الممثلة جين فوندا تفتح قلبها بعد حياة زاخرة بالتجارب

عمري الآن 78 سنة ولأول مرة أعرف من أنا

مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
TT

الممثلة جين فوندا تفتح قلبها بعد حياة زاخرة بالتجارب

مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا
مع هارفي كايتل في «شباب»، و جين فوندا

في عام 1978 نالت الممثلة جين فوندا أوسكارها الأول (من اثنين)، وذلك عن دورها الأول في «العودة للوطن» Coming Home. هو واحد من أفضل أفلامها والسيناريو الذي كتبه والدو سولت وروبرت س. جونز عن رواية لنانسي داود كان من بين أفضل السيناريوهات التي آلت إليها لتمثيلها. ذلك الفيلم كان أيضًا أكثر من إنجاز فني جيد.
كان تعبيرًا عن السياسة السائدة في هوليوود، كما في واشنطن. كانت السينما شهدت عدّة أفلام تناولت الحرب الفيتنامية، كحال هذا الفيلم. جين فوندا بدورها كانت أحد أكثر المنتقدين للسياسة الأميركية. مخرج الفيلم هال أشبي كان يساريًا. مدير تصويره أكسل وكسلر كان مثله. الوحيد الذي يبدو اليوم تحت علامة تعجّب هو الممثل جون فويت الذي لعب هناك دور المجنّد الذي عاد من الحرب مقعدًا تقع فوندا في حبّه. فويت لاحقًا من أكثر ممثلي هوليوود تطرّفًا صوب اليمين. هل كان عكس ذلك آنذاك؟
في كل الأحوال، كان «العودة للوطن» أحد أفضل وأهم أفلامها كممثلة. قبله نالت أوسكار واحدًا عن دورها في فيلم يبحث في خفايا الصلة بين أصحاب السُلطة وبين بائعات الهوى عنوانه «كلوت» (لالان ج باكولا) ورشحت عن دورها في «جوليا» سنة 1977 لكن الثائرة السياسية الأخرى، فانيسا ردغراف، هي من فازت عنه بأوسكار أفضل ممثلة مساندة.
كل هذا يقبع في ماضي ممثلة تقول إنها احترفت التمثيل لسببين: كانت تبحث عن عمل، ووالدها (هنري فوندا) كان ممثلاً بدوره. لاحقًا، ميّزت بحضورها الفني والسياسي مندمجين، الحقبة الفنية والسياسية ذاتها.
انطلقت في الستينات وتبوأت الشهرة سريعًا وأصبحت نجمة أولى حتى الثمانينات. في أواخرها توقفت عن العمل وتحوّلت إلى ربة بيت ومؤلفة كتب. عادت إلى ما تيسر لها من أدوار في مطلع هذا القرن وحاليًا نراها في «شباب»، الفيلم الذي تم افتتاحه في مهرجان «كان» ويُعرض حاليًا في الصالات الأميركية.

* دورها الوحيد
- ما المختلف بين أداءاتك بالأمس و أداءاتك اليوم؟ أو هل هي مسألة فترات زمانية؟
- هناك الكثير مما هو مختلف، وربما ليس في الطريقة التي أمثل بها، بل في الخبرة التي تكوّنت لدي وجعلتني، ربما، أكثر تركيزًا في عملي على الجوهر وليس على الشكل. طبعًا أنا أكبر سنّا وقد يبدو هذا الكلام تحصيلاً، لكن المسألة ليست كلها مسألة فترات زمنية، كما ذكرت، بل هي أيضًا ما تستطيع الخروج به من تجاربك.
- وما هذه الخبرات تحديدًا؟
- كل الخبرات التي تتأتى عن طريق التعامل مع ممثلين آخرين ومخرجين مختلفين. تجلس وتستمتع وتراقب وتمثل. هذا مهم. لكني سأصارحك. لم أكن في بداية مهنتي مكترثة جدًا بما أقوم به. لجأت إلى التمثيل لأني طردت من وظيفتي الأولى كسكرتيرة (تضحك).
- هل استفدت من حقيقة أن والدك كان الممثل هنري فوندا؟
- ربما من حيث لا أعلم. ما أعرفه هو أنه عندما تكون ابنًا لممثل كبير، تجد نفسك منجذبًا إلى المهنة التي يقوم بها. وهذا ما وجدت نفسي عليه.
- انطلقت في الستينات. وأحد أفلامك الأولى كان «سر في الطرف المتهور» (Walk on the Wild Side) وملصق الفيلم حمل صورتك في تقليد لبعض نجمات هوليوود في الخمسينات. هل تأثرت بأحد منهن؟
- غريب أنك تذكر الملصق.
- نظرت إليه هذا الصباح.
- (تضحك) كنت أحب وما زلت كاثرين هيبورن، لكن الملصق لا يوحي بذلك.. أعلم. لا أدري كيف أجيب عن سؤالك. كان علي أن أنظر إليه أيضًا.
- مثلتِ مع كاثرين هيبورن لاحقًا في مهنتك.. سنة 1980 أو 1981.
- نعم. كنا في فيلم «على البحيرة الذهبية».
- هو الدور الوحيد بينكما والدور الوحيد بينك وبين والدك أيضًا. أليس كذلك؟
- نعم، في الحالتين. الوحيد بيني وبين هيبورن والوحيد بيني وبين والدي. لكن سبق أن عرض علينا العمل معًا قبل ذلك ببعض السنوات. كان هناك مشروع سيجمعنا لكني أعتقد أنه لم يثر حماس والدي كثيرًا.
- كيف تصفين اللقاء بينكما. شقيقك بيتر كرر القول إن والدكما كان لا يستطيع التعبير عن عاطفته. هل هذا صحيح؟
- صحيح، لكن هذا لا يعني أنه كان خاليًا من العواطف. بعض الرجال هكذا. يختزنون في دواخلهم الانفعالات والأحاسيس ولا يدرون كيف يعكسونها. لكن والدي كان رقيقًا جدًا.
- هل صحيح أنه بكى خلال تصوير الفيلم على نحو مفاجئ؟
- نعم. صحيح. كان المشهد يتطلب أن أمسك بيده. إنه المشهد الذي يحتوي على محاولة تواصل بيننا، وكان علي أن أمسك بيده لأعبر عن حبي له. أعتقد أن العاطفة اجتاحته فبكى ولم يكن من المتوقع له أن يبكي. شاح بوجهه بعيدًا، لكن المخرج (مارك راندال) استخدم المشهد بكامله.

* شعلة من الموهبة
كما تذكر، كان «على البحيرة الذهبية» هو الفيلم الوحيد بينهما، لكن علاقتها بوالدها تطوّرت بسبب الفيلم حتى وفاته. في خلال هذه الفترة كانت هوليوود بدأت تختلف عما كانت عليه ونتيجة ذلك غيابها عن الشاشة من عام 1989 حتى عام 2001. أي من فيلم «ستانلي وآيريس» أمام روبرت دي نيرو إلى أن عادت بفيلم «عصابات» (Bandits) أمام بروس ويليس وممثلة غير معروفة في تلك الأيام اسمها كايت بلانشيت.
- حين نتحدث عن الاختلاف بين جين فوندا آنذاك وجين فوندا اليوم هل توافقين على أن المختلف ليس فقط الممثل بل كل ما يتعلّق بالعمل السينمائي؟
- (بلا تردد) نعم أوافقك تمامًا. الفترة التي قررت فيها الغياب عن التمثيل كانت الفترة التي وجدت أن هوليوود ابتعدت عن نظام كان يعمل لصالح الممثل والمخرج إلى نظام يعمل فقط لصالح المنتج. هو صاحب العقد والكلمة الأولى.
- ماذا تقولين في نجوم اليوم إذن.. هل بينهم من يستحق الشهرة التي كانت لنجوم الأمس؟
- هل تمزح؟ بالطبع. خلال الأيام الماضية كنت على لقاء دائم مع كايت بلانشيت جنيفر لورنس وكيت وينسلت وكاري موليغان. كل واحدة منهن هي شعلة من الموهبة. ما تغير ليس الممثل على الإطلاق. النظام هو الذي تغير، كما قلت. في السبعينات وحتى مطلع الثمانينات كان الاستوديو يسهر على دعم ممثله. هو الذي يجعل الممثل نجمًا. هذا تغير. لكن الموهبة ما زالت موجودة.
- تعلمين أن المسألة كانت الصراع على النفوذ. في الستينات والسبعينات كان المخرج يمسك بزمام الأمور الفنية. الكلمة له. المنتج كان يلبّي حاجاته في الغالب. بعد ذلك تغير الوضع. حين النظر إلى المخرجين الذين تعاملت معهم في تلك الفترة مثل سيدني بولاك وهال أشبي وفرد زنيمان وألان باكولا، هل ترين فارقًا كبيرًا؟
- بطبيعة الحال. وأعتقد أنك أجبت عن السؤال بنفسك. المخرج كان كل شيء وهذا يريح الممثل ويساعده دائمًا. يتعلم الممثل من المخرج طوال الوقت ويؤلف خبراته من العمل معه عن كثب. المخرجون الذين ذكرتهم كان لديهم الوقت للاستماع إلى ممثليهم. كانوا يحبون النقاش ولديهم الوقت. لا أدري ما الحال عليه اليوم.

* في السياسة
جين فوندا في ذلك الحين كانت تتمتع بشهرة مزدوجة. هناك معجبون بها وبجمالها وبأدائها، كما كان هناك الذين يكرهون مواقفها السياسية. في أحد تلك المواقف عبّرت عن مدى تأييدها لفيتنام الشمالية. كان ذلك جزءًا من مواقفها السياسية المناهضة للمؤسسة السياسية التي عادت عليها بالكثير من الانتقاد. والتهمة الجاهزة كانت في أنها يسارية متطرفة.
- كلنا نعرف أنك كنت من بين الممثلين الليبراليين في هوليوود وربما ذهبت إلى حيث لم يذهب أحد سواك تأييدا للطرف المناوئ لسياسة بلاده. لكن هوليوود لم تتصرف معك بعداء. خلال تلك الفترة كنت تداومين الظهور في السينما. لماذا؟
- الأمور كانت غامضة إلى حد كبير آنذاك. موقفي كان يترجم إيماني بقضية إنسانية. أنا ضد الحرب. أي حرب. وبلادي كانت في واحدة منها تهاجم بلدًا بالكاد يستطيع أن يدافع عن نفسه. هذا كان موقفي. هوليوود كانت تعرف ذلك لكنها ولا تزال ليبرالية كفاية بحيث لا تمنع الممثل عن التعبير عن رأيه. لا تستطيع.
- متى بدأ توجهك السياسي فعليًا؟
- أحد الأفلام الأولى التي جعلتني أبدأ بالتفكير سياسيًا كان «أعناب الغضب» الذي قام والدي بتمثيله. هل تذكره؟ الفيلم الذي يصوّر حياة الشقاء بالنسبة للمزارعين الأميركيين خلال سنوات اليأس الاقتصادي. والدي كان الشاب الذي يواجه الظروف المعيشية الصعبة وينشد غدًا أفضل.
- كانت هناك أفلام ذات مضامين سياسية أخرى مثلها والدك مثل «حادثة أوكسبو» و«اثنا عشر رجلاً غاضبًا».
- والدي لم يتحدث عن هذه الأفلام كثيرًا. لكنها بالنسبة لي كانت مصدرًا لأفكاري الراديكالية.
- لكن لديك عددًا لا بأس به من الأفلام المشابهة. أتحدث عن «المطاردة» و«يقتلون الجياد، ألا يفعلون؟» و«كلوت» وبالطبع «كل شيء على ما يرام» لمناوئ آخر هو جان - لوك غودار.. هل أنت من بحثت عن هذه الأفلام أو هي التي قصدتك؟
- سؤال جيد. أعتقد قدرًا قليلاً من هذا وذاك. كنت أحب مثل هذه الأدوار، لكني لم أكتفِ بها. مثلت أيضًا «بارباريللا» و«حافية في الحديقة» و«الطائر الأزرق».. مجموعة كبيرة من الأفلام غير السياسية. وأحببتها جميعًا. ربما فضلت بعضًا على بعض آخر لكني أردت تمثيلها كلها.
- وهناك «العودة للوطن» لهال أشبي.. أيضًا ضد الحرب.
- صحيح.
- ما قضيّتك الرئيسية اليوم؟
- القضية الأساسية عندي الآن والمشكلة الرقم واحد هي ما نواجهه من خطر التغيير المناخي. لأنه إذا لم نتدخل لفعل شيء حقيقي، فإن مناطق من هذا العالم لن تصبح أماكن يمكن العيش فيها. ليس هناك الوقت لكي نفكر. علينا أن نبادر الآن. إذا كنت تقصد الحروب الدائرة في أكثر من مكان حول العالم… إنه الزمن. الناس لا تشيخ وحدها. الزمن يشيخ أيضًا. ليس هناك جديدًا في هذا الموضوع. إن لم تكن الحرب هنا فهي هناك أو في أي مكان آخر. لا أود حقيقة الحديث في هذا الموضوع.

* شباب دائم
الموضوع الذي تتحدث فيه جين فوندا أكثر من سواه هذه الأيام هو موضوع اشتراكها في تمثيل فيلم «شباب» للمخرج الإيطالي باولو سورنتينو: العنوان مثير للاهتمام بحد ذاته كونه يتمحور حول رجلين فاتهما الشباب هما مايكل كاين (82 سنة) وهارفي كايتل (76 سنة). إلى جانبهما وفي مشهد أو اثنين جين فوندا (78 سنة). ما يتحدّث عنه الفيلم هو تلك التبعات التي تتوالد مع التاريخ. الشهرة التي يتبوأ بها الفنانان، كاين الذي يؤدي دور الموسيقار وكايتل الذي يؤدي دور المخرج. الأول على يقين من أن عليه التوقف عن العمل، والثاني على يقين آخر أن عليه المواصلة لأنه إذا توقف مات.
جين فوندا تؤدي دور الممثلة الأميركية التي تأتي لزيارة المخرج لكي تقول له إن يفيق من تهيؤاته، فهو لم يعد المخرج الذي كان الناس تنتظر أفلامه وليس الفنان الذي يقدر النقاد ما يقوم به هذه الأيام. تسأله أن يستيقظ من غيبوبته المعاشة.
- هذه مواجهة قاسية. هل هوليوود بهذه القسوة؟
- هي قاسية بالفعل. الزمن قاسٍ أكثر. هناك الكثيرون من المخرجين الذين يعتقدون أنهم ما زالوا محور الاهتمام. نسبيًا ما أقوله في الفيلم ينطبق على آخرين، لكني في الواقع لست المرأة الساخرة ولا القاسية. ودعني أقل لك شيئًا، لقد وجدت أن وجودي في فيلم عنوانه «شباب» هو أمر مثير للاهتمام. الشباب هو روحك وليس جسدك. لقد قابلت خلال قيامي بوضع كتابي عن سنين العمر نساء تجاوزن المائة سنة من العمر، ووجدتهن أكثر شبابًا من كثيرات في العشرينات والثلاثينات من العمر التقي بهن في حياتي اليومية.
أنا نفسي كنت عجوزا وأنا ابنة الثلاثين. لماذا تعتقد أنني في سن التاسعة والأربعين وجدت أنني أفلست. لم يعد لدي أي شيء أقوله. أنا الآن شابّة من جديد. هناك شعر لتي إس إليوت لا أحفظه كما كُتب لكنه يقول إننا نمضي الحياة مكتشفين حتى نصل إلى سن متقدّمة لنجد أننا عدنا إلى بداياتنا. أنا الآن كذلك. عمري 78 سنة ولأول مرّة أعرف من أنا.
- متى شاهدت «شباب» وما كان رأيك به؟
- شاهدته وأنا في روما في ربيع هذه السنة. لم يكن باولو انتهى من العمل عليه، لكني أحببته كثيرًا. وجدته يوافق أفكاري.
- في هذا الفيلم كنت بصحبة ممثلين من جيلك تقريبًا. هل تفضلين العمل مع ممثلين من جيلك أو مع ممثلين أصغر سنًا؟
- كما ذكرت لك لم أستمتع بالتمثيل حين كنت أصغر سنًا. لاحقًا طبعًا، لكني في البداية لم أكترث كثيرًا. كنت أبحث عن عمل واتجهت إلى التمثيل. المسألة هي أنني مثلت آنذاك مع ممثلين من عمري ولاحقًا مع ممثلين أصغر مني ثم في هذا الفيلم مع ممثلين من جيلي. لا أستطيع إلا أن أقدر كل هذه التجارب لأن الموهبة هي الأساس وهي منتشرة بين كل الأجيال. سعدت كثيرًا أنني كنت في فيلم واحد من هارفي كايتل ومايكل كاين. هذا وحده مدعاة للسعادة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)