رحيل الفنان حمدي أحمد.. بطل «القاهرة 30»

شخصية «محجوب عبد الدايم» وضعته داخل دائرة الأضواء

الراحل حمدي أحمد
الراحل حمدي أحمد
TT

رحيل الفنان حمدي أحمد.. بطل «القاهرة 30»

الراحل حمدي أحمد
الراحل حمدي أحمد

غيب الموت، مساء أول من أمس، الفنان المصري القدير حمدي أحمد عن عمر يناهز 82 عاما بعد صراع طويل مع المرض. وشيع المئات من محبيه جثمان الراحل أمس من مسجد الحصري بمدينة 6 أكتوبر بالجيزة (غرب القاهرة)، بحضور عدد كبير من الفنانين والفنانات من جيل الفنان الراحل، ثم ووري جثمان بطل «القاهرة 30» في مقابر الأسرة بضاحية 6 أكتوبر.
وتعد شخصية محجوب عبد الدايم، البطل الحقيقي للرواية التي كتبها الأديب الكبير نجيب محفوظ «القاهرة الجديدة»، والتي تم تجسيدها في فيلم «القاهرة 30»، هي الأشهر في تاريخ الراحل حمدي أحمد، والتي وضعته على سلم «النجومية» بعد ذلك.
وتدور أحداث الفيلم في ثلاثينات القرن العشرين، حيث يعيش الشاب محجوب عبد الدايم (حمدي أحمد) الوافد من صعيد مصر حياة فقيرة في القاهرة، ويتعرف على ابن قريته سالم الإخشيدي، وهي الشخصية التي جسدها الفنان أحمد توفيق، الذي يطلب منه أن يساعده على الحصول على وظيفة، فيعرض عليه وظيفة مقابل أن يتزوج إحسان، وهي التي جسدتها سندريلا السينما المصرية الفنانة الراحلة سعاد حسني، عشيقة قاسم بك، الذي أدى دوره الفنان الراحل أحمد مظهر.
وحمدي أحمد من مواليد نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1933، متزوج وله بنتان (شرويت وميريت)، وولد (محمود)، ويعمل وكيلا للنائب العام.
وتوالت ردود الفعل على رحيل بطل «القاهرة 30» على موقعي التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر»، أمس، من الفنانين، فوضع الفنان أحمد السقا، صورة الراحل على صفحته على «فيسبوك» وكتب عليها: «ربنا يرحمك برحمته.. أستاذ أحمد».
بينما نشر الفنان محمد رمضان صورة لحمدي أحمد بـ«فيسبوك» وعلق عليها قائلا: «الله يرحمه ويحسن إليه ويسكنه فسيح جناته الممثل المحترم».
أما الفنان صلاح عبد الله فكتب «يا يناير 2016 بداخلي كلام لا أقدر البوح به؛ لكن بدموعي بقول: ألف رحمة ونور يا عمنا وأستاذنا».
وقال الفنان خالد النبوي على صفحته بـ«تويتر»: «الفنان الكبير حمدي أحمد.. أحد أهم صناع فن الأداء أدعو الله لك بالرحمة».
وكانت للفنان الراحل ميول سياسية، واعتقل من قبل أثناء الاحتلال الإنجليزي على مصر عام 1949، وكان عمره 16 سنة لمشاركته في المظاهرات الاحتجاجية ضد الاحتلال البريطاني لمصر، وكان عضوا في البرلمان المصري في عام 1979.
وكان آخر أعماله السينمائية فيلم «صرخة نملة» مع المخرج سامح عبد العزيز والفنان عمرو عبد الجليل عام 2011، الذي جسد فيه شخصية رجل أعمال انتهازي.
تخرج الراحل في معهد الفنون المسرحية عام 1961، وكان أيضا يدرس بكلية التجارة في معهد الفنون المسرحية؛ ولكنه ترك كلية التجارة واستمر بمعهد الفنون المسرحية.
وفي عام 1961 التحق بفرقة التلفزيون المسرحية، وفاز بجائزة أحسن وجه جديد عام 1966، وشغل منصب مدير المسرح الكوميدي عام 1985، وحصل على الجائزة الأولى عام 1967 من جامعة الدول العربية عن دوره في فيلم «القاهرة 30»، كما حصل على جائزة عن فيلم «أبناء الصمت».
قدم الراحل ما يزيد على 35 مسرحية و25 فيلما سينمائيا و30 فيلما تلفزيونيا و89 مسلسلا تلفزيونيا وما يزيد على 3000 ساعة إذاعية.
كانت انطلاقة حمدي أحمد الأولى في السينما في عام 1966، حين قدم 3 أفلام «وداعا أيها الليل»، و«هو والنساء»، و«القاهرة 30». وفي عام 1968 قدم فيلم «ثلاث قصص»، و«واحد في المليون» عام 1970، وفيلم «صور ممنوعة» عام 1972 من إخراج أشرف فهمي، قصة وسيناريو وحوار رأفت الميهي.
النقاد قالوا عن أداء الراحل إنه كان يغلب عليه البساطة، وكان ينتمي لمدرسة «السهل الممتنع»، واعتبره المخرج الكبير يوسف شاهين حالة خاصة، حيث قدمه في «الأرض»، حيث جسد شخصية «محمد أفندي»، ثم «العصفور» 1972، ثم في «اليوم السادس» عام 1986، وشارك مع المخرج توفيق صالح في فيلم واحد وهو فيلم «المتمردون» عام 1968، وفي عام 1974 قدم مع المخرج محمد راضي فيلم «أبناء الصمت».
آراؤه السياسية أثرت كثيرا في مشواره في فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك؛ لكنه ظل على مبادئه، فكان يكتب مقالات في الكثير من الصحف المصرية، حتى توقف عن الكتابة تماما.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)