لقاء فني في مراكش بين حسن الكلاوي وونستون تشرشل

رئيس وزراء بريطانيا الأسبق صاحب الفضل في اختيار الفنان المغربي طريق الرسم

من أعمال ونستون تشرشل التي استوحاها من زياراته المتكررة لمراكش
من أعمال ونستون تشرشل التي استوحاها من زياراته المتكررة لمراكش
TT

لقاء فني في مراكش بين حسن الكلاوي وونستون تشرشل

من أعمال ونستون تشرشل التي استوحاها من زياراته المتكررة لمراكش
من أعمال ونستون تشرشل التي استوحاها من زياراته المتكررة لمراكش

هو لقاء ألوان وذكريات، ذاك الذي ضم أعمالا فنية تشكيلية للفنان المغربي حسن الكلاوي (1924)، وونستون تشرشل (1874 - 1965)، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. الأول ينحدر من مراكش، كما أنه نجل الباشا التهامي الكلاوي، إحدى أشهر الشخصيات التي طبعت تاريخ المغرب إبان فترة الاستعمار الفرنسي، فيما اشتهر الثاني بقيادته لبلاده خلال الحرب العالمية الثانية، كما عرف بعشقه للمدينة المغربية الحمراء وتردده عليها، وهو عشق ترجمه بأن جعلها موضوعا لعدد من رسوماته.
وليست مراكش وحدها ما يربط بين «الفنانين»، إذ إن سيرتي حياتيهما تلتقيان في لحظة تاريخية معينة، تجد مرجعها في علاقة الصداقة التي جمعت تشرشل بالباشا الكلاوي، والد حسن، الذي نقل للقيادي البريطاني، خلال إحدى زياراته لمراكش، تبرمه من رغبه نجله في دراسة واحتراف الفن التشكيلي، فما كان من تشرشل، بعد اطلاعه على عدد من أعمال حسن واقتناعه بموهبته، إلا إقناع باشا مراكش بالسماح لابنه بمتابعة مسار الفن والألوان، وكذلك كان، حيث سيشد حسن الرحال إلى باريس لدراسة الفن بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة.
وضم المعرض، الذي احتضنته قاعة العرض بفندق «المأمونية» الشهير، لوحات مستوحاة من واقع المغرب، بشكل عام، ومراكش، بشكل خاص: لوحات رغم تقديمها لمضمون وألوان مغربية، فإنها تحمل رؤيتين مختلفتين، نظرا لاختلاف تكوين ونظرة الفنانين. الأول، الذي يعد، اليوم، أحد كبار الفنانين التشكيليين المغاربة، فيما رسم الثاني أعماله انطلاقا من غرفته المفضلة، بفندق «المأمونية»، الذي كان ينزل به كلما حل بمراكش، إلى درجة أن ذكرى السياسي البريطاني مع الفندق صارت من ماضي البناية، ومن حاضرها، أيضا، حيث ينزل عدد من زبائنه بجناح يحمل اسم «ونستون تشرشل»، وهو نفسه الجناح الذي رسم المسؤول البريطاني من شرفته معظم أعماله الفنية «المراكشية».
ويمكن اعتبار معرض الكلاوي وتشرشل لحظة فريدة من نوعها، لأنها لا تجمع، فقط، بين فنان مغربي متميز له عالمه الخاص، وعرف بتوظيفه لتيمة الفرس في أعماله، وسياسي بريطاني طبع سنوات طويلة ومفصلية من التاريخ العالمي المعاصر، بل ترحل بنا إلى ذكريات بعيدة من تاريخ مراكش الحديث، بناسه وفضاءاته وأحداثه. لذلك، لا يمكن أن تلتقي أعمال فنان مغربي يصغر سياسيا بريطانيا بنحو نصف قرن إلا لسبب يثير متعة المتابعة والاكتشاف. تشرشل، الذي بدأ الرسم عام 1915، حتى يخفف عن نفسه وطأة الاكتئاب، ويسهم في تهدئة عقله المشغول، ربطت معظم أعماله بحمولة تاريخية، منحت مراكش قدرا منها، ومن ذلك أن يقنع تشرشل الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، بعد لقاء الدار البيضاء الشهير، عام 1943، بزيارة مراكش، قائلا له «لا يمكنك أن تقطع كل هذه المسافة لتصل إلى شمال أفريقيا من دون رؤية مراكش. هيا لنقض بها يومين. أحب أن أكون معك لمشاهدة منظر غروب الشمس على جبال الأطلس». وخلال هذه الزيارة سيرسم تشرشل لوحة أهداها لروزفلت على سبيل الذكرى، ويقال إنها اللوحة الوحيدة التي رسمها في زمن الحرب العالمية الثانية.
هكذا، يصير للقاء مراكش، الذي ضم أعمال الكلاوي (17 لوحة) وتشرشل (8 لوحات)، أكبر وأكثر من معرض فني، لأنه يستعيد تاريخا مضى، ويسرد حكاية إنسانية، كان لها دور في اختيارات مستقبلية للفنان المغربي ما كان لها أن تتحقق لولا تدخل تشرشل، ودوره في إقناع باشا مراكش بإمكانية أن يكون الفن خيارا مهنيا، قبل نحو سبعة عقود، في بلد يرزح تحت تقاليد محافظة، ويعاني من الاستعمار.
لذلك، نتساءل اليوم «ماذا لو لم يقنع تشرشل صديقه الباشا الكلاوي بالسماح لابنه بدراسة الفن، والالتحاق، في عام 1950، بالمدرسة الوطنية للفنون الجميلة بباريس، المدينة التي سيقضي بها 15 سنة، قبل عودته نهائيا إلى المغرب، حيث سيستقر بالرباط، بعد أن كان أقام سنة قبل ذلك معرضا بالدار البيضاء فرض به قيمته بين نقاد وعشاق الفن التشكيلي في المغرب؟ ماذا لو لم تكن هناك مدينة ساحرة (مراكش) وفندق متفرد (المأمونية) دفعا تشرشل إلى السفر جنوبا، بعيدا عن ضباب لندن، بحثا عن الهدوء وراحة البال؟».
يعترف حسن الكلاوي، في أكثر من مناسبة، بأنه يفكر، بشكل دائم، في أنه لولا ذلك اللقاء المصيري مع تشرشل عام 1943، لحال موقف والده من تعلقه بالرسم دون ممارسة حياة الفنان العجيبة. لذلك، يشدد على الشرف العظيم الذي يحظى به بمشاركة معرض مع إنسان، لا يحظى بمكانة عظيمة في التاريخ فقط، بل ولعب دورا كبيرا في حياته، ليس فقط لأنها رسومات بارزة، بل ولأنها تقص علينا هذه القصة الممتعة، التي جمعت تشرشل بالكلاوي الوالد والابن، وكذا مراكش، المدينة التي ظل تشرشل يردد أمام أصدقائه أنها «أحد أكثر الأماكن روعة في كل العالم»، وهو الذي حتى يخلد عشقه لها قام برسمها، ورسم المناطق المحيطة بها، قبل أن تتناقل أعماله، بعد رحيله، كبريات دور العرض والمزادات العالمية، إلى درجة أن لوحة «غروب الشمس فوق جبال أطلس»، التي رسمها من شرفة فندق «المأمونية»، بيعت بأكثر من 400 ألف دولار في مزاد بنيويورك.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)