي النظام الواجب والوحيد لدولة المسلمين والدولة الإسلامية.
غير أنّ هذه الآيديولوجية الفقهية، وهي تركز على مثالية الخلافة، أضعفت بشكل كبير العنصر المعنوي، أي الحديث النبوي بالتعامل معه وظيفيا، وحشره في منظومة آيديولوجية خلطت الشريعة، باعتبارها نصوصا صريحة من القرآن والسنة الصحيحة، بالفقه الذي يعبّر عن اجتهادات بشرية في زمان ومكان معينين. وكذلك أضعفت المنظومة الفقهية التقليدية الجانب المادي المتمثل في تجربة الخلفاء الراشدين الثلاثينية للحكم، حيث إنها همّشت بشكل فظيع منظومة القيم التي صهرت الأمّة الإسلامية وجعلتها تعيش في ظلّ وحدة مطلقة في ما يخصّ نظام القيم. فالفقه التقليدي وهو يتعامل آيديولوجيا مع موضوع الخلافة ووجوبها، لم يطرح قدرة الأمّة المنتظمة وفق القيم الروحية نفسها للصحابة (رضوان الله عليهم) على إنتاج صيغ جديدة من الخلافة الإسلامية، تتجاوز ما تمّ إبداعه في السنوات الثلاثين من عمر الخلافة.
لقد ضيّع الفقه السياسي الإسلامي التقليدي إمكانية الاجتهاد السياسي من داخل منظومته القيمية، حين اعتبر الخبرة التاريخية مرجعية عليا. وها نحن اليوم نرى أنّ مشعل هذا التضييع الممارس فقهيا يجد له أنصارا في القرن الحادي والعشرين، وهم يحملون ما يزعمون أنه استعادة وإعلان الخلافة، وهي في حقيقة الأمر حلم لا يقرّه القرآن نصا ولا سنّة صحيحة، ولا تدعمه خبرة التجربة الإسلامية الممتدة في التاريخ أربعة عشر قرنا من الاجتماع السياسي، والأصح أربعة عشر قرنا من تعدد الاجتماع السياسي الإسلامي نظما حاكمة، والمتحد من حيث المرجعية العليا، والقيم المعرفية والسياسية.

* أستاذ العلوم السياسية
في جامعة محمد الخامس بالمغرب



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.