لم يكن يخطر بذهن العم محمد قضماني «أبو بدر» الذي يلامس الثمانين من العمر أن تتطور الأمور إلى ما آلت إليه، فأبو بدر الذي حصل على شهادة جامعية من الجامعة السورية باختصاص لغة عربية في كلية الآداب قبل 55 عامًا قرر العمل بمهنة الآباء والأجداد بعيدًا عن شهادته الجامعية، فتفرغ قبل أكثر من نصف قرن لزخرفة أرضيات البيوت الدمشقية.
ومن خلال مهنته التي ورثها عن والده في تصنيع البلاط الضروري لإكساء أرضيات الغرف والصالونات والحمامات والمطابخ، فكان ومن خلال يده وخياله الفني الفطري يعمل على تصنيع بلاط متنوع لكل قسم من أقسام البيت، فهناك النوع المزخرف بأشكال فنية والرسومات لأرضيات الصالونات المخصصة لاستقبال الضيوف والجلوس، وهناك النوع الجميل الهادئ برسومات الورود لغرفة النوم، وهناك النوع الهندسي البسيط المتناوب لباقي أقسام البيت ولفسحته السماوية أو شرفته في حال كان منزلاً طابقيًا!
«الأمور تغيرت في السنوات الخمسين الأخيرة يا أستاذ؟!».. صرخة أطلقها العم أبو بدر متنهدًا متحسرًا على تلك الأيام الجميلة الغابرة التي كان يبرز فيها مواهبه الإبداعية بتصنيع البلاط ليحلّ مكانها في الوقت الحالي العمل الآلي، وليستغنى عن خيال صانع البلاط بواقعية (الكومبيوتر)، فهذا الأخير حلّ مكان العقل البشري في تصميم الرسومات والزخارف على البلاط، كما حلّت الآلة التي تنتج كل يوم آلاف البلاطات.
ومع ذلك فإن العم أبو بدر (الوحيد بين البلاطين السوريين الذي يصرّ على تصنيع الأنواع التراثية اليدوية من البلاط) يأبى أن يرضخ للكومبيوتر، وأن يتغلب هذا الجهاز الساحر عليه، فهو ورغم شيخوخته، ومن خلال ورشته في منطقة العمارة بدمشق القديمة يحاول تلبية طلبات بعض الزبائن بتصميم بلاط لمنازلهم بشكله اليدوي متحديًا الآلة والكومبيوتر التي ترك أمرهما لولده الشاب الذي يعمل معه في الورشة.
ويروي أبو بدر لـ«الشرق الأوسط» ذكرياته وعمله اليدوي مع مهنة البلاط: «لقد علمني والدي هذه المهنة منذ كان عمري 15 عامًا، وكانت ورشتنا قبل أربعينات القرن الماضي في شارع 29 مايو (أيار) بجانب بوابة الصالحية، وكانت هذه المنطقة عبارة عن بساتين؟! وبعد الاستقلال عن الفرنسيين طلبوا منا ترك المنطقة بقصد تنظيمها وافتتاح ورشنا في أمكنة أخرى، فقرر والدي افتتاح الورشة في شارع الملك فيصل بمنطقة العمارة، لقد كانت مهنتنا - يسهب أبو بدر شارحًا - يدوية بكل مراحلها، حيث لم تكن الكهرباء قد دخلت بعد لكل مناطق دمشق، وكانت المكابس التي تعمل بالضغط الدائري تدار باليد، وبسبب الجهد الكبير الذي كان يتحمله العامل، فقد تم تطوير هذه المكابس لتعمل من خلال ضغط المياه وبواسطة آلة تسمى (طرنبي)، التي تدور شوطين أو أكثر حتى تتشكل البلاطة الواحدة، وبعد ذلك تتم عملية جلي البلاطات المنتجة في الورشة وبشكل يدوي أيضًا بواسطة حجر أسود ورمل، وتُجْلَى على دف مُحزّزْ بخشب ويتم جلي 3 بلاطات، وينتقل العامل بينها ليفصلها فيما بعد فتكون البلاطات قد جليت وصارت جاهزة للبيع».
يبتسم أبو بدر قائلا: «لقد كان العامل، يحتاج ليوم كامل حتى ينتج 100 بلاطة، وكانت جميعها بمقاس واحد وهو 20 × 20سم».
ويتابع أبو بدر: «مهنتنا كانت تعتمد بشكل رئيسي على ذوق الحرفي وخياله وعلى قوته البدنية وعلى أمانته ولكن تغيرت الأمور حاليًا حتى في المواد الأولية، فالإسمنت مثلاً كان يأتينا من منطقة دمر غرب دمشق، وكنا نستخدم أيضًا الرمل النهري الذي كان يستخرج من نهر بردى في مناطق الشادروان والهامة ودمر غرب دمشق، ولذلك كانت البلاطات المنتجة تتميز بقوتها ومتانتها. أما الألوان الزاهية والمتميزة التي كانت تظهر في البلاط القديم، كالزهر والأزرق وغيرها والتي كانت تشد انتباه الناس، كنا نستورد خلطاتها من بريطانيا وألمانيا وبلجيكا حيث لم يعد أحد يستوردها حاليًا، وكنا نخلط هذه الخلطات مع الإسمنت حتى تتشكل الألوان الأخضر والأزرق والزهر والأسود وغيرها».
ولكن كيف كانت تتم عملية اختيار الرسومات وتشكيل وحدة البلاطات التي عادة ما تكون رباعية (أربع بلاطات موحدة المساحة - لتظهر وكأنها قطعة واحدة ولوحة فنية متكاملة عندما توضع على الأرضيات؟!، هنا تبرز مهارة الحرفي مصنّع البلاط.
ويوضح أبو بدر، حيث يحول المساحة الواحدة من البلاط إلى سجادة، وبالتالي تظهر أرضية الغرفة أو الصالون وكأنها سجادة مزخرفة في وسطها رسومات أو زخرفة لشكل بحرة أو زهرة أو لأشكال هندسية معينة كالمعين والمربع والمثلث، وكذلك هناك رسومات وزخرفة الخيط العربي والتاج والبحرة وغير ذلك من النقشات، كواحدة تسمى مشقفة التي تحتاج لـ49 مزيجًا لونيًا توضع في فراغات البلاطة الواحدة، وكانت تُستخدم في تزيين أرضيات صحن المساجد والبحرات.
يرفع أبو بدر صوته متحديًا، معلنًا أنه لن يرفع الراية البيضاء تجاه غريمه الكومبيوتر: «ما زلت أعتمد النقوش التراثية والعمل اليدوي وأتحدى أي كومبيوتر أن يأتي بمثلها».
أقدم بلاطي سوريا.. يعتمد التراث والعمل اليدوي ويتحدى «الكومبيوتر»
محمد قضماني: مهنتنا تعتمد على ذوق الحرفي وخياله وعلى قوته البدنية
أقدم بلاطي سوريا.. يعتمد التراث والعمل اليدوي ويتحدى «الكومبيوتر»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة