«دار المعارف» المصرية تحتفي بمرور 125 عامًا على إنشائها

لعبت دورًا مهمًا في نشر الثقافة والتنوير بالعالم العربي

«دار المعارف» المصرية تحتفي بمرور 125 عامًا على إنشائها
TT

«دار المعارف» المصرية تحتفي بمرور 125 عامًا على إنشائها

«دار المعارف» المصرية تحتفي بمرور 125 عامًا على إنشائها

بوصفها إحدى أهم وأقدم دور النشر العربية احتفلت «دار المعارف» المصرية مساء أول من أمس (الأحد) بمرور 125 عامًا على تدشينها، على أيدي اللبناني نجيب متري عام 1890، حيث لعبت خلالها دورًا مهمًا في نشر الثقافة والتنوير في العالم العربي من خلال طبع آلاف المؤلفات لكبار الكتاب.
تضمنت فعاليات الاحتفال، الذي شهده وزير الثقافة المصري حلمي النمنم ومسؤولون عرب، افتتاح «متحف نجيب متري» مؤسس الدار، وافتتاح «مركز زايد للنشر الإلكتروني». وتكريم كثير من رموز الثقافة العربية، منهم وزير الثقافة والشباب وتنمية المجتمع الإماراتي نهيان بن مبارك آل نهيان، وسفير لبنان في القاهرة الدكتور خالد زيادة، والمدير العام لـ«مكتبة الكويت الوطنية» كامل العبد الجليل، ورئيس دار الأوبرا المصرية إيناس عبد الدايم.
وقد وجه النمنم التهنئة والتحية لاستمرار «دار المعارف» في رسالتها طوال هذه الفترة الزمنية، والتي تعكس إصرار أبناء المؤسسة العريقة على التعاون من أجل رسالة سامية وهي نشر المعرفة، مضيفًا أن هناك ثلاثة ملامح رئيسية لهذه المؤسسة، وهي أنها تأسست بجهد فردي، وأيضًا جهد عربي مشترك كما هي الحال مع «دار الهلال» و«مؤسسة اﻷهرام»، إلى جانب أنها بدأت في شكل مطابع، أي بوصفها مشروعًا اقتصاديًا.
وأوضح أن هذه المؤسسات لعبت دورًا كبيرًا أثناء الاستعمار البريطاني، حيث عملت على النهوض بالوعي الثقافي المصري والعربي في مواجهة الاحتلال.
وأثنى النمنم على التعاون العربي المشترك، متمثلاً في «مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان» بدولة اﻹمارات العربية، على التعاون لتأسيس «مركز زايد للنشر الإلكتروني».
كما عبّر السفير اللبناني في القاهرة عن سعادته بالمشاركة، مؤكدًا النهضة الثقافية العربية، نتيجة تعاون مشترك بين مصريين ولبنانيين وشوام، وقصة متري تلخص هذه العلاقة، وكان من نتائجها «دار الهلال» و«دار المعارف» و«مؤسسة الأهرام»، موضحًا أن النهضة الثقافية العربية تحتاج إلى مواكبة العصر ومتطلباته.
من جانبه، قال سعيد عبده، رئيس مجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، إن المؤسسة من أقدم المؤسسات في الوطن العربي، وساهمت في نشر الثقافة على المستوى العربي، كما كان لها السبق في نشر ثقافة الطفل من خلال السلاسل والإصدارات الخاصة بالطفل وآدابه، مشيرًا إلى أنه لمواكبة العصر تم افتتاح «مركز زايد للنشر الإلكتروني» بالتعاون مع «مؤسسة زايد». وأكد أحمد شبيب الظاهري، مدير عام «مؤسسة زايد» في الإمارات العربية المتحدة، أن هناك اتفاقًا بين وزارة الثقافة والشباب الإماراتية و«مؤسسة دار الهلال» على نشر مائة كتاب كل عام، إضافة إلى إنشاء «مركز زايد الإلكتروني» الذي يساعد على نقل الكتاب الورقي إلى إلكتروني ليصبح متاحًا للجميع.
وأعقب جلسة الافتتاح ندوة بعنوان «دار المعارف: 125 عامًا في خدمة الثقافة العربية» تحدث فيها الدكتور محمد صابر عرب، أستاذ التاريخ المعاصر ووزير الثقافة الأسبق، ويعقوب الشاروني، الكاتب المتخصص في أدب الأطفال، والدكتور نصر عارف، مستشار وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في دولة الإمارات العربية المتحدة.
كما عرض خلال الاحتفالية فيلم تسجيلي عن تاريخ الدار ونشأتها وإسهاماتها في تاريخ الثقافة العربية. وتم إطلاق كتاب تذكاري بعنوان «دار المعارف: 125 عامًا من الثقافة»، وهو أول كتاب يوثق لتاريخ «دار المعارف» وتاريخها منذ تأسيسها عام 1890، مرورًا بتأميمها عام 1963، وصولاً إلى المرحلة الحالية من تاريخها. كما عرض الكتاب تفصيلاً تاريخ الدار في النصف الأول من القرن العشرين، ويركز الضوء على الدور الذي لعبه صانع نهضتها الكبرى الرائد اللبناني شفيق نجيب متري.
وكان متري قد أنشأ الدار عام 1890 باعتبارها مطبعة تجارية في الطابق الأرضي من منزل كبير كان يحمل رقم «70» بشارع الفجالة (اشتهر آنذاك بشارع المطابع). وفي عام 1910 حدث تطوير لـ«دار المعارف للطباعة» بأن أصبحت «دار المعارف للنشر»، وتم ذلك بعد استئجار دكان في المنزل نفسه السابق وجعلته «مكتبة دار المعارف».
وفي عام 1953 تغير ترقيم العقارات بشارع الفجالة فأصبحت تحمل رقمها الحالي، وهو رقم «9» شارع الفجالة، وهو حاليًا أحد فروع «دار المعارف». ومع زيادة أعمال نشر الكتب بـ«دار المعارف» قامت ببناء المبنى الحالي، حيث انتقلت إليه في 1 مارس (آذار) 1950، وكان آنذاك يحمل رقم 5 شارع ماسبيرو. وفيما بعد تغير اسم الشارع ورقم العقار ليصبحا باسمها الحالي، وهو رقم «1119» طريق كورنيش النيل، بجوار مبنى الإذاعة والتلفزيون.
وفي عام 1963 جرى تأميم كثير من المنشآت العامة ومن ضمنها «دار المعارف». حاليًا يوجد لـ«دار المعارف» 21 فرعًا في الجمهورية تقوم بعرض وبيع كل إصدارات «دار المعارف». وأثرت الدار المكتبة العربية بالنشر لكثير من كبار الكتاب أمثال طه حسين، وتوفيق الحكيم، والمازني، ومحمد مندور، وإبراهيم ناجي، وأحمد حسن الزيات، وعائشة عبد الرحمن، وشوقي ضيف، وأحمد مستجير. كما أنها الوحيدة التي سمحت لكل الأطياف والألوان السياسية بالنشر في مطابعها، بما في ذلك كتاب الأصولية والسلفية والماركسية والشيوعية.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)