فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

مسيرة الفنان اللبناني الشهير صاحب الصوت العذب.. انقلبت خلال سنتين رأسا على عقب

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»
TT

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

فضل شاكر.. من «أمير الرومانسية» إلى «مطلوب للإعدام»

من «أمير الرومانسية» إلى «مطرب متطرف مطلوب للإعدام».. هكذا يمكن اختصار مسيرة الفنان اللبناني صاحب الصوت الراقي والعذب فضل شاكر.
هذا التحول الجذري في حياته جعله يترك بصمة صادمة لدى جمهوره ومحبيه في لبنان والعالم العربي، فهو الذي يجمع عارفوه على أنه كان بعيدا كل البعد عن العنف والتعصب الديني، تحول خلال سنتين إلى متطرف لا يفارق الشيخ السلفي أحمد الأسير الداعي إلى «نصرة أهل السنة»، رافعا لواء الدفاع عن الثورة السورية.
شيئا فشيئا، بدأت مواقف شاكر تتصاعد مذهبيا وسياسيا على طريق الأسير، لتصل إلى التصويب المباشر على حزب الله اللبناني وأمينه العام حسن نصر الله الذي يدعم النظام السوري. أما الصدمة الكبرى فكانت في يونيو (حزيران) الماضي، إثر المعارك التي شهدتها صيدا (في جنوب لبنان) بين عناصر الأسير والجيش اللبناني، والتي انتهت بفرار كل من الأسير وشاكر إلى جهة مجهولة، وتحولهما إلى مطلوبين للعدالة، إلى أن أصدر الأسبوع الماضي، قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا، قراره الاتهامي بملف حوادث عبرا طالبا الإعدام لهما ولـ55 آخرين. وفي رد منه على هذا القرار، علق شاكر، المتواري عن الأنظار، عبر موقع «تويتر» قائلا: «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. هذا افتراء وظلم ما بعده ظلم، لم أقاتل ولم أقتل أحدا يوما ما». وفيما ترجح بعض المعلومات هروب كل من الأسير وشاكر إلى مخيم عين الحلوة الفلسطيني في صيدا، بات مؤكدا مقتل شقيق شاكر، عبد الرحمن، الذي كان يشغل منصب المسؤول العسكري لدى الأسير، الذي كان له الدور الأبرز في التبدل الذي طرأ على حياة أخيه.
ومنذ أحداث صيدا، لا يزال ظهور شاكر مقتصرا على مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما «تويتر». وقد أطلق في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أنشودة بمناسبة «عيد الميلاد»، وأصدر بعدها بيانا، معلنا فيه عدم صلته بالحسابات التي تحمل اسمه، باستثناء واحد، لا سيما أن المزيفة منها تظهره في صورة المحرض على القتل والتفجيرات ومحاربة الجيش اللبناني. وقال شاكر إن إطلاقه الأنشودة جاء لتوضيح ما يحمله الدين الإسلامي من احترام للدين المسيحي. وختم بيانه: «أنا لست إرهابيا أو تكفيريا.. أنا لبناني مسلم، وحقي أن أعيش فيه بكرامتي، رافضا الظلم من أحد أو على أحد».
هذا التحول الذي طرأ على حياة شاكر، والذي وإن لاقى ردود فعل سلبية من عدد كبير من عارفيه وأصدقائه في الوسط الفني والشعبي في لبنان والدول العربية، لا يزال يشكل صدمة بالنسبة لبعض من عمل معه.. «منذ بدايته الفنية عرف شاكر برقته وكرمه ومحبته لأصدقائه من مختلف الطوائف. لم تكن يظهر عليه أي إشارات أو سلوك يعكس تعصبه أو تطرفه»، بهذه الكلمات يصفه ناصر الأسعد، قائد أوركسترا شاكر السابق، الذي رافقه منذ عام 1995 حتى عام 2010. فيما يعد الموزع الموسيقي بلال الزين صورة شاكر التي أظهرته مجرما أنها لا تمت إلى حقيقة هذا الفنان بصلة، مؤكدا «لا يمكنه أن يقتل صرصورا».
ويقول الأسعد لـ«الشرق الأوسط»: «فضل من أكرم وأطيب الأشخاص الذين عرفتهم في حياتي، لكنني أعتقد أنه ضحية الوضع السياسي والطائفي المتردي في لبنان. كان محبا وصادقا وصدوقا مع كل من حوله. معظم أصدقائه المقربين منه كانوا مسيحيين، ومدير أعماله كان كذلك. رغم أنه إنسان مؤمن، فإنه لم يكن يتعامل بطائفية أو تعصب مع أحد»، مضيفا: «التحول الأكبر في حياة شاكر بدأ يظهر في عام 2010، حين أعلن في برنامج (تاراتاتا) أنه سيعتزل الفن عندما ينتهي تعاقده مع شركة (روتانا)». ولا يخفي الأسعد انزعاجه وتأثره من هذا التحول في حياة صديقه وكذلك اعتزاله، وهو ما سبق له أن عبر له عنه مرارا خلال اللقاءات التي كانت تجمعهما، لافتا إلى أنه بقي على تواصل دائم مع شاكر، وكان آخر اتصال بينهما قبل ثلاثة أيام من أحداث صيدا، لكن شاكر كان يبدو مقتنعا وواثقا بما يقوم به رافضا كل ما هو عكس ذلك.
ويعزو سبب التطرف الذي وصل إليه شاكر في الفترة الأخيرة، إلى تأثير وضغوط نفسية ومعنوية ومذهبية تعرض لها من الذين حوله. وبتأثر وحزن يعبر الأسعد عن صدمته من رؤية صديقه في مشاهد لا تعكس حقيقة هذا الإنسان، وفق تعبيره، لا سيما تلك التي ظهر فيها حاملا السلاح، واصفا الفيديو الذي ظهر فيه يعلن عن مقتل اثنين من حزب الله، بـ«الخطأ الكبير».
بلال الزين، الموزع الموسيقي الذي تعاون مع شاكر في أعمال كثيرة حققت نجاحات مميزة، يقول: «ما وصل إليه شاكر هو نتيجة لما يحصل في لبنان، ومن الظلم تصويره مجرما بهذه الطريقة. لا يمكن الحكم على ما حصل انطلاقا من وجهة نظر شخصية، بل الأمر يتطلب تحقيقا شفافا لإظهار الحقيقة». واستنكر الزين الأصوات التي علت متهمة شاكر بـ«المجرم»، كما أبدى استغرابه من الصورة التي ظهر فيها شاكر وكأنه يفاخر بقتل شخصين، واصفا إياه بـ«الحساس والهادئ، وهو ليس عنيفا، ولا يمكن أن يكون كذلك». ويعرب عن اعتقاده أن «أمورا كثيرة أدت إلى استفزاز شاكر وإلى هذا التحول في تفكيره وحياته، لكن ما يمكنني قوله هو أن شهرته وامتلاكه المال انعكس عليه سلبا، ووقع في حفرة حفرت له».
وعلى الرغم من أن شاكر لم يكن عضوا في نقابة الموسيقيين أو الفنانين، فإن نقيبة الفنانين المحترفين في لبنان سميرة بارودي رأت أن «الفنان كأي شخص آخر حر في تصرفاته وخياراته السياسية والدينية. كما تعتزل بعض الفنانات وترتدي الحجاب، قرر شاكر الاعتزال، لكن ما نرفضه هو حمل السلاح»، مضيفة: «بصفتنا مواطنين لبنانيين نحن ضد أي شخص يحمل السلاح في لبنان، وهذا الأمر لا يمكن تبريره. فحماية الناس هي مسؤولية الدولة والجيش، وعلينا تركهما يقومان بمهمتهما كما يجب».
ويبدو واضحا أن نشأة شاكر (45 عاما) وتربيته في مخيم عين الحلوة في صيدا ساهمت إلى حد كبير في هذا التبدل، فهو الذي ولد من أم فلسطينية وترعرع بين أحياء المخيم مغنيا على أسطح مبانيه وفي أعراسه الشعبية، عاد وبعدما اعتلى أهم المسارح العربية والعالمية إلى بيئته الأولى، متخليا عن نجوميته وممتلكاته، وأهمها مطعم «ألحان» الذي كان يملكه في صيدا، ومنزله الفخم، ليسكن في إحدى الشقق فيما عرف بـ«المربع الأمني» التابع للأسير. وقبل «اختفائه» بفترة قصيرة، كان قد بدأ بحملة لمساعدة المدمنين على المخدرات في منطقته وتقديم الدعم المادي لهم ومعالجتهم في مراكز متخصصة.
حتى زواجه لم يكن عاديا، فهو الفنان الرومانسي.. اختار أن يطلب يد الفتاة التي كانت حاضرة في إحدى حفلاته بأن تطلب أغنية لجورج وسوف كموافقة منها على الزواج به، وكان له ذلك في عام 1989، وهو في سن العشرين.
حياته وتربيته الفقيرة التي سبق لشاكر أن تكلم عنها، شكلت في ما بعد مادة دسمة لمعارضي مواقفه السياسية، لا سيما المتطرفة منها، مما جعل بعض الأصوات ترتفع لإدانته، بحجة أنه فلسطيني ولا يحق له التدخل في السياسة اللبنانية، وهو ما نفاه مرات عدة، مؤكدا أنه لبناني ولكن له الشرف أن يكون فلسطينيا، وهو الأمر الذي جعل الرئيس الفلسطيني محمود عباس يمنحه جنسية فخرية، لتعود بعدها وتظهر مطالبات بسحبها منه.
ظهور شاكر للمرة الأولى بصورته الجديدة «ملتحيا سلفيا» كانت في شتاء عام 2012، وهو ما فاجأ الجميع، واستدعى ردود فعل متناقضة تبعتها شائعات كثيرة تفيد باعتزال شاكر، ليعود بعدها وينفيها، مؤكدا أن لديه رسالة عليه تأديتها، وبأنه سيغني للحصول على المال ودعم الثورة السورية. ولم يتردد في الدفاع عن السلفيين بالقول: «أؤيد السلفيين وأنا معهم، هم مسلمون ليسوا متشددين، بل تابعون للسلف الصالح وللنبي محمد (صلى الله عليه وسلم)»، مضيفا: «كنت قد أعلنت أنني سأعتزل الفن لأنه محرم، لكن أؤمن بأنني أحمل رسالة لا بد من إيصالها قبل الاعتزال، وسأدعم الثورة السورية والنازحين السوريين وكل شخص مضطهد».
ومنذ ذلك الحين، توالت إطلالات شاكر، ومنها تلك التي أكد فيها اعتزاله، عبر حسابه الشخصي على موقع «تويتر»، قائلا: «انتصارا لنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، واعتذارا منا لتقصيرنا بحقه، أعلن اعتزالي من دون تردد أو رجوع، وذلك قربةً إلى الله عز وجل».
وفي نهاية يناير (كانون الثاني) 2013 أطل شاكر على قناة «روتانا خليجية»، عبر برنامج «لقاء الجمعة» متحدثا بشكل صريح ومباشر عن اعتزاله الفن، ومواقفه السياسية والدينية، مشيرا إلى أنه سيوظف صوته الجميل في الأناشيد الدينية، وشاركه في الحلقة الشيخ الأسير الذي قال إن فضل كان ولا يزال الداعم الأساسي والمباشر له ولأنصاره.
وفي الإطلالة نفسها لم يسلم الوسط الفني من انتقادات شاكر واصفا إياه بـ«الوسخ» وبأن قلوب الفنانين سوداء وأن الغيرة تسيطر على العلاقات فيما بينهم. وذكر أنه وصل إلى مرحلة صار يعد نفسه فيها شريكا في الدعوة إلى الإثم لإيقاع الناس بالمعصية، كونه كان يدعو في أغانيه إلى الحب والغرام. وأقسم بأن رصيده من أموال الفن بلغ 400 أو 500 ألف دولار، صرفت بشكل كامل، مشيرا إلى أن «أموال الفن تخلو من البركة»، وأكد أنه باع جميع العقارات التي كان يملكها من مدخول الفن باستثناء عقار واحد. وفي إطلالة ثانية على «قناة الرحمة»، في مارس (آذار) 2012، أعلن أن قرار الاعتزال كان نتيجة تردده على مسجد بلال بن رباح، والاستماع الجيد للشيخ الأسير، كاشفا عن تعرضه لعمليات تهديد من قبل النظام السوري ومن الموالين له في لبنان.
علاقة «شاكر - الأسير» تعمقت أكثر فأكثر مع التحركات السياسية و«الترفيهية» التي قام بها الأخير، حاملا لواء «الانفتاح على الآخر» ومواجهة سلاح حزب الله ودعم المعارضة السورية في الوقت عينه، قبل أن تصيبهما سهام الشائعات التي تمحورت حول خلافات مالية و«نسائية»، لافتة إلى خلاف بين الطرفين، وعزز هذه الفرضية مشاركة شاكر في مهرجان نظمته الجماعة الإسلامية في صيدا، الأمر الذي نفاه شاكر لاحقا، وأكده المسؤول السياسي لدى الجماعة الإسلامية في صيدا بسام حمود لـ«الشرق الأوسط»، قائلا: «علاقتنا بشاكر لم تتعد مشاركته في مهرجان صيدا حيث كان أحد المنشدين فيه». وفي حين أكد حمود ألا معلومات لديه عن مصير شاكر والأسير، لفت إلى أنه التقى شاكر مرة واحدة، وكان واضحا من سلوك الأخير أنه لا يملك الثقافة السياسية ويتكلم بعفوية بعيدا عن أي عمق أو خلفية سياسية، مضيفا: «وقدمت حينها نصيحة له بعدم التهور واعتماد أسلوب الإهانات الذي قد يؤدي به إلى الملاحقة القانونية، مهما كان الخلاف السياسي كبيرا مع أي طرف كان، وأبدى حينها تجاوبا، إلى أن فوجئنا بما حصل في عبرا».
