طرابلس تنفض عنها صفة «قندهار» وتضيء شجرة الميلاد لأول مرة منذ 9 سنوات

تحتفل بالمولد النبوي وميلاد المسيح بالمسيرات والمدائح

زينة المولد النبوي على مدخل  طرابلس
زينة المولد النبوي على مدخل طرابلس
TT

طرابلس تنفض عنها صفة «قندهار» وتضيء شجرة الميلاد لأول مرة منذ 9 سنوات

زينة المولد النبوي على مدخل  طرابلس
زينة المولد النبوي على مدخل طرابلس

للمرة الأولى منذ تسع سنوات تعود مظاهر أعياد الميلاد إلى طرابلس، وتزدان الشوارع بالأشجار المزينة، وتكتسي المحال التجارية بحلة العيد، وزاد الأجواء بهجة أن اختلطت الاحتفالات بعيد المولد النبوي الشريف مع ميلاد السيد المسيح في يومين متتاليين. المدينة مختلطة في الأصل، يقطنها سكان مسلمون ومسيحيون، جارت على الفئة الأخيرة، الحرب الأهلية اللعينة بعد اندلاعها عام 1975. وهجرت الكثيرين منها. عادت الحياة إلى المدينة مع توقف الحرب الأهلية، واستتباب السلم الأهلي عام 1992 لتشهد انتكاسة كبيرة عام 2007. وبدء حرب شرسة بين منطقتين في ضاحيتها الشمالية، هما باب التبانة، ذات الغالبية السنية، وجبل محسن بغالبية علوية. واستمرت هذه المعارك في جولاتها الدامية، التي زادت على العشرين، موقعة مئات القتلى والجرحى، طوال ثماني سنوات لتضع أوزارها في أبريل (نيسان) عام 2014. في ذلك التاريخ، اتخذ قرار سياسي بإنهاء حرب دمرت الحياة الاقتصادية في المدينة وزادت أهلها فقرًا وعوزًا.
مع نهاية عام 2013 كان الاحتفال بعيد الميلاد في المدينة المختلطة، أشبه بتحدٍ يكافح من أجله بعض أهلها ليثبتوا انتصارهم على قوى التطرف التي تريد أن تفرض شروطها على السكان. وقد انتصبت في ذلك العام شجرة ميلاد يتيمة على مستديرة مستشفى النيني، وسرعان ما تعرضت للاعتداء. واضطرت السلطات لأن تفرز لها فرقة من الدرك تحرسها ليل نهار، من أذى من يرفضون العيش المشترك، ويصرون على فرض نمط الصيغة الواحدة.
اليوم، وبعد عام ونصف على انتهاء المعارك، وعلى مستديرة مستشفى النيني نفسها، عادت الشجرة مضاءة، من دون حراسة أو تهديدات هذه المرة، وكتب إلى جانبها بحروف مشعة: «ولد الهدى فالكائنات ضياء» احتفاء بعيد المولدين معًا. يختلط، هذه الأيام الاحتفالان الإسلامي والمسيحي إذن، حد التمازج، ودعت «الجامعة اللبنانية»، كلية الآداب في طرابلس، مفتي طرابلس والشمال مالك الشعار، ليقيم محاضرة بالشراكة مع مطران طرابلس للموارنة جورج أبو جودة، تحدثا خلالها، أمام طلاب الكلية عن التسامح الذي يدعو إليه الدينان، وتاريخ العلاقات الإسلامية المسيحية.
من مدخل طرابلس في ساحة النور وصولاً إلى «قصر الحلو» لمحلات عبد الرحمن الحلاب، وانتهاء بمستديرة الميناء، وكذلك من هذا المدخل الرئيسي لطرابلس وعلى طول شارع المعرض، انتصبت أشجار الميلاد المزدانة وهي تختلط بزينة المولد النبوي. شجرات كثيرة احتفت بها طرابلس لميلاد المسيح، وأضاء البعض الشجرات التي أمام المبنى الذي يقطنه إعلانًا عن مشاركتهم العيد، وإيمانهم بالعيش المشترك.
المراكز الثقافية مثل «مركز العزم» في «بيت الفن»، أضاء شجرته وأقام احتفاله، وكذلك «مركز الصفدي الثقافي»، كان له برنامجه الفني الميلادي وشجرته، وتوزعت الأشجار المنارة في الشوارع والمقاهي والمطاعم وأمام المؤسسات.
واحتفالا بالمولد النبوي، جابت مواكب كبيرة للنوبة الصوفية شوارع المدينة التف حولها المواطنون مشاركة وبهجة، ووزعت الحلوى والعصائر والمناقيش في شوارع طرابلس. كما سارت فرق الكشافة في وسط المدينة تعزف موسيقاها، وأقامت الكثير من الجمعيات حواجز للمحبة، ووزعت الحلوى على المارة. وسمعت أصوات المفرقعات في كل ناحية. واحتفاء بالأعياد زار طرابلس عدد من أطفال لبنان من مختلف المناطق، وأقيم لهم حفل عامر، وزعت خلاله الهدايا.
بعد تسع سنوات من سيطرة المتطرفين والمتشددين، نفضت طرابلس عن نفسها عناوين مؤلمة، حيث أطلق عليها البعض اسم «قندهار» وأعلنت مجتمعة، أن مسلميها ومسيحييها، قادرون على الاحتفال معًا، بصوت واحد ويوم واحد أيضا، ولو اختلفت المناسبة.



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».