مقابر الكومنولث.. شواهد غربية وتذكارات في قلب الخرطوم

يرتادها الناس وذوو القتلى منذ الحرب العالمية

مقابر الكومنولث وسط الخرطوم
مقابر الكومنولث وسط الخرطوم
TT

مقابر الكومنولث.. شواهد غربية وتذكارات في قلب الخرطوم

مقابر الكومنولث وسط الخرطوم
مقابر الكومنولث وسط الخرطوم

لو لا «الصليب» الذي يلوح من بعيد ومبنى الكنيسة الكاثوليكية، لبدا المكان حديقة خضراء وسط العاصمة السودانية الخرطوم، حديقة صغيرة وجميلة، لكنها في الوقت ذاته مقبرة، هي «المقبرة التذكارية» لرفاة قتلى دول الكومنولث «الحلفاء» أثناء الحرب العالمية الثانية، وللذين بقيت رفاتهم مجهولة المكان، ومقبرة للجنود البريطانيين متعددي الجنسيات الذين قتلوا أثناء معارك الدولة المهدية في السودان مع القوات الغازية.
وتبدو المقبرة كأنها منتزعة من (الريف الإنجليزي)، تحيطها الخضرة، وتحفها الزهور، حافظت الخارجية البريطانية عليها نظيفة وخضراء، وكلفت حارسًا وجناينيًا للحفاظ على الخضرة التي تطل منها، ولتشذيب النجيل الطبيعي وسقاية الورد، ووفرت بها كتيبات تعريفية تتضمن أسماء القتلى وأماكن استشهادهم، والقوات التابعة لها، ولا تغفل حتى الإشارة إلى ذويهم، إضافة إلى توفير دفاتر فخمة لتوقيعات الزوار.
وتضج المقابر ذات الشواهد الرخامية الغربية، التي تعود وفاة بعض من نقشت أسماؤهم عليها، إلى نهايات القرن التاسع عشر، فيما تعود أخرى إلى أواسط القرن العشرين، وتنتصب إلى الغرب منها (الكنيسة الكاثوليكية)، وشرقها مقبرة النصارى، وتقع كلها على بعد أمتار من خط السكة الحديد، ومن مدارس كمبوني الشهيرة التي تحمل اسم (سان فرانسيس) والتي تعلم فيها معظم أبناء الطبقة البرجوازية السودانية، في أكثر مناطق الخرطوم حيوية.
ومنذ تموضع المقبرة في مكانها الحالي عام 1960، فإن دفاتر زوارها وفقًا للحارس الذي تحدث للصحيفة، ظلت تستقبل توقيعات زوار بريطانيين، وسودانيين، وكنديين، وفرنسيين، وأستراليين، رسميين وسائحين من جنسيات مختلفة، وبعض أفراد أسر القتلى، فيدونون توقيعاتهم وتعليقاتهم عليها، تعبيرًا عن وفاء رسمي وشعبي للقتلى الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل التاج البريطاني.
ودأب الزوار على التعبير عن وفائهم لمن قتلوا من أجل بريطانيا العظمى على تدوين تعليقات من قبيل: «لن ننساكم، شكرًا لكم»، أما أطول تعليق شهدته «الشرق الأوسط» فيعود إلى سفير بريطانيا السابق في الخرطوم (بيتر تيبر)، الذي زار المكان، وبعد وضع إكليل الزهور التقليدي دون في دفتر الزوار: «في ذكرى من قضوا، نعمل على إنهاء الصراعات»، وأضاف: «لقد تكرمت حكومة السودان بتوفير الموقع الذي جُمعت فيه رفات الجنود، الذين قضوا نحبهم في الحرب من مختلف المواقع، وهو يُمثل المكان الأخير الذي يرقد فيه نحو ألف من ضحايا الحرب من عدة دول، سقط بعضهم في السودان وإثيوبيا وإريتريا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية وغيرهما من الحملات».
وتؤكد النقوش الرخامية التعريفية أن المقبرة المشيدة 1960، تضم من قتلوا أثناء الخدمة العسكرية البريطانية من أنحاء السودان، بينهم من قتلوا في معارك 1885 - 1886، وهي المعارك الفاصلة بين الثوار والقوات البريطانية والتركية والمصرية، بالإضافة إلى قتلى والحملات البريطانية المتعددة حتى عام 1956، وقتلى الحرب العالمية الثانية، وعددهم 424.
ويتموضع في الناحية الغربية من المقبرة (نصب الخرطوم التذكاري)، ويحمل أسماء قتلى الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945) من جنود الحلفاء المجهولين، ونقش على النصب الرخامي المهيب بالعربية والإنجليزية إن «الضباط والجنود الذين حظيت أسماؤهم بشرف الذكر هنا، قد وهبوا حياتهم لوطنهم، وهم في الخدمة العسكرية، بإرتريا وشمال الحبشة والسودان، وليس لهم قبور معلومة».
ويبلغ مجموع مقابر شهداء الحرب العالمية الثانية يبلغ 341 مقبرة، 9 منها تابعة للقوات البحرية، 174 للجيش، 155 للقوات الجوية، و3 أخرى لـ198 بريطانيًا، و8 كنديين، و6 أستراليين، ونيوزيلندي، و53 من جنوب أفريقيا، و34 هنديًا، و17 من شرق أفريقيا، وقبرصي، وروديسي، وسوداني، واثنين من البلجيك، وأربعة فرنسيين، وخمسة يونانيين، وسبعة بولنديين، وإثيوبي.
وتكشف التدوينات الرخامية على (نصب الخرطوم التذكاري) أن أكثر من 590 جنديًا - 73 منهم بريطانيون، وثلاثة جنوب أفريقيين، 514 هنديًا - قتلوا أثناء الحرب العالمية الثانية، في حملات (السودان، وإرتريا، وشمال إثيوبيا)، وظلت قبورهم مجهولة، ليرمزوا للجندي المجهول.
وتعد المقبرة التذكارية واحدة من المزارات السياحية والآثار في الخرطوم التي تحكي قصة حروب (بريطانيا العظمى)، وعظمة احتفائها بمن شاركوها القتال، وهي مكان غير مسبوق وغير معهود في الثقافات الشرقية وفي الخرطوم، المدينة التي أزالت دون أن يطرف لها جفن (نصب الجندي المجهول)، وجعلت من مكانه قرب محطة السكة الحديد، وكلية كتشنر الطبية - كلية الطب جامعة الخرطوم حاليًا - تقاطعًا قبيحًا لحركة سير.



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».