وكان شاكر يتباهى بعلاقته مع الأسير من خلال نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، عددا من الصور التي تجمعهما في مناسبات عدة، وهي تعكس مدى العلاقة التي كانت تربط هذا الثنائي. وكما في الاعتصامات واللقاءات السياسية في عدد من المناطق اللبنانية، كانت هذه الصور تظهر الاثنين وهما يلعبان «بينغ بونغ»، كما في رحلة التزلج إلى «فاريا» التي حملت بدورها علامات استفهام وأدت إلى مواجهات بين الأسير وأنصاره من جهة والقوى الأمنية وبعض أهالي المنطقة الذين وصفوا الزيارة بـ«الاستفزازية»، إضافة إلى ذهابهما إلى طرابلس في شمال لبنان، في شهر ديسمبر (كانون الأول) 2012، لاستقبال جثامين اللبنانيين الذين سقطوا فيما عرف بـ«كمين تلكلخ» في سوريا.
ومن ضمن المواقف المؤيدة للثورة التي وصلت إلى أقصاها خلال الأشهر الأولى من عام 2013، كان مقطع الفيديو الذي ظهر فيه معلنا «عن تشكيل كتائب مقاومة حرة لنصرة أهل سوريا وتجهيز الشباب المسلم الذي يريد الدفاع عن أعراض المسلمات في سوريا»، مطالبا «الراغبين في تقديم الدعم المعنوي والمادي للجهاد في سوريا بالتواصل معه على بريده الإلكتروني».
لكن وفي شهر مايو (أيار) الماضي، خرق مطرب الرومانسية قرار اعتزاله بمشاركته في مهرجان « موازين» المغربي، معتليا المسرح ومغنيا العديد من أغنياته، من دون أن يتخلى عن «قضيته» في دعم المعارضة السورية، فإذا به يطلب فجأة من جمهوره أن يردد بعده «آمين» على بعض الأدعية التي أطلقها ضد بشار الأسد، مكررا مرات عدة «منك لله يا بشار» و«الله يدمر الأسد».
ومما لا شك فيه أنه كان لهذه المواقف الهجومية نتائجها السلبية على شاكر الذي لم يكن يتنقل في الفترة الأخيرة من دون مرافقين، وبدا ذلك واضحا من خلال الاعتداء الذي تعرض له منزله في صيدا، إثر معارك عبرا الأولى التي وقعت في 18 يونيو (حزيران) الماضي، بين حزب الله وأنصار الأسير، واتهم شاكر حزب الله وحركة أمل بتدبير هذا الاعتداء، وتوعد بالانتقام إذا لم يجر رد المقتنيات التي قال إنها تقدر بمليون دولار أميركي.
ورغم أنه كان قد عرض هذه الفيللا للبيع ليدعم بثمنها المعارضة السورية، فإنها لم تصمد طويلا، وأخذت نصيبها من الإحراق يوم اشتباكات عبرا في 23 يونيو الماضي، بعدما كانت قد صدرت بحقه في 8 يونيو الماضي، مذكرة توقيف بتهمة محاولته مع شقيقه قتل رجل الدين السني الموالي لحزب الله ماهر حمود، في مدينة صيدا.
أما ردود فعل جمهور شاكر لبنانيا وعربيا، فكان تناقضها واضحا عبر وسائل التواصل الاجتماعي.. ففي حين لقي دعم جزء منهم، واصفين إياه بـ«البطل»، كان الجزء الأكبر له بالمرصاد، واصفين إياه بـ«الإرهابي»، بينما ردد بعضهم عبارة: «من التأثير إلى الأسير ونهايته الأسر».
لكن، ومهما كانت ردود الفعل حول تحول هذا الفنان الرومانسي إلى مقاتل، فإن مسيرته الفنية و«الاعتزالية» ستبقى، على خلاف غيره، راسخة في أذهان جمهوره؛ كل حسب وجهة نظره. فهو نجح على امتداد نحو 20 عاما، أن يرسم هوية خاصة به لم يستطع أحد منافسته عليها، وعندما قرر أن يتوقف عن الغناء لم يكن أيضا اعتزاله عاديا.. هو القائل: «فني لم يعد يشرفني»، وطالب جمهوره بعدم سماع أغنياته لأنه يشعر أنه يشارك في الإثم، ولا تكاد صورته ممسكا بيد الفنانة يارا في «فيديو كليب» أغنية «خذني معك»، تغيب عن ذاكرة محبي أغنياته الرومانسية وهم يشاهدون مطربهم في صورته الجديدة.



منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
TT

منطقة الساحل... ساحة صراع بين الغرب وروسيا

طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)
طائرة ميراج 2000 فرنسية في قاعدة بنيامي، عاصمة النيجر، يوم 5 يونيو 2021 (أ.ب)

يسدلُ الستارُ على آخر مشاهد عام 2024 في منطقة الساحل الأفريقي، ورغم أن هذه الصحراء الشاسعة ظلت رتيبة لعقود طويلة، فإن المشهد الأخير جاء ليكسر رتابتها، فلم يكن أحد يتوقع أن ينتهي العام والمنطقة خالية من القوات الفرنسية، وأن يحل محلها مئات المسلحين الروس، وأنّ موسكو ستكون أقربَ من باريس لكثير من أنظمة الحكم في العديد من بلدان القارة السمراء.ورغم أن الفرنسيين كانوا ينشرون في الساحل أكثر من 5 آلاف جندي لمحاربة الإرهاب، بينما أرسل الروس بدورهم مرتزقة شركة «فاغنر» للمساعدة في المهمة نفسها، التي فشل فيها الفرنسيون، فإن الإرهاب ما زال يتمدد، بل إنه ضرب في قلب دول الساحل هذا العام، كما لم يفعل من قبل.

لم يكن الإرهاب حجةً للتدخل العسكري الأجنبي فقط، وإنما كان حجة جيوش دول الساحل للهيمنة على الحكم في انقلابات عسكرية أدخلت الدول الثلاث، مالي، النيجر وبوركينا فاسو، في أزمة حادة مع جيرانها في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، انتهت بالقطيعة التامة وانسحاب الدول الثلاث من المنظمة الإقليمية التي كانت حتى وقت قريب تمثّلُ حلماً جميلاً بالاندماج والتكامل الاقتصادي.

بالإضافة إلى تصاعد الإرهاب والعزلة الإقليمية، حمل عام 2024 معه لدول الساحل تداعيات مدمرة للتغيّر المناخي، فضرب الجفاف كثيراً من المحاصيل الزراعية، وجاءت بعد ذلك فيضانات دمّرت ما بقي من حقول وقرى متناثرة في السافانا، وتسببت في موت الآلاف، وتشريد الملايين في النيجر وتشاد ومالي وبوركينا فاسو.

صورة وزعها الجيش الفرنسي لمقاتلين من المرتزقة الروس خلال صعودهم إلى مروحية في شمال مالي في أبريل 2022 (الجيش الفرنسي - أ.ب)

الخروج الفرنسي

الساحل الذي يصنّف واحدة من أفقر مناطق العالم وأكثرها هشاشة، كان يمثّلُ الجبهة الثانية للحرب الروسية - الأوكرانية، فكان مسرحاً للصراع بين الغرب وروسيا، وقد تصاعد هذا الصراع في عام 2024، وتجاوز النفوذ السياسي والاستراتيجي، إلى ما يشبه المواجهة المباشرة من أجل الهيمنة على مناجم الذهب واليورانيوم وحقول النفط، والموارد الهائلة المدفونة في قلب صحراء يقطنها قرابة 100 مليون إنسان، أغلبهم يعيشون في فقر مدقع.

يمكن القول إن عام 2024 محطة فاصلة في تاريخ الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، خصوصاً أن الفرنسيين دخلوا المنطقة مطلع القرن التاسع عشر، تحت غطاء تجاري واقتصادي، ولكن سرعان ما تحوّل إلى استعمار عسكري وسياسي، هيمن بموجبه الفرنسيون على المنطقة لأكثر من قرن من الزمان، وبعد استقلال هذه الدول، ظلت فرنسا موجودة عسكرياً بموجب اتفاقات للتعاون العسكري والأمني.

ازداد الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل بشكل واضح، عام 2013، بعد أن توجّه تنظيم «القاعدة» إلى منطقة الساحل الأفريقي، ليتخذ منها مركزاً لأنشطته بعد الضربات التي تلقاها في أفغانستان والعراق، ومستغلاً في الوقت ذاته الفوضى التي عمّت المنطقة عقب سقوط نظام العقيد الليبي معمر القذافي عام 2011. حينها أصبح الفرنسيون يقودون «الحرب العالمية على الإرهاب» في الساحل، وأطلقوا عملية «سيرفال» العسكرية في يناير (كانون الثاني) 2013، التي تحوّلت عام 2014 إلى عملية «برخان» العسكرية التي كان ينفق عليها الفرنسيون سنوياً مليار يورو، وينشرون فيها أكثر من 5 آلاف جندي في دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد.

على وقع هذه الحرب الطاحنة بين الفرنسيين وتنظيم «القاعدة»، وانتشار الجنود الفرنسيين بشكل لافت في شوارع المدن الأفريقية، تصاعد الشعور المعادي لفرنسا في الأوساط الشعبية، ما قاد إلى انهيار الأنظمة السياسية الموالية لباريس، وسيطر عسكريون شباب على الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وكان أول قرار اتخذوه هو «مراجعة» العلاقة مع فرنسا، وهي مراجعة انتهت بالقطيعة التامة.

حزمت القوات الفرنسية أمتعتها وغادرت مالي، ثم بوركينا فاسو والنيجر، ولكن المفاجأة الأكبر جاءت يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 حين قررت تشاد إنهاء اتفاقية التعاون العسكري مع فرنسا، وهي التي ظلت دوماً توصف بأنها «حليف استراتيجي» للفرنسيين والغرب في المنطقة.

وبالفعل بدأ الفرنسيون حزم أمتعتهم ومغادرة تشاد دون أي تأخير، وغادرت مقاتلات «ميراج» الفرنسية قاعدة عسكرية في عاصمة تشاد، إنجامينا، يوم الثلاثاء 10 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، في حين بدأ الحديث عن خطة زمنية لخروج أكثر من ألف جندي فرنسي كانوا يتمركزون في تشاد.

ربما كان تطور الأحداث خلال السنوات الأخيرة يوحي بأن الفرنسيين في طريقهم إلى فقدان نفوذهم التقليدي في منطقة الساحل، ولكن ما يمكن تأكيده هو أن عام 2024 شكّل «لحظة الإدراك» التي بدأ بعدها الفرنسيون يحاولون التحكم في صيغة «الخروج» من الساحل.

صورة جماعية لقادة دول "الإيكواس" خلال قمتهم في أبوجا بنيجيريا يوم 15 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

لقد قرَّر الفرنسيون التأقلم مع الوضع الجديد في أفريقيا، حين أدركوا حجم الجهد الضائع في محاولة المواجهة والضغط على الأنظمة العسكرية المتحالفة مع روسيا، فهذه الأنظمة لا تتوقف عن «إذلال» القوة الاستعمارية السابقة بقرارات «استفزازية» على غرار اعتقال 4 موظفين بالسفارة الفرنسية في بوركينا فاسو، واتهامهم بالتجسس، وبعد عام من السجن، أُفرج عنهم بوساطة قادها العاهل المغربي الملك محمد السادس يوم 19 ديسمبر 2024.

وفي النيجر، قرَّر المجلس العسكري الحاكم، في يونيو (حزيران) 2024، إلغاء رخصة شركة فرنسية كانت تستغل منجماً لليورانيوم شمال البلاد، وسبق أن قرَّرت النيجر، على غرار مالي وبوركينا فاسو، منع وسائل الإعلام الفرنسية من البث في البلاد بعد أن اتهمتها بنشر «أخبار كاذبة».

يدخل مثل هذه القرارات ضمن مسار يؤكد أن «النقمة» تجاه الفرنسيين في دول الساحل تحوّلت إلى قرار نهائي بالقطيعة والخروج من عباءة المستعمِر السابق. وفي ظل مخاوف من اتساع رقعة هذه القطيعة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ما زالت قريبةً من باريس، وضع الفرنسيون خطةً لإعادة هيكلة وجودهم العسكري في أفريقيا، من خلال تخفيض قواتهم المتمركزة في السنغال، وكوت ديفوار، والغابون، وجيبوتي.

أسند الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهمة إعداد هذه الخطة إلى جان-ماري بوكل، حين عيّنه في شهر فبراير (شباط) 2024 مبعوثاً خاصاً إلى أفريقيا، وهي المهمة التي انتهت في نحو 10 أشهر، قدّم بعدها تقريراً خاصاً سلّمه إلى ماكرون، يوم 27 نوفمبر الماضي، ينصح فيه بتقليص عدد القوات الفرنسية المتمركزة إلى الحد الأدنى، وتَحوُّل القواعد العسكرية إلى «مراكز» أكثر مرونة وخفة، هدفها التركيز على التدريب العسكري، وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتعزيز الشراكات الاستراتيجية.

الأميركيون أيضاً

حين كان الجميعُ يتحدَّث خلال العقدين الأخيرين عن الانتشار العسكري الفرنسي، والنفوذ الذي تتمتع به باريس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، كان الأميركيون حاضرين ولكن بصمت، ينشرون مئات الجنود من قواتهم الخاصة في النيجر؛ لمساعدة هذا البلد في حربه ضد جماعات مثل «القاعدة»، و«بوكو حرام»، و«داعش». واستخدم الأميركيون في عملياتهم قاعدة جوية في منطقة «أغاديز» خاصة بالطائرات المسيّرة التي تمكِّنهم من مراقبة الصحراء الكبرى وتحركات «القاعدة» من جنوب ليبيا وصولاً إلى شمال مالي.

ولا يزال الأميركيون أوفياء لاستراتيجية الحضور العسكري الصامت في أفريقيا، على العكس من حلفائهم الفرنسيين وخصومهم الروس، ولكن التحولات الأخيرة في منطقة الساحل أرغمتهم على الخروج إلى العلن، خصوصاً حين بدأت مجموعة «فاغنر» تتمتع بالنفوذ في النيجر. حينها أبلغ الأميركيون نظام الحكم في نيامي بأنه لا مجال لدخول «فاغنر» إلى بلد هم موجودون فيه.

وحين اختارت النيجر التوجه نحو روسيا و«فاغنر»، قرَّر الأميركيون في شهر أغسطس (آب) 2024 سحب قواتهم من النيجر، وإغلاق قاعدتهم العسكرية الجوية الموجودة في شمال البلاد.

وأعلن الأميركيون خطةً لإعادة تموضع قواتهم في غرب أفريقيا، فتوجَّهت واشنطن نحو غانا وكوت ديفوار وبنين، وهي دول رفعت من مستوى تعاونها العسكري مع الولايات المتحدة، وتسلّمت مساعدات عسكرية كانت موجهة إلى النيجر، عبارة عن مدرعات وآليات حربية.

دبابة فرنسية على مقربة من نهر النيجر عند مدخل مدينة غاو بشمال مالي يوم 31 يناير 2013 (أ.ب)

البديل الروسي

لقد كانت روسيا جاهزة لاستغلال تراجع النفوذ الغربي في منطقة الساحل، وهي المتمركزة منذ سنوات في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى، فنشرت المئات من مقاتلي «فاغنر» في مالي أولاً، ثم في بوركينا فاسو والنيجر، كما عقدت صفقات سلاح كبيرة مع هذه الدول.

لكن موسكو حاولت في العام الماضي أن ترفع من مستوى تحالفها مع دول الساحل إلى مستويات جديدة. فبالإضافة إلى الشراكة الأمنية والعسكرية، كان الروس يطمحون إلى شراكة اقتصادية وتجارية.

ولعل الحدث الأبرز في هذا الاتجاه كان جولة قام بها وفد روسي بقيادة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، نهاية نوفمبر الماضي، وقادته إلى دول الساحل الثلاث: مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

كان الهدف من الجولة هو «تعزيز الشراكة الاقتصادية»، مع تركيز روسي واضح على مجال «الطاقة». فقد ضم الوفد الروسي رجال أعمال وفاعلين في قطاع الطاقة، وسط حديث عن اتفاقات لإقامة محطات لإنتاج الطاقة الشمسية، تتولى شركات روسية تنفيذها في الدول الثلاث.

وفي شهر سبتمبر (أيلول) الماضي، وقَّع رؤساء مالي وبوركينا فاسو والنيجر اتفاقاً مع وكالة الفضاء الروسية، ستقدم بموجبه الوكالة الروسية لهذه الدول «صور الأقمار الاصطناعية»؛ من أجل تعزيز مراقبة الحدود وتحسين الاتصالات، أي أن روسيا أصبحت العين الرقيبة على دول الساحل بعد أن أُغمضت العين الفرنسية. هذا عدا عن نجاح روسيا في اللعب بورقة الأمن الغذائي، فكان القمح الروسي أهم سفير لموسكو لدى دول الساحل، وفي العام الماضي أصبحت موسكو أكبر مورِّد للحبوب لهذه الدول التي تواجه مشكلات كبيرة في توفير حاجياتها من الغذاء، فأصبح القمح الروسي يسيطر على سوق حجمها 100 مليون نسمة.

رغم المكاسب التي حققتها روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، فإن عام 2024 حمل معه أول هزيمة تتعرَّض لها مجموعة «فاغنر» الخاصة، منذ أن بدأت القتال إلى جانب الجيش المالي، قبل سنوات عدة.

جاء ذلك حين تصاعدت وتيرة المعارك بين الجيش المالي والمتمردين الطوارق، إثر انسحاب مالي من اتفاقية الجزائر المُوقَّعة بين الطرفين عام 2015، ودخل الطرفان في هدنة بموجبها امتدت لقرابة 10 سنوات. لكن الهدنة انتهت حين قرر الماليون الزحف العسكري نحو الشمال حيث يتمركز المتمردون.

استطاع الجيش المالي، المدعوم من «فاغنر»، أن يسيطر سريعاً على كبريات مدن الشمال، حتى لم تتبقَّ في قبضة المتمردين سوى قرية صغيرة، اسمها تينزواتين، على الحدود مع الجزائر، وعلى مشارفها وقعت معركة نهاية يوليو (تموز) 2024، قُتل فيها العشرات من الجيش المالي و«فاغنر»، ووقع عدد منهم في الأسر.

كانت هزيمة مفاجئة ومذلة، خصوصاً حين نشر المتمردون مقاطع فيديو لعشرات الجثث المتفحمة، بعضها يعود لمقاتلين من «فاغنر»، كان من بينهم قائد الفرقة التي تقدّم الدعم للجيش المالي من أجل استعادة السيطرة على شمال البلاد.

