تشديد من الأمم المتحدة على أهمية المساواة في احتفالها بـ {يوم المرأة الدولي}

نساء لبنان يتظاهرن في المناسبة للمطالبة بحمايتهن من «العنف الأسري» * شيرين وناهد.. تتحديان الإعاقة وقيود المجتمع في مصر

أم محمود لاجئة سورية تغسل أواني الطهي في مخيم الزعتري في بلدة المفرق الأردنية (رويترز)
أم محمود لاجئة سورية تغسل أواني الطهي في مخيم الزعتري في بلدة المفرق الأردنية (رويترز)
TT

تشديد من الأمم المتحدة على أهمية المساواة في احتفالها بـ {يوم المرأة الدولي}

أم محمود لاجئة سورية تغسل أواني الطهي في مخيم الزعتري في بلدة المفرق الأردنية (رويترز)
أم محمود لاجئة سورية تغسل أواني الطهي في مخيم الزعتري في بلدة المفرق الأردنية (رويترز)

سلطت الأمم المتحدة الضوء على الصلة التي تربط بين تحسن حال المرأة وتقدم المجتمع بصفة عامة، وذلك بمناسبة اليوم الدولي للمرأة. ورحبت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، التي ألقت كلمة في الحدث احتفالا باليوم الدولي للمرأة، بالتقدم الحاصل حتى الآن، مشيرة إلى أن عدد الفتيات اللائي يلتحقن بالمدارس وعدد النساء اللواتي يشغلن مناصب عامة زاد عن أي وقت مضى.
وقالت كلينتون «عندما تزدهر النساء والفتيات، يزدهر المجتمع برمته». وأضافت أن «أيا من دول العالم لم تحقق المساواة الكاملة بين الجنسين، وحثت هذه الدول على احترام حقوق المرأة، واصفة الوقت الحالي بأنه «نقطة محورية في هذا النضال».
وقال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون إن «تقدم المرأة يساهم في تقدم المجتمع ككل».
وأضاف «الدول التي تشهد مستويات أعلى من المساواة بين الجنسين تتمتع بنمو اقتصادي أكبر.. والشركات التي تضم عددا أكبر من النساء في مجالس إدارتها تحقق عائدات أعلى. واتفاقيات السلام التي تضم نساء تكون أكثر نجاحا».
ويوافق يوم السبت اليوم العالمي للمرأة الذي يتم الاحتفال به منذ عام1909 في الولايات المتحدة. وبحلول عام 1911، امتد الاحتفال بهذا اليوم إلى النمسا والدنمارك وألمانيا وسويسرا، ثم إلى دول أخرى.
وفي إسبانيا شهدت الكثير من المدن خروج مظاهرات نسائية الإسبانية الذي تحتفل به إسبانيا باعتبار «يوم المرأة العاملة» للمطالبة بالمساواة التامة وبالحد من العنف ضدهن. وقد جاء في أحدث دراسة حول العنف ضد النساء في إسبانيا، بأن 22 في المائة من الإسبانيات تعرضن في حياتهن للعنف أو للتحرش الجنسي. وقالت بلانكا تاببيا، المتحدثة باسم الوكالة الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي، إن «13 في المائة من حوادث الاضطهاد تجري على يد الزوج أو الخطيب، كما أن 33 في المائة من الإسبانيات تعرضن للاضطهاد النفسي، و11 في المائة تعرضن للتحرش الجنسي قبل أن يبلغن الـ15 من العمر، وأن 16 في المائة منهن تعرضن للتحرش عن طريق اللمس».
وفي عمان أعلن رؤساء التحرير الصحف اليومية الأردنية الكبرى عن ترك مواقعهم لصالح صحافيات يشغلن رئاسة التحرير ليوم واحد.
خطوة اختيار إحدى الصحافيات كرئيسة للتحرير خطوة تكريمية للمرأة الأردنية بمناسبة يوم المرأة العالمي. وتحرص الصحافيات اللواتي يقع الاختيار عليهن لرئاسة التحرير في يوم المرأة العالمي على ممارسة دورها كرئيسة تحرير بالكامل في هذا اليوم، كما يحرص الصحافيين والصحافيات على التوجه إلى مكتب رئيس التحرير للتهنئة بهذا اليوم، وتناول «الحلوى» كتعبير عن الاحتفال بهذه المناسبة.
