لندن تغازل المتسوقين بلوحات فنية من خلف الزجاج

واجهات المحلات الكبرى تتنافس في موسم الأعياد

إحدى لوحات نوافذ «سيلفريدجيز»  الفنية بشارع أكسفورد المستوحاة من الأبراج الفلكية (جيمس حنا)
إحدى لوحات نوافذ «سيلفريدجيز» الفنية بشارع أكسفورد المستوحاة من الأبراج الفلكية (جيمس حنا)
TT

لندن تغازل المتسوقين بلوحات فنية من خلف الزجاج

إحدى لوحات نوافذ «سيلفريدجيز»  الفنية بشارع أكسفورد المستوحاة من الأبراج الفلكية (جيمس حنا)
إحدى لوحات نوافذ «سيلفريدجيز» الفنية بشارع أكسفورد المستوحاة من الأبراج الفلكية (جيمس حنا)

التسوق بالعاصمة البريطانية في منتصف ديسمبر (كانون الأول) - وقت موسم الأعياد - لا يصلح لأصحاب القلوب الضعيفة. فالبرد القارس وحشود «حجاج» التنزيلات ليسوا سوى جزء يسير من المشكلات التي يتعين على المتسوقين التعامل معها للعثور على هديتهم المثالية داخل واحد من المتاجر الكبرى بلندن. وتدفع تلك العوامل بعض الناس إلى ملازمة بيوتهم واللجوء للتسوق الإلكتروني. إذ كشف تقرير «أدوبي ديجيتال إندكس» لإحصاءات التسوق أن مواسم الأعياد تعتبر أكثر أيام العام إقبالا على التسوق عبر الإنترنت.
ولمنافسة هذه الظاهرة الجديدة، تسابقت متاجر لندن الرئيسية هذا العام بعرض تصاميم خيالية وبغاية الحرفية الفنية في نوافذ العرض لديها، لتحول اللون الرمادي الطاغي على عاصمة الضباب إلى كرنفال شتائي من الألوان البراقة. وتنوعت موضوعات واجهات المحلات هذا العام ما بين أفكار مستوحاة من رواية «ترنيمة عيد الميلاد» الشهيرة وأخرى من «رحلات غوليفر» وصولاً إلى أحدث أعمال المصممين العالميين، الأمر الذي جعل من نوافذ عرض المتاجر المزدانة في موسم أعياد الميلاد تقليدًا راسخًا يشبه تقليد تناول لحم الديك الرومي وتزيين شجرة عيد الميلاد.
ونظرًا لأنها أول ما يقع عين العميل عليه، فإن نافذة عرض المتجر ربما هي الحد الفاصل بين عميل يمضي في سيره وآخر يقرر الدخول إلى المتجر لمعاينة المنتجات عن قرب. وفي أحد أهم المتاجر اللندنية، مجمع «هارودز»، تبدأ التحضيرات لتزيين نافذة العرض خلال موسم الأعياد كل عام منذ يناير (كانون الثاني)، أي قبل موعد العرض بنحو 10 أشهر، ويتكفل بها فريق مختص مكون من 20 شخصا.
من جهته، أوضح رئيس شؤون التسويق البصري في متجر لندن لدى «هارودز»، ألكسندر ويلز غريكو في تصريحات صحافية، أن «(جيشًا صغيرًا) يتألف من خبراء بمجال التسويق البصري يتشاركون في الأفكار كي يغطوا (مجموعة متنوعة من الفئات) بدءا بالملابس ووصولاً لألعاب الأطفال».
وداخل المملكة المتحدة، حرصت متاجر عملاقة أخرى على اتباع النهج ذاته، مثل «هارفي نيكولز» و«سيلفريدجيز» و«فورتنوم آند ميسون».
وفي سابقة فريدة من نوعها، قرر متجر «سيلفريدجيز» بشارع أكسفورد عرض واجهاته لموسم الأعياد في أكتوبر (تشرين الأول) ليكون الرائد بين جميع متاجر التسوق. واستوحى «سيلفريدجيز» فكرة تزيين واجهته من الأبراج الفلكية. وقد بدأ المتجر العمل على التجهيز لتزيين نوافذ العرض في يونيو (حزيران) بمشاركة 500 موظف من فريق العمل على مدار 32 ساعة طوال لتحويل الأفكار المتفق عليها إلى لوحات فنية من وراء الزجاج لاستقطاب انتباه المتسوقين.
وجاءت النتيجة متمثلة في مشهد عام عصري للغاية يظهر تماثيل عرض ترمز كل منها لواحد من الأبراج ويحمل كل تمثال غطاء رأس مصمم مشهور.
وداخل أكبر نافذة عرض لدى المتجر بناصية أكسفورد ستريت وأوركارد ستريت، تحتل آلة تبين حركة الكواكب في المجموعة الشمسية.
من جانبه، قال المتحدث الرسمي باسم «سيلفريدجيز» في تصريح لصحيفة «ديلي ميل» البريطانية: «إننا محظوظون لأن غالبية المتاجر لا تملك مساحة بحجم نوافذ عرضنا، وليست هناك طريقة أفضل للاستفادة منها. إنها أقرب ما يكون لعمل فني، الأمر الذي يجتذب العملاء».
وأضاف: «يتمثل التحدي الرئيس في طرح شكل مختلف عن العام السابق، الأمر الذي قد ينطوي على صعوبة بالنظر إلى التاريخ الطويل لتزيين نوافذ العرض تبعًا لأفكار معينة».
جدير بالذكر، أن أولى نوافذ عرض مزدانة خصيصًا لعيد الميلاد قدمتها سلسلة متاجر «هارفي نيكولز» العريقة وظهرت في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. وهذا العام، ازدان متجر لندن في نايتس بريدج التابع للسلسلة بقرابة مليون رقيقة معدنية ملونة ومتلألئة و620 كرة عاكسة و540 لعبة صغيرة.
وحول لجوء المتاجر الكبيرة لتحويل واجهاتها إلى أعمال فنية، عوضا عن الاكتفاء بتزيينها فقط، أعربت ريبيكا ماركس، المستشارة لدى شركة «كونلومينو» لتحليل مبيعات التجزئة في تصريحات للإعلام البريطاني، عن اعتقادها أن التوجه السائد بآلية تزيين النوافذ حاليًا يتحرك بعيدًا عن النفعية التجارية الفجة. وأضافت في تصريحات لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي»: «نعاين اهتماما متزايدًا من قبل بائعي التجزئة بأسلوب العرض والإعلانات عما كان معتادًا من قبل، في محاولة لتعزيز التأثير العام لمجمل معروضاتهم في إطار الجو العام لرحلة عيد الميلاد السحرية». واستطردت موضحة، أن «العملاء ينجذبون بالتالي نحو المتاجر وما تحتويه من متعة، وبإمكان التجربة الفريدة من نوعها داخل متجر ما ليس دفع العملاء نحو الشراء فحسب، وإنما تحفيزهم نحو زيارات متكررة له».
البعض تمتع برونقها عند مروره في شوارع التسوق بالعاصمة، والآخر اختار الوقوف لتأملها وحتى التقاط صور «سيلفي» أمامها. كما انجذب مجموعة إلى داخل المتاجر متطلعين لاستكشاف ما تحمله تشكيلات موسم الأعياد من غرائب وتنزيلات. ومهما كانت النتيجة، نستطيع القول إن تلك الواجهات باتت جزءا لا يتجزأ من حلة تتزين بها عاصمة الضباب في أواخر كل عام.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)