طائرة ميراج فرنسية تُقلع من قاعدة في إنجامينا... (أ.ف.ب)

المفاجأة الأوكرانية

اللافت بعد هزيمة «فاغنر» والجيش المالي في «معركة تينزواتين» هو اكتشاف دور لعبته أوكرانيا في دعم المتمردين من أجل كسر كبرياء روسيا، من خلال إذلال «فاغنر»، وهو ما أكدته مصادر أمنية وعسكرية أوكرانية.

تحدَّثت مصادر عدة عن حصول المتمردين في شمال مالي على تدريب خاص في أوكرانيا، واستفادتهم من طائرات مسيّرة حصلوا عليها من كييف مكّنتهم من حسم المعركة بسرعة، بالإضافة إلى معلومات استخباراتية وفّرتها لهم المخابرات الأوكرانية وكان لها الأثر الكبير في الهزيمة التي لحقت بقوات «فاغنر» وجيش مالي.

لم يكن لأوكرانيا، في الواقع، أي نفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، ولا يتجاوز حضورها سفارات شبه نائمة، لكنها وبشكل مفاجئ ألحقت بروسيا أول هزيمة على صحراء مالي، وأصبحت تطمح لما هو أكثر من ذلك. ولكن مالي أعلنت بعد مرور أسبوع على «معركة تينزواتين»، قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا، وتبعتها في ذلك النيجر وبوركينا فاسو، كما تقدَّمت مالي بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي تتهم فيها أوكرانيا بدعم «الإرهاب» في منطقة الساحل الأفريقي.

رغم مكاسب روسيا في الساحل، إلا إن عام 2024 حمل معه أول هزيمة لمجموعة «فاغنر» منذ أن بدأت القتال إلى جانب جيش مالي

قادة مالي الكولونيل أسيمي غويتا، والنيجر الجنرال عبدالرحمن تياني، وبوركينا فاسو النقيب إبراهيم تراوري خلال لقاء لـ "تحالف دول الساحل" في نيامي، عاصمة النيجر، يوم 6 يوليو الماضي (رويترز)

خطر الإرهاب

في 2024 كثّفت جيوش دول الساحل حربها ضد التنظيمات الإرهابية، ونجحت في تحقيق مكاسب مهمة، وقضت على مئات المقاتلين من تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقد ساعدت على ذلك الشراكة مع روسيا، حيث حصلت جيوش الساحل على أسلحة روسية متطورة، كما كان هناك عامل حاسم تَمثَّل في مسيّرات «بيرقدار» التركية التي قضت على مئات المقاتلين.

لكن الخطوة الأهم في الحرب، جاءت يوم 6 مارس (آذار) 2024، حين أعلن قادة جيوش دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو إنشاء «قوة عسكرية مشتركة»؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة، خصوصاً في المناطق الحدودية، ما قلّص من قدرة التنظيمات الإرهابية على التنقل عبر الحدود.

في هذه الأثناء قرَّرت دول الساحل رفع مستوى هذا التعاون مطلع يوليو 2024، من خلال تشكيل «تحالف دول الساحل»؛ بهدف توحيد جهودها في مجال محاربة الإرهاب، ولكن أيضاً مواقفها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، قبل أن تتجه نحو تشكيل عملة موحدة وجواز سفر موحد.

في غضون ذلك، لم تتوقف التنظيمات الإرهابية عن شنِّ هجماتها في الدول الثلاث، ولعل الهجوم الأهم في العام الماضي ذاك الذي نفَّذه تنظيم «القاعدة» يوم 17 سبتمبر الماضي ضد مطار عسكري ومدرسة للدرك في العاصمة المالية باماكو. شكّل الهجوم الذي خلّف أكثر من 70 قتيلاً، اختراقاً أمنياً خطيراً، أثبت من خلاله التنظيم الإرهابي قدرته على الوصول إلى واحدة من أكثر المناطق العسكرية حساسية في قلب دولة مالي.

في يوم 28 يناير 2024 أعلنت الأنظمة العسكرية الحاكمة، في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، التي فرضت عقوبات ضد دول الساحل إثر الانقلابات العسكرية التي وقعت فيها، وفي يوليو عادت لتُشكِّل «تحالف دول الساحل».

يؤكد التحالف الجديد رغبة هذه الدول في الانسحاب من المنظمة بشكل نهائي، ولكنه في المقابل يرسم ملامح الصراع الدولي في المنطقة. فتحالف دول الساحل يمثّل المحور الموالي لروسيا، أما منظمة «إيكواس» فهي الحليف التقليدي لفرنسا والغرب.

ورغم أن منظمة «إيكواس» في آخر قمة عقدتها خلال ديسمبر الحالي، تركت الباب مفتوحاً أمام تراجع دول الساحل عن القرار، ومنحتها مهلة 6 أشهر، إلا أن القادة العسكريين لدول الساحل ردوا على المنظمة بأن قرارهم «لا رجعة فيه».