وتقول رانيا تادرس وهو جالسة على كرسي رئيس التحرير في صحيفة «الرأي» إنها «تمارس عملها كرئيسة للتحرير بالكامل وهي قامت بمنع نشر مقالة يومية لكاتب رئيسي في الصحيفة، كما طلبت من رسام الكاريكاتير عماد حجاج تغيير رسمته التي تنشر في الصفحة الأخيرة، وأن يكون الكاريكاتير عن واقع المرأة في الأردن».
وتشير في تصريحات إلى الشرق الأوسط إلى أنها اكتشفت أن رئيس التحرير في الأردن وخصوصا في صحيفة كبرى يجب أن يمتاز بدرجة كبيرة من «المجاملة» لكثرة الاتصالات التي يتلقاها من الشخصيات السياسية والمواطنين الذين يكون لديهم قضايا.
وترى تادرس أن الخطوة فيها نوع من التكريم للمرأة الأردنية ولكنها تلفت الانتباه إلى الحوار الدائر في مكتب رئيس التحرير ولذا تتعدد الآراء حول هذه الخطوة بين ما يراها خطوة تكريمية لدور المرأة الأردنية وبين من يتمنى أن يرى فعلا المرأة تتبوأ رئاسة تحرير صحيفة كبرى مثل «الرأي» أو «الدستور» التي تعاقب على رئاسة تحريرها الرجال فقط.
إحدي الصحافيات قالت إن «هذه الخطوة هي مجرد ديكور ولا تشكل أي قيمة إضافية للمرأة بل إننا نأتي هنا من باب المجاملة فقط».
رئيس تحرير صحيفة «الرأي» سمير الحياري الذي حضر إلى مكتب رئيس التحرير كمبارك في هذا اليوم، كان يحرص على الإعلان أن مسؤولية التحرير اليوم للزميلة التي اختيرت رئيسة للتحرير.
وأوضح أن الخطوة تكريما لدور المرأة في المجتمع، وأن المرأة الأردنية لديها القدرة على تبوء المواقع العليا. ويضيف أن المرأة الأردنية شريكة للرجل في التنمية والبناء، كما أن المرأة موجودة في الوزارة ومجلس النواب ومجلس الأعيان والأحزاب وأثبت قدرتها القيادية في جميع المواقع التي تسلمتها.
وفي بيروت سارت أكثر من ألفي امرأة ورجل، تقدّمهم أهالي النساء اللواتي قتلن نتيجة العنف الأسري، جنبا إلى جنب من أمام المتحف الوطني إلى قصر العدل في بيروت مطالبين في «يوم المرأة العالمي» بإقرار قانون حماية النساء في لبنان حيث يسجّل مقتل ما بين 12 و16 امرأة سنويا نتيجة العنف الأسري.
مطلب وإن كان المجتمع المدني قد أطلقه منذ نحو 5 سنوات، فإنّ تزايد عدد اللواتي قتلن على يد أحد من أقربائهن، ولا سيّما أزواجهن في الفترة الأخيرة، كان كفيلا بتحريك مشاعر اللبنانيين وضمائرهم، «على أمل أن لا يطول الوقت ليصل إلى ضمائر النواب ومشاعرهم»، وفق ما يقول سامر (39 عاما) حاملا شعار «أطالب بإقرار القانون ليحمي طفلتي من أي عنف قد تتعرضان له في المستقبل».
«أنا هنا لأنني تعرّضت للضرب والعنف أكثر من 8 سنوات قبل أن أتمكّن من الحصول على الطلاق. لكن رغم ذلك أنا على يقين أن إقرار القانون لا يعني في مجتمع مثل لبنان أنه قابل للتطبيق»، بهذه الكلمات تعبّر سيّدة أربعينية عن معاناتها مع العنف الأسري، رافضة الكشف عن اسمها. وتقول لـ«الشرق الأوسط» «أحببته وأنا في سن الرابعة عشرة، ووقفت في وجه أهلي إلى أن تزوجنا. كان عنيفا منذ البداية لكن حبي له جعلني لا أرى هذا العنف. عدد سنوات الزواج لا يعنيني ولا أذكر كم هي، ما أعرفه هو أنني حرّة منذ عشر سنوات، وإن كانت هذه السنوات الأليمة تؤرق أيامي».
تستعيد السيدة الثلاثينية ما كانت تتعرّض له من زوجها والمجتمع والقانون قائلة «ذهبت مرات عدّة إلى مركز للقوى الأمنية كل ما كانوا يقومون به هو نصيحتي بأن أعود إلى البيت، وهو الأمر نفسه والتفكير عينه لا يختلف في المجتمعات اللبنانية، التي تقف إلى جانب الجلاد وليس الضحية، من دون أن أنفي أنّ بعض أفراد العائلة وقفوا إلى جانبي ودعموني في قراري».
أما عن نصيحتها إلى ابنتها التي أصبحت الآن على أبواب الجامعة، فتقول «لا أنصحها بالزواج، وإذا قرّرت ذلك فسأدعمها ليكون خيارها صائبا وأقف إلى جانبها دائما».
من «ويل لأمّة تقتل نساءها باسم الشرف» و«حماية المرأة لا يحتاج إلى توازن طائفي» إلى «من الذكورية ما قتل» و«إذا قتلت أحدا تدخل إلى السجن.. إلا إذا كانت زوجتك».. وغيرها من الشعارات التي تحث على إقرار القانون. وهذه المقولات الشائعة عينها، التي لا تختلف في معانيها عن الممارسات العنفية التي تتعرض لها المرأة، كانت محور مسرحية قدّمتها فرقة «زقاق» على مدرج المتحف الوطني، حملت عنوان «ناس بسمنة وناس بزيت». وارتكز العرض على موكب عرس يتحوّل إلى مأتم، يروي حياة امرأة معنفة مصورا الأمثال الشعبية مدينا في الوقت عينه السلوكيات النمطية المتعلقة بالمرأة، وذلك بالاستناد إلى شهادات عدد من ضحايا العنف الأسري التي وثّقتها «منظمة كفى». واختار بعض المعتصمين أن يعبروا عن دعمهم لمطلب المرأة، بوسائل أخرى، فارتدى عدد من الشباب تنورة فيما حمل البعض الآخر، «طنجرة»، مرفقة بعبارة «للطبخ فقط»، في إشارة إلى السيدة منال عاصي التي قتلها زوجها منذ نحو شهر، مستخدما «طنجرة الضغط».
وكان تحرّك أمس الذي استقطب أكثر من ألفي شخص من مختلف الأعمار والطوائف، وشارك فيه عدد من الشخصيات السياسية والفنية والاجتماعية، ولاقى دعما وتغطية من الإعلام اللبناني، موجّها، وفق «منظمة كفى» الداعية له، إلى المجلس النيابي وتحديدا إلى رئيسه نبيه بري، لحثه على عقد جلسة تشريعية يكون فيها إقرار مشروع قانون حماية النساء من العنف السري بندا أساسيا بعيدا عن الخلافات السياسية والمحسوبيات.
وكانت المرأة اللبنانية قد حقّقت «انتصارا محدودا» مع وقف التنفيذ، في شهر يوليو (تموز) الماضي، بإقرار مشروع القانون في اللجان النيابية المشتركة بالإجماع بعد توسيعه ليشمل بقية أفراد العائلة، فيما لا يزال اللبنانيون بانتظار إقراره في مجلس النواب المعطلة جلساته، منذ تمديد البرلمان لنفسه، في شهر يونيو (حزيران) الماضي، وذلك، على وقع الحملات التي أطلقها المجتمع المدني بعد مقتل رلى يعقوب (31 عاما)، الأم لخمس فتيات، وإن كانت هذه التوسعة قد لاقت اعتراض «منظمة كفى» مطالبة بتخصيص النساء بالقانون منعا لنسف الفلسفة الحمائية لهن في المشروع، والتي تنطلق من أن الأطفال محميون بقانون الأحداث، فيما يستند الرجل إلى المنظومة الاجتماعية والذكورية والتشريعية والدينية والسياسية أيضا.
وقد شهد لبنان في الفترة الأخيرة جرائم أسرية، أدّت إلى مقتل عدد من النساء، كان آخرها، قبل يومين، إقدام شاب في منطقة «البسطا» في بيروت على قتل شقيقته طعنا بالسكين، وقبل أكثر من شهر بوفاة منال عاصي إثر إقدام زوجها على ضربها حتى الموت مستخدما «طنجرة الضغط»، وفق ما أكّد أهلها، وبعدها بأسابيع قليلة لحقت بها كريستيان أبو شقرا التي اتهم زوجها بقتلها مستخدما السمّ، وقبلها بأشهر عدّة رلى يعقوب، وغيرهن من النساء اللواتي يمتن نتيجة العنف بعيدا عن أي قانون سيؤدي إقراره إلى حمايتهن والحدّ بلا شكّ من هذه الجرائم.
وفي القاهرة لم يمنع فقدان البصر شيرين من تحقيق حلمها بالعمل، ولم تقف عادات المجتمع في مصر عائقا أمام ناهد التي لم تخجل من العمل في قيادة حافلة حتى تعول ابنتها بعد وفاة زوجها.
ومع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، أمس (السبت)، لا تزال المرأة المصرية تعاني من مشكلات في مجالات، من بينها العمل على الرغم من انتزاعها كثير من الحقوق على مدى العقود الماضية.
لكن هناك من قرر تحدي ذلك، ومن بينهن شيرين فتحي (32 عاما)، التي تعمل موظفة في الهيئة العامة للبترول.
وقالت شيرين، وهي كفيفة، إن كل ما تتمناه أن يحترم الناس إعاقتها، وألا يسيئوا استغلالها. كما عبرت عن أملها في أن تستغل الحكومة طاقات المعاقين الإنتاجية.
وأضافت شيرين وهي زوجة لمحام ضرير وأم لطفلين قولها لوكالة «رويترز»: «لم يتغير شيء للمعاقين قبل وبعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وأتمنى أن يهتم الرئيس القادم بنا».
وكانت تشير إلى الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس الأسبق حسني مبارك، في أوائل عام 2011، والرئيس السابق محمد مرسي المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين في منتصف عام 2013.
وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر فإن نسبة مشاركة المرأة في قوة العمل عام 2011 كانت 23.1 في المائة فقط، على الرغم من أنها تشكل 41 في المائة من إجمالي عدد الناخبين في البلاد.
ومن بين من قررن التحدي أيضا ناهد (52 عاما)، التي أصبحت سائقة لحافلة ركاب صغيرة في منطقة المقطم بشرق القاهرة. وتوفي زوجها قبل 21 عاما، وتركها بمفردها هي وابنتها الوحيدة التي لم يكن عمرها قد تجاوز 40 يوما. وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن نسبة المرأة المعيلة في مصر بلغت 16 في المائة في 2011.
وقالت ناهد لـ«رويترز»: «حلمي الوحيد كان أن أبقى سيدة منزل، وأن يبقى زوجي بجانبي ليرعاني».
لكن بعد وفاة الزوج كان لا بد من تدبير سبل الحياة، ولم تجد ناهد أمامها سوى بيع الملابس في الشارع، لكن هذا لم يكن كافيا، مما دفعها لشراء حافلة ركاب صغيرة.
وبعدما سبب لها السائقون الذين كانوا يقودون الحافلة كثيرا من المشكلات والحوادث، أقدمت ناهد على تعلم القيادة وأصبحت تقودها بنفسها.
ولم تسلم ناهد من مضايقات الركاب والسائقين، لكنها قالت إن رجال الشرطة يوفرون لها الحماية.
وتبدأ ناهد عملها في السادسة صباحا وبعد الانتهاء من العمل يكون لا يزال لديها الوقت للاعتناء بابنتها المطلقة وحفيدتها الرضيعة.
وقالت ناهد: «حلمي الآن أن يرزق الله ابنتي بابن الحلال مرة ثانية، وأن تصبح حفيدتي مهندسة